محمود حمدون - تأهب للمغادرة

أدركت الآن سر شقاء القنبلة الزمنية ,كأنّي وضعتُ نفسي مكانها, أحسست بشعورها حينما يرتفع مستوى التوتر بداخلها , يعلو رويدًا حتى يبلغ نقطة لا تملك تراجعًا, حيث ينقطع سبيل العودة, حينها ينضغط الحاضر بشدة ليصبح نقطة من ماض, تترقرق في المآقي أو تتطاير كريشة في مهب الريح , فترة زمنية,أجزم أنها لم تستغرق ثانية ولربما أقل , لكنها دهر كبير لصاحبها.

هذا ما دار بخلدي حينما هبت تلك الريح العنيفة مساء اليوم, عاصفة ليس أوانها من العام !. فالصيف في بلدتي الصغيرة يأتي كما يفعل من آلاف السنين. لا نشهد طقسًا مفاجئًا, بل رتابة في الحر صيفًا ,وقساوة تدريجية في برد الشتاء.

لكن ريح الأمس اقتلعت بدايات منطق كنت أحرص على رعايته منذ أعوام قليلة!,أذكر وقتها أنّي كنت أتأهب لمغادرة سيارتي حينما تسلّلت نسمات رقيقة وادعة, لفّتني من فوقي لتحتي, بدوري استقبلتها بحفاوة وكيف لا أفعل وأنا أنتظرها بشغف ويعتصرني ألم الفقد إن غابت سويعات!

انسابت بنعومة, لكنّها سرعان ما انقلبت بعنف فأطاحت بيّ خارج سيارتي.. وأنا من كنت أعتقد أنّي بمأمن من تقلّبات الزمن, ثم أفقت فإذا بيّ مُلقى لساعات على رصيف مجاور, بينما أبواب سيارتي مفتوحة على آخرها, ينساب من مسجّلها صوت " شادية " , يخبر المارة برقّتها الأنثوية : " قولوا لعين الشمس ما تحماشي..."

فنهضت من فوري ألملم بقايايّ , أنفض ترابًا علق بملابسي هنا وهناك, أزيل أدرانًا استقرت على رأسي, بضع قطرات من دماء جفّت بطول الرقاد على الطريق ومن شدة الوقعة !

-خير يا أستاذ؟ سلامتك ..

عبارة تدحرجت إلى سمعي من أحد المارة, لم أعر صاحبها التفاتة أو أهمية, إذ رأيتها من قبيل التطفل.

ثم صببتُ تركيزي على غلق أبواب العربة, إحكام قفبل الزجاج , الاستيثاق من وأد تلك الأغنية . بعد ذلك راجعت أشيائي : حافظة نقودي لا زالت متخمة بأوراق لا قيمة لها , هاتفي المحمول ,الذي لم يتأثر بالسقوط, سلسلة مفاتيحي كاملة. فلمّا وجدتها جميعًا في مواضعها سليمة ,أعدت هندامي لحاله.. تنفّست الصعداء, نزعت فتيل القنبلة المستقرة بأعماقي ,بعدما تيقّنت أن ماعدا ذلك خسارة هيّنة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى