محمود حمدون - خصوصية الموقف

آمنت مساء أمس أن لا أستاذية تدوم. لذلك خلعت قفطاني, ألقيت عمامتي في الهواء, ركنت حذائي خلف الباب, ثم هرولت حافي القدمين , حاسر الرأس إلى تلميذ كنت أدرّسه حتى أسبوع مضى, اليوم تنازلت عن مقعدي, أعطيت ظهري للفراغ بعدما كان يستند بثقة إلى عمود من رخام صلب, جواره كنت أخطب في القوم, أتيه فخرًا بينهم بما أملك من خبرة ومهارة تمكنّني من قراءة القلوب, مراوغة الحِسان. لكن لم يدر بخلدي يومًا أن أصبح تابعًا لأحدِ, أن أدور في فلك جرم سماوي آخر.

حين اقتربت من الزاوية, لمحت مُريدًا كان يتبعني كظلي, ينصت إليّ كلما تحدّثت ويهز رأسه طربًا لكلامي, لكن ذلك حتى وقت قريب. وجدته عصر اليوم ينتظرني, فلمّا رآني, هشّ وبشّ, ناداني أن أقبِل يا هذا! فلبّيت النداء, أسرعت إليه, كلّي رجاء أن يرفق بي, فالردّة شيء قبيح تكرهه النفس الأبيّة, غير أنه تجاهل توتري, أو لربما أسعده ذلك, فقد زعق دونما اعتبار لخصوصية الموقف, حرج اللقاء بخاصة مع التفاف جمهرة من المشايخ والطلّاب حولي, جميعهم أعرفهم حق المعرف, لكنه تجاهل كل ذلك وقال: أتعرف حقوق الأستاذ على تلميذه؟, أتدري ما يجب على التلميذ إزاء أستاذه, وما لا يجب؟!

قلت بخجل: نعم.

فردّ بجفاء: أمقت كثرة الكلام, قلِّة الفعال, فلا تُثر غضبي من أول درس, ثم فَرد ظهره للعمود الرخامي, لم ينس أن يتحسس برودته المستحبة في يوم صيفي قائظ بالخارج, أخرج مسبحته من جيبه عبث بحباتها وتمتم, بعدها مال إليّ بجذعه, قال: الآن, احفظ عنّي ما أقوله لك, دوِّنه بعقلك, احفره بإزميل المنطق في قلبك. التزم رصيف الصبر, فالعقبى للصابرين, ثم صفّق بيديه, فجاءت القهوة, يرافقها طبق به تمر, بعض الحلوى لا أعرف اسمها, وُضعت أمامه, فأكل وشرب, ثم تجشأ, عاد إليّ مرة أخرى, قال: عليك بالصمت, لم تبدأ صراعاتك بعد, تذكّر أنه لا حر يدوم ولا زمهرير... ثم سكت هنيهة, فسألته: ثم؟



تثاءب ثم اخبرني وهو يخبط على العمود الرخامي بقوه بباطن شماله: شهدت هذه الزاوية, ذلك العمود, صعودك من تلميذ لأستاذ يملأ الأفق, ثم رِدّتك مرة ثانية لصبي يقعد بين يدي من كان يُملي عليه نصائحه, هكذا هي الدنيا, موعدنا ما بين العصر والمغرب أيام السبت والثلاثاء, الخميس من كل أسبوع, ثم مدّ يده بتمرة من طبقه, ناولني إياها, فأخذتها متأففًا, عندما لمحني من قريب اتسعت ابتسامته , فأدركتُ أنه راضٍ عن نفسه, أيقنت أن بيني وبين الفهم بونًا شاسعًا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى