محمود حمدون - سيدُ الناس

" سيد الناس",أكثر من عرفت صلاحًا وتقوى , هو واحد من دائرة صغيرة تضيق وتلتف حول الشيخ " عبد المولى " ذلك القطب الصوفي الكبير , رقيق الحال في مظهره , لكنه يسمو ويعلو بمرتبه فوق باقي الخلق حولنا.

ما يميّز " سيد الناس " عن غيره من المريدين, إخلاصه الشديد وحبه الجارف للشيخ , فكنت أراه يدور في فلك حول " شيخه " ليل نهار , يحج إليه كلما أعوزته الحاجة أو ضاق به الحال , فإن هل " عبد المولى " على رأس الشارع من بعيد , كنت أجد " سيد الناس " في كرب لكن ليس من فزع ورعب بل كرب المحب العاشق ,إذ تغيم الرؤية بنظره فيختفي العالم بحواضره وبواديه ولا يبقى إلاّ كبيره.

حال استمر سنوات طويلة, حتى اعتاد الناس رؤية الاثنين, نجم يدور حوله كوكب وحيد .. وأيقن الجميع أن التابع خاتم بيد متبوعه , ميت بين يدي مُغسّله يفعل به ما يشاء , ثقة لا نهائية وطاعة عمياء.

بينما كان " ديسمبر " الماضي يقضي أيامه الأخيرة دق هاتف " سيد الناس " المحمول, مكالمة مقتضبة أتته من قطبه الكبير: يا سيد, عليك بالذهاب لتلك الحارة الضيقة المغلقة من نهايتها بسور حجري كبير لمحلج القطن القديم بميدان " الحواتم " من جهة الطريق السريع, هناك ستجد فقيرًا أسمر البشرة يقترب من السواد , نحيف من جوع , يعلو وجهه صفار من مرض , عندما ترى طيفه , اخلع نعليك في حضرته , عليك بالركض نحوه والركوع تحت قدميه, كن خادمًا له.

تلعثم " التابع " هنيهة ثم ندّت عن فمه جملة مقتضبة : هل أخدم فقيرًا بائًسا ؟ مثله وغيره وعشيرته تعج بهم الحواري والأزقة , أطأهم بقدمي هذه وخبط بعنف على قصبة ساقه , أتلك نهاية لطاعتي لك ؟ هل .. وقبل أن يطرح سؤاله , عاجله الكبير بعبارة أشد اقتضابًا أنهى بها المكالمة الهاتفية, بلهجة وعيد ممزوجة بأمر بات : إذهب إليه من فورك , أطعه فيما يأمرك , سر وراءه كظله , لا ترجع إليّ إلاّ حينما يطردك من رحمته أو يٌعفيك من خدمته.

أصاب " سيد الناس " كدر وغم كبيران أحاطا به بعدما أغلق الخط ,همس لنفسه : أي ألم ينغص بقلبي كسيخ حديد ! , لمَ يفعل " شيخي عبد المولى " ذاك بيّ ؟! أأقبل بهذا ؟ أأرضى بعد هذا العمر الطويل في خدمة سيدي أن أكون عبدًا لآخر ؟! لعمري تلك طامة حلّت على رأسي , كارثة لم أتحسب لها من قبل.

لكن ... قلبي يأبى ذلك , عقلي يرفض هذا المنطق , اعتراه غيظ وبصوت عال صاح: قرار لا رجعة فيه لن أطيع سواك , ثم أودع رفضه رسالة بعث بها التابع لمتبوعه , وضعها بمغلّف سميك مٌحكم الغلق , بطرفه كتب : من مولاك المطيع , إلى " عبد المولى " شمس الكون , ضياء السماء.

عندما وصلت الرسالة للكبير , قرأها وغضب كتوم يموج بقسمات وجهه , قبض على الوريقة بيده القوية ,عصرها بأصابعه الغليظة و كوّرها وألقى بها في سلة قمامة تجاور مكتبه العتيق , ثم قال للوسيط : لعنة السماء تنزل على من يعص أمري , راجع هذا المأفون فيما قال , حذّره مغبّة تصرفه الأهوج, أعلنه بغضبي الشديد منه , بصّره بعاقبة ما يفعل.

كانت أوصال " الوسيط " ترتجف وهو يقف أمام العملاق وندم يلفّه , محدّثًا نفسه : مالي بهذا الموقف الذي وضعت نفسي فيه ؟

أي مصيبة ستنزل على رأس " سيد الناس " ! كيف أنقل له الرسالة ؟ ثم كيف لم يسامحه الشيخ على هفوة كهذه على فرض أنه أخطأ فعلًا ؟!

أخرجه صوت الشيخ كسوط ألهب عقله : انصرف ,أخبره ولا تنتظر ردًا.

ساعة أو تقل دقائق قليلة , وقد تشرّب فؤاد " سيد الناس " بإنذار الكبير "عبد المولى" أدرك بفطرته أن الفخ قد سيق إليه بحكمة وحنكة من يمزج الدهاء بالزمن فيخلطهما معها حيث لا فكاك أو مهرب لأحد من أتباعه , لكن بعد أن سبق السيف العزل ثم ألقاها عبارة قاطعة في وجه الجميع : لقد التقى الرفض بالطاعة , رسالة أشد إيجازًا بعث لها المولى لمولاه , بعدها انحنى الزمن تحت وطأة الإخلاص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى