محمود حمدون - أصقاع سيبيريا

خلاصة حوار استمر ثلاثة ساعات بيننا, استهلكنا خلاله عددًا يفوق الحصر من فناجين قهوة غامقة "على الريحة", جلسة طالت كثيرًا عن ذي قبل, لكنها مضت سريعًا أيضًا, آمنت بنهايتها أن الزمن يتوقف فعلًا بين الأحبّة,أن النفس تتوق دومًا لمن يوافقها الهوى, المزاج و المُزاح.

جادلته وأنا ماهر بهذا, حاججته, فَرَدّ بهدوئه المعروف عنه, فنّد كل رأي قلته. و إن لم تفارق وجهه ابتسامته الودودة, تلك التي تشيع بنهايتها لمحتان من حزن و قلق.

ختمت الليلة بقولي: نعم, أتفق معك أن المعرفة تقيّد حركة المرء, أن الجهل قد يقوّي القلب, يدفع صاحبه للتهو, الإتيان بتصرفات يعجز المنطق الطبيعي أن يقبلها,..

فردّ صاحبي: وأكثر من ذلك, لكن..

ثم أكمل حديثه: الجهل قد تصحبه راحة بال,فرفقًا بنفسك.

فقلت و قد أدركت ما يرمي إليه: لكني أرغب في المعرفة, حتى لو أصابني تعب من وراء ذلك, حتى لو أصبحت حياتي قطعة من الجحيم, فلا أظنني سأبقى سعيدًا وعقلي يتأرجح بين طرفي شك و يقين, يمينًا ويسارًا كل ثانية!

فسألني: ماذا تريد أن تعرف؟

قأجبته: كل شيء, كل ما حدث.

فردّ بفتور من زهق من الجدل: استفت قلبك, كفى به مؤشرًا على صدق احساسك.

فقلت:أدري أنني أثقلت عليك, حمّلتك فوق طاقتك,لكنها بعض فضفضة كما يقولون,فإن لم تكن معك, فمع من تكون؟!

فسألني وهو ينظر بأعماقي بقلق: فإن وصلتَ للحقيقة ؟

قلت: عندئذ تستكين روحي, يهدأ خاطري الذي يؤرقني منذ أربعة أعوام .

رأيته يقترب منّي, يشد على يميني, يهمس حتى لا يسمعه المارة: أشعر بمعاناتك, أرغب فعلًا في مساعدتك,غير أنني أكره النبش في الماضي, أمقت أن ينكفئ المرء على نفسه, يظل يجتر ذكريات مريرة ثم يقتات عليها حتى يقضي نحبه.

ثم شدّ بقوة أكبر على يدي وقال: ماذا تريد أن تعرف بالتحديد؟, تذكّر نصيحتي لك, لن تستريح إن عرفت.

تجاهلت نصيحته, قلت:هل تكرر "السيناريو" القديم بحذافيره؟ أعني هل تكرر ذات الفعل مرتين؟ هل سارت المرأتان على نفس الدرب, هل غلبت مصلحتهما على كل منطق ؟!

بدا أنه يتصنّع سوء الفهم, فأكملت بنبرة أعلى وأنا ألف! حوله في دورات كثيرة حتى لا يدّعى بعد ذلك أنه ضلّ الطريق معي,قلت : يا صاح, بات الوضع الآن أمامي أشبه بقصاصات ورقية ملوّنة لصورة قديمة ممزقة ملقاة على أرضية غرفة نومي .

أعيد ترتيبها كل فترة على ضوء ما يأتيني من معلومات شحيحة, كل مرة تظهر تفاصيل جديدة, كلما اقتربت الصورة من نهايتها أجدني أمام شخصيات لم أعرفها من قبل, من منهما " العاهرة ", من التقيّة" ؟! أم أنهما على سواء في الطُهر؟ أم أن عقلي يهيئ لي ذلك؟ أم هي رغبة كامنة بأعماقي أن أراهما هكذا؟ أهي نزعة للانتقام ؟ لكن ممنّ ؟ من نفسي أم ممن مضى في طريق دون عودة؟







أتعرف أنني أصبحت كمن تتخطّفه الشياطين من المس,أرى في صحوي خيالات رهيبة, في نومي يشط عقلي الباطن لهلاوس ماجنة, حتى أنني أصحو على آذان الفجر محمومًا. لقد راودني الشك في كل شيء, لم يعد أمام عيني ثابت مستقر,

باتت الريح العاصفة تتلاعب بكل يقين بداخلي,ما اسوأ يا صديق أن تكون مغفّلًا, أن تعرف أن بعض مناطق الصورة المضيئة يعرفها كثيرون إلاّ أنت, هكذا تحصر روحك القلقة بزاوية ضيقة... لمّا أفرغت ما بيّ, غلبني نعاس خفيف , التفتُ إليه كأنما أستنطقه ردًّا على ما قلت..

لكنه فاجئني بأن أفلت يده من يدي, دفع حساب المشروبات بعدما أقسم عليّ بذلك, ثم أحكم " كوفيته" حول رقبته, رمقني بعطف و قال: يا صديق,يأبى الشتاء أن يمضي لحاله بهدوء. أومأ إليّ كأنما يستحث اهتمامي نحوه ,قال ثانية: أعلم عِشقك لهذا الفصل,هيامك في برودته, غير أن الإغراق في هذا التيه البارد أشبه بمتمرّد تغضب منه السلطة فيكون عقابه قضاء ما تبقى من حياته في أصقاع " سيبيريا "

ثم و هو يلوّح بيده مودّعًا: يا صديق, لن تطيق الحياة وحدك هناك, رؤيتك الدائمة للون الأبيض حولك قد تصيبك بالعمى.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى