محمود حمدون - أربطة البيادات

" الجري في المكان", هو أشد و أقسى تدريب يمر به المجنّد عند تأديته للخدمة العسكرية, لا يكون إلّا في أرض خلاء واسعة, لا ترى فيها عوجًا, حيث لا تستظل الرؤوس إلاّ بقرص الشمس , حتى أنك تظن كل الظن أنها تداعب فروة رأسك بأشعتها الحارقة, تصبح وحدها في تلك اللحظة هي أنيسك و نديمك حتى نهاية يومك.

باختصار هو تمرين يقوم على مجهود كبير يبذله الجندي و هو واقف بمكانه, يجري بسرعة كبيرة غير أن قدميه لا تبارحان نفس النقطة.

ينهمر العرق كشلال صيفًا, يجف ريقه شتاءً من فرط التعب و الحركة الصاعدة بقوة, الهابطة بسرعة لقدميه, فلا تكاد تلمسان الأرض حتى ترتفعان من جديد, يزيد الجهد بضغط المتابعين من صف الضباط, بأصواتهم الغليظة, بوجوههم التائهة الملامح, فتُضطر لمضاعفة مجهودك من جديد حتى تتقطّع أربطة " البيادات ", يخرّ منهم البعض مغشيًّا عليه, يترنّح آخرون.

" الجري في المكان", يبدأ من مساحة ضئيلة ثابتة مكانيًّا لا تتجاوز موضع وقوفك, و ينتهي بنفس النقطة زمنيًّا. بعد انقضاء غبار التدريب, تمسح عرقك, تزيل أطنان التراب و الرمال الصفراء الناعمة التي تسلّلت إلى أنفك و فمك و حلقومك ثم تبحث عن قطرة ماء كي تبتل بها العروق, فلا تجدها.

حين تهدأ بعض الشيء, تنظر حولك فتجد أنك لا زلت بنفس البقعة لم تغادرها, ربما من اليأس تستلقي , تنظر للشمس الحارقة بنصف عين و بزاوية جانبية تجدها تنظر إليك ساخرة, تبادلها النظرة بأخرى حانقة لا أكثر . ربما تسرح إلى لا شيء, فماكينة الذكريات تتعطّل, لكن قبلما يتسرّب النوم إلى عينيك, تنطلق من جديد صافرة "مساعد التعليم": اجمع, جري في المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى