بكل تأكيد وسائل التواصل الاجتماعي أو مثلما اعتادوا على تسميتها بالسوشيال ميدا مجرمة، كل أحمق أو مضطرب نفسيا أو مشبع بايدولوجيات منحرفة يمكنه بسهولة الافصاح عن رأيه خلالها بوقاحة. الشوسيال ميديا قادرة على كشف عورات المجتمعات الهشة ثقافيا، كل فرد فيها قادر على ان يكشف عن نفسه بمنتهى السهولة والاريحية دون وعي كاف بما يفعله، ان السوشيال ميديا فخ كبير لاصطياد عورات المجتمعات التي ضاعت هويتها وتكرس شعور الأفراد داخلها بالغموض والارتباك. بداية لابد من التسليم بان ثمة تغيرات اساسية في قيم انسان هذا الكوكب حدثت نتيجة لعدة زلازل متتالية يسجلها التاريخ الحديث منها زلزال استئثار القطب الأوحد الأمريكي بقيادة العالم في اعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، وما ترتب على ذلك من حدوث صياغة جديدة لقيادة الأرض وادارة المصالح والصراعات الأقليمية، الأمر الذي ترتب عليه انتشار واسع للفوضى والتعصب الديني والمذهبي في العديد من البلدان المتصارعة. ثم جاء زلزال صعود تيار المحافظين الجدد المتعصب دينيا ومذهيا في الولايات المتحدة الامريكية بقيادة جورج دبليو بوش الابن ورجاله من حزب المحافظين الجدد بول ولفيوتز واليوت ابرامز وبول برايمر وريتشارد بيريل، ومساعدوه الأقويا دونالد رامسفيلد وزير دفاعه ونائب الرئيس ديك تشيني. اصدروا قرار بغزو العراق في عام 2003 واتسع نطاق التدخل في شئون الدول والفوضى والتعصب والتوتر والقلق في جميع ارجاء العالم.
كان المطلوب من مجلس ادارة العالم رسم خريطة اقتصادية جديدة للهيمنة على مصادر الطاقة والثروة في العالم داخل مناطقها وحدودها البعيدة، لذلك كان لابد من رسم خريطة سياسية جديدة اعلنت ملامحها وزيرة الخارجية الامريكية ذات الاصول الافريقية كونداليزا رايس في سياق حديثها عن الشرق الاوسط الجديد، واستراتيجيتها الأساسية هي ضرورة احداث ما أسمته بالفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط، من أجل اعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وانجاز صياغة جديدة لأنظمة الحكم فيها ولمناطق الصراع والدول التي يبدو انها تسبب صداعا للدولة العظمى الوحيدة في العالم ومصالحها ومصالح حلفائها، والتحالف المعلن مع تيارات الاسلام السياسي وحلفائهم باعتبارهم ادوات تنفيذ مخطط الفوضى الخلاقة، وباعتبارهم الداعم الأعظم لمصالحهم الحيوية في المنطقة. المخطط تأسس على استغلال الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في بعض البلدان العربية لتعميق الانقسام داخل هذه البلاد، والنتيجة جاءت سريعة متمثلة فيما اسموه لاحقا بثورات الربيع العربي عام 2011 التي اتخذت طابعا ثوريا شعبويا في البداية قبل ان يهيمن الاسلاميون لاحقا بحكم جودة التنظيم وسياسة الطاعة المطلقة للأمير، واستيلائهم على عواطف وقلوب ملايين البسطاء حسني النية الذي وجدوا فيهم الأمل في امكانية حدوث تغيير جوهري في حياتهم الدنيوية والدينية، بعد ان ظلوا عقود طويلة معدومي الأمل في امكانية حدوث تغيير في واقعهم المؤلم، وكذلك منح الغطاء السياسي القوي المعنوي لتلك الفوضى الخلاقة!، والتمويل المادي السخي للناشطين الساخطين على نظام الحكم واسلوب ادارته للدولة سواء من قبل الهيئات المدنية الدولية التابعة، أو من قبل الدول الاقليمية المتحالفة من أجل انفاذ مخطط الشرق الأوسط الجديد.
ان التعصب الطبيعي اتجاه فطري انساني وانعكاس لميل الفرد الغريزي لتصنيف وتفضيل الاشياء والاشخاص والأحداث، لكن هذا الأمر قد ينحرف ويتخذ مسارا سلبيا شبه سلمي، بمعنى ممارسة العداء السلبي ضد الأفراد أو الاحداث أو تجاه مواقف بعينها عن طريق اصدار استجابات ضدهم تتسم بالتنمر اللفظي غير الصريح، والسخرية أو استخدام لغة الجسد في اصدار اشارات ذات دلالات سلية محقرة، أو التجاهل وعدم الاكتراث لحضورهم الفيزيقي وتفاعلاتهم اللفظية. أو قد يأخذ الأمر مسارا عدائيا صريحا يبدأ من الهجوم اللفظي المباشر وينتهي بالعنف والصدامات الجسدية الصريحة. ربما نكون قد دخلنا في نفق التعصب والتنازل بارادتنا عن قيم الموضوعية والتسامح. الدول العظمى صانعة الحضارة والعلم تخشى من نضوب مصارد الثروة والطاقة خاصتها، تتدافع بقوة للاستيلاء على المصادر الخاصة بالدول الفقيرة، الاستعمار قديما كان يفعل ذلك بطريقة غاشمة تكبده خسارات بشرية واخلاقية كبيرة، اصبح الآن يفعل نفس الشيء لكن على الطريقة الحديثة، تجنيد عملاء من نفس البلد يحلمون بالثروة والنفوذ.كل دورهم استخراج طاقة الغضب والتعصب الكامنة لدى الملايين من الجماهير الفقيرة وحثهم على رفض الواقع المرزي الذي يعيشونه، والظلم المتسع النطاق الذي يدركونه عن واقعهم المحدود مقارنة بواقع مغاير يعاينونه في التلفاز أو في المنتجعات والمولات الضخمة المليئة بكل مظاهر الترف والاستهلاك. العالم الفيزيقي المعاصر تغير بفعل فوران التكنولوجيا وتطور العلوم والمعارف بدرجة مذهلة، العقل الانساني توجه بسرعة قصوى نحو كل ما يصلح تصنيعه أو استهلاكه فوق سطح الأرض أو داخل قاعها، وفي البحار والمحيطات أيضا. الآن يتم السطو على كل شيء موجود في الطبيعة بغرض تحويله الى ادوات استهلاكية تيسر للانسان حياته على ظهر الكوكب، حمى الاستهلاك طغت بقوة بعد نجاح الامبراطورية الامريكية في السيطرة على العالم ونهاية الحرب الباردة.
مع الطغيان السلعي في الاسواق اتسع بالضرورة افق الطموحات والتوقعات الفردية وشدة التصارع والمنافسة بين الافراد والدول أيضا. ان سيطرة قيمة الاستهلاك على العقل البشري افقدته توازنه، تهاوت حدود القيم وتبدلت مواضعها وتأثيراها على التحكم في السلوك الانساني، اتسع نطاق الضغوط التي تعتصر عقل الانسان، أصبح منحازا أكثر لما يمكن ان يحقق مصالحة وتوافقه مع واقع بدى متسعا باحتياجات ليس لها سقف، ومتطلبات والتزامات اتسع مدها جدا. عند هذه النقطة يجد الفرد نفسه وقد دخل في نفق الذاتوية المظلم، احاط نفسه بسياج قوي من الاحتياجات والمصالح التي تخصه فقط بصرف النظر عن الآخرين القريبين أو البعيدين.
وللذاتوية متطلبات من بينها ان تكون حادا وصارما في الدفاع عن مصالحك الخاصة حتى لو بدى هذا الأمر عنيفا ومؤلما مع أعز احباءك، وان تحذر من منافسينك أو من المحتمل ان يكونوا منافسينك في يوم من الأيام، وان تسعى بكل جهدك لمنع أي أحد منهم من منافستك بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. ان جائزتك الكبرى ان تحقق مبتغاك وتحافظ على مصالحك بصرف النظر عن الوسيلة.
الميكافيلية أصبحت منهجا يتم تداوله بين الجميع في خضم صراع المنافسة والبقاء والعيش حياة الرفاهية أو على الأقل اتباع نفس اسلوب الحياة الذي أصبح عليه أقراننا، زملاءنا، جيراننا، أصدقائنا الذين تمكنوا من الاحتيال على الواقع مبكرا واضحوا من الأثريا أصحاب النفوذ والمال والسطوة.
البنية التحتية لكوكب الأرض تغيرت ملامحها القيمية والاخلاقية بفضل زلازل واعاصير ثورة العلم والتكنولوجيا والاتصالات، نتج عن تلك الهزات دربكة فكرية هائلة اصابت انسان هذا العصر بالاغتراب والانفصال عن قيمه التقليدية القديمة، دربكة عقلية ربما تقوده الى الجنون ما لم يتمكن من التقاط حبل التوازن داخله، واستيعاب أو محاولة احتواء كل ما يجري من حوله.
ان اصحاب الشخصيات الهشة الضعيفة القابلة للكسر بسهولة من جراء تعرضها لصدمات الواقع المتتالية مساكين، لايستطيعون مجاراة واقع أصبح من التعقيد لدرجة قد تدخلهم في انفاق الأمراض النفسية، والصدام مع أنفسهم والآخرين. الفضاء الاليكتروني الذي قدمه هديه الى العالم البريطاني تيم بيرنرز لي عام 1991 باسم شبكة الويب العالمية World Wide Web أصبح يعج بالاحداث العجيبة والأخبار السيئة التي تعكس المدى الذي وصل اليه التغير الحادث في منظومة القيم مقارنة بزمن سابق لم تكن فيه حركة الايقاع الشخصي والاجتماعي للبشر بكل هذه السرعة المفرطة. ان الفضاء الاليكتروني ووسائطه المتعددة التي تسمى بالسوشيال ميديا تمثل المرآة التي يرى البشر انفسهم خلالها بكل وضوح. صحيح لم تتوفر في السابق مثل هذه المرآة العبقرية حيث يرى البشر تصرفاتهم مباشرة لكن عمق التغير لافت ويمكن ملاحظته لدى الشخص المدقق قبل ان يشرع في انجاز بحث يقارن فيه المنظومة القيمية زمان قبل 50 عاما مثلا والمنظومة القيمية الآن. ام الدنيا مصر تمثل جزء جوهري من هذا العالم الواسع، ساهمت بمنجزها الثقافي القيمي الحضاري بشكل عظيم قبل أكثر من سبعة الآف عاما وفق التاريخ المدون، ولا يزال احفاد المصريين القدماء يسعون في الأرض يحملون ما تبقى من ميراث جدودهم القدماء أملا في صنع المجد مثلهم، ولعل سؤالا يطرح نفسه بقوة في هذا السياق هل بمقدورهم الصمود في هذا العالم "الشفاف" غير المستور والذي أضحى من دون أسرار.
في عهود القدماء كانت المعابد وكهنتها وعلمائها ملجأ مريح للعلوم والفنون والاديان والآلهة مثلما كانت ملجأ عظيم للأسرار أيضا. نهر النيل لم يعد مهيبا، كأنه تخلص من وقاره ومن التماسيح التي كانت تمرح داخل ملابسه الزاهية، لكن الملابس لم تعد زاهية الآن، ومع ذلك لايزال ملهم للمصريين الذين يمشون على ضفافه ويأتنسون برحيقه. على ضفافه يمشون في وجل وفي خجل وفي خوف، الدنيا تغيرت، صدورهم تغيرت، لكن بقى شيء مهم لم يتغير هو صلابتهم واصرارهم على التمسك بتلابيب جدودهم بناة الهرم والمجد.
هاتفتني الصحفية الشابة تسأل عن ذلك الشاب الذي ذبح غريمه في وضح النهار وسط الشارع المزدحم في قلب مدينة الاسماعيلية الساحلية، فصل رأسه عن جسده ومشى في الشارع يحملها بين يديه متباهيا. بدى صوتها مضطربا ومنزعجا، طالبتني بالتحليل النفسي لهذا الشخص وفعلته الاستثنائية. كان الفضاء الاليكتروني بحكم المعتاد قد ارذحم بفيديوهات الحادث وعشرات الآف من التعليقات والصور للحادث في نفس توقيت حدوثه، تناثرت المعلومات من هنا ومن هناك عن الشاب القاتل، ادمانه، علاقته بالقتيل. وعن القتيل العنتيل الذي اغتصب اخت القاتل وضاجع والدته، ثرثرة ودوشة كبيرة نقلها الانترنيت عن الحادث المزعج وعن الجمهور اللامبالي من المصريين الذين اكتفوا بتصوير الحادث في صمت ومن دون تدخل!. بالطبع كثرت الترهات والمبالغات في وصف الحادث واستجابات الناس وقتها كالمعتاد في غياب بيان رسمي من وزارة الداخلية يوضح ملابسات الموضوع برمته. الشاب القاتل ذكي، قارئ جيد لثقافة المصريين، ما ان انتهى من فعلته وادرك الغضب في عيون الجمهور حتى صرخ فيهم مستدعيا تعاطفهم ومساندتهم لأن ما فعله مجرد تأر للشرف والدين وانفاذ شرع الله وفق ما تسرب في الفيديوهات ووسائل الاعلام " لقد اغتصب أختى وضاجع والدتي" بالطبع يقصد القتيل الذي يحمل رأسه بين يديه. أيضا تسربت معلومات عن ان الشاب القاتل كان يحمل في يده كيس بلاستيكي والساطور الذي ذبح به ضحيته وكذلك عثر معه على طبنجة، وظل يهذى في لحظة القبض عليه بعبارات غير مفهومة، ناهيك عن تاريخ مع تعاطي المخدرات.
ييبدو ان حصيلة المعلومات المتسربة من السوشيال ميديا والاعلام دسمة بالقدر الذي لايرهق ذهن محلل نفساني مثلي،. نحن بصدد شخصية سيكوباثية بامتياز تنطبق عليها كافة المحكات التشخيصية الخاصة باضطراب الشخصية السيكوباثي، لكن يبدو للمسألة بعد آخر يسترعي الاهتمام والانتباه يتعلق بتساؤل بسيط هو لماذا اصر الشاب على ذبح ضحيته في وضح النهار، في شارع طنطا المزدحم بالناس، وفصل رأسه وحملها بين يديه والمشي في الشارع متباهيا؟. الأمر لايبدو مجرد جريمة تم ارتكابها في لحظة من عدم الاتزان العقلي لفرد ما بقدر ما يمكن النظر اليه باعتباره تحدي معلن في وضح النهار من قبل هذا الفرد المسلح لسلطة وقوة ونفوذ الدولة، صورة الدولة لم يعد لها وجود لا داخله ولا خارجه.
ان من أعظم منجزات البشرية لايمكن ان يكون اختراع الصرف الصحى فحسب الذي انقذ الملايين من الموت بسبب التلوث، وانتشار الأوبئة الفتاكة بل اختراع الدولة القادرة على بسط سلطتها ونفوذها على الملايين واجبارهم على الخضوع للقوانين التي تنظم حركة معيشتهم وأمنهم وسلامتهم وسلامهم يعادل نفس الأهمية أيضا. ونستشعر هذا الأمر الآن في اعقاب تراجع سلطات رجال الدين نتيجة لتراجع القيم الدينية بسبب التغيرات القيمية المتزامنة مع تحرر الاوربيين من قيود القرون الوسطى في القرن الخامس عشر الميلادي وبداية دخول عصر النهضة والاستكشافات العظيمة وفوران ثورات العلم والأفكار، وأصبح التأثير الأعظم حاضرا بقوة لرجال العلم والفكر والفلسفة بعد سحب البساط من تحت أقدام رجال الكنيسة وشحوب جاذبية الجماهير تجاههم. ان تنظيم الناس تحت لواء منظومة من القوانين والتشريعات تنظم سلوكهم وحركتهم الاجتماعية، وتضبط المنحرف من القيم والتوجهات والسلوكيات أمر متعلق بمقدار التحضر الانساني والاعتقاد في ان حياة المرؤ هبه ثمينة ينبغي الحفاظ عليها. جدودنا المصريون القدماء (الذين أسسوا أقدم دولة في التاريخ الانساني قبل سنة (3200) قبل الميلاد في اعقاب توحيد الملك مينا لمملكتي الشمال والجنوب وتأسيس أول حكومة مركزية) أدركوا ذلك مبكرا، وعلى الرغم من سطوة كهنة المعابد وقوة نفوذهم داخل الدولة المصرية القديمة لكن المصريون نجحوا باعجاز لافت في موازاة التطور العلمي التقني الفائق بالطقوس والشعائر الدينية ولغة الأسرار والسحر، وانتجوا حضارة انسانية حقيقية قامت على سطوة الضمير باعتباره الهادي للحق والعدل، وكتابة التشريعات والقوانين التي تنظم العلاقات بين البشر، وعلاقة البشر بالحكام وبذلك وصفهم التاريخ باعتبارهم أول الخلق الذين عرفوا الضمير، وأول من أسسوا الدولة بمفهومها الحضاري الثقافي في التاريخ. لكن يبدو ان الأحفاد علقوا في الزمن بعد نهاية حقب الاسرات المصرية القديمة، واطماع الغزاة فيها وحولها من فرس ويونانيين وبطالمة ورومانيين وعرب وامتزاج الثقافات والانساب. غامت حدود الهوية القومية، ربما اصابها نوع من الهشاشة للدرجة التي يسهل على المغامر القوي ان يوجهها وفق رؤيته السياسة الخاصة. لكن لحسن الحظ لايمكن توجيه الجينات أو الموروثات التي انتقلت الى الأحفاد من جدودهم المصريين الأصليين، ظلت تلك الجينات قابعة داخلهم تظهر في تداولهم لمفردات مصرية قديمة في احاديثهم العفوية فيما بينهم، واسماء المدن والقرى والنجوع التي مازالت عالقة منذ الاف السنين، كذلك تظهر تلك الجينات الوراثية في فنون العمارة خاصة ما يتعلق بالكنائس والمساجد وفي ممارسات المصريين لطقوسهم الدينية مسيحية كانت أو اسلامية، وفي ممارساتهم للغناء في الافراح وطقوس الموت وبعض الالعاب الرياضية...الخ.
ان غياب مفهوم الدولة بما يتضمنه من معاني القوة والنفوذ والسطوة في انفاذ الآف التشريعات والقوانين التي يعلمها جيدا كل مصري أو قد لايعلم أو لايكترث بها قطاع واسع من المصريين نتيجة لاعتبارات ثقافية/سياسية خاصة أمر مزعج بحق، نتج عنه قيام شاب مصري في نوفمبر عام 2021 بذبح آخر في عز الظهر في شارع طنطا بمدينة الاسماعيلية الساحلية والمزدحم بالمارة، والسير في الشارع حاملا رأس القتيل التي فصلها بالساطور متباهيا بثأره لشرفه ودينه من دون ان يقترب منه أحد. تلك هي المسألة مع الوضع في الاعتبار انها ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي يتصرف بها المصريون من منطلق "غياب الدولة"، الملاحظ المدقق لتصرفات غالبية المصريين يلاحظ انهم يتصرفون "بعفوية غرائزية" أكثر مما ينبغي، كأن في عقل وقلب كل فرد منهم دولته أو مملكته الخاصة به. البناء العشوائي في كل مكان من دون اعتبار لا لقوانين البناء المنظمة، ولا للآخرين من الجيران الذين يمكن ان يتضرروا من هذا التصرف. يمكن القياس على ذلك فيما حدث بالنسبة للاراضي الزراعية التي استلموها من الاقطاعيين بعد ثورة يوليو 1952 وكيف تحولت الى مباني قبيحة عشوائية متراصة تخنق بعضها البعض، أصبحت مثل المقابر التى تأوي الناس بعد ان كانت مصدرا عظيما للحياة والجمال والرزق. كما ان المصانع التي تم تأميمها في اوائل ستينيات القرن الماضي لصالح الشعب تحولت لاحقا الى خرائب بعد ان امتص رحيقها مديروها الذين اعتبروها ملكية خاصة بهم. ونفس الأمر حدث في المحليات التي تبسط سلطاتها على المناطق والاقاليم المحلية ومسئولة عن انفاذ قوانين الدولة فيما يخص تشريعات البناء والخدمات المحلية.
ان التحايل على القوانين المنظمة لتصرفات الناس وكذلك كافة التشريعات البشرية والسماوية أصبح ثقافة رائجة بين جميع أفراد وطبقات المصريين. غاب مفهوم الدولة تماما عن وعي المصريين فيما عدا محاولة الاقتراب من التحرش بالحكام.
ان سيادة انماط التصرفات العشوائية التي تظهر في استجابات المصريين فيما بينهم أو في علاقتهم بنظام الدولة تبين المدى الذي وصل اليه الأفراد في تأسيس كل فرد دولته الخاصة به.
ربما يكون مرد غياب فكرة الدولة عن اذهان المصريين يتعلق بمجمل تلك الغزوات التي منوا بها في اعقاب نهاية عصر الاسرات في عهد الدولة المصرية القديمة بداية بالغزو القمبيزي (نسبة لملك الفرس) الفارسي لمصر، ثم نجاح الاسكندر المقدوني اليوناني في طرد الفرس من مصر سنة 333 وتتويجه ملكا قبل ان ينجح الرومان في طرد البطالمة في سنة 30 قبل الميلاد وانضمام مصر الى عصبة الدول الملحقة بلواء الامبراطورية الرومانية وصارت مصر من أهم ولايات الامبراطورية الرومانية حينذاك، ومع دخول المسيحية مصر في منتصف القرن الأول الميلادي مع القديس مرقس وتأسيس أول كنيسة في مصر وافريقيا عانى المسيحيون المصريون من اضطهاد الرومان خاصة مع تولى دقلديانوس صدارة الامبراطورية المتسعة الأطراف بسبب الخلافات المذهبية بين سكان الأرض الاصليين والمحتلين الغزاة الرومان، حتى حدث الصدام والنزاع الكبير بين الرومان والعرب على الفوز بمصر. حسم القائد العربي الداهية عمرو بن العاص الصراع وتم طرد الرومان من مصر، وقدم المسيحيون المصريون المضطهدون خدمات جليلة للجيش الاسلامي في سبيل التخلص من الكابوس الروماني.
ثم تتابع الحكام الاجانب أمر الحكم في مصر وتنظيم شئون الدولة لاحقا لمئات السنين الأمر الذي غيب عن اذهانهم فكرة الدولة المصرية الخالصة.
كأنهم اعتادوا حكم الاجانب لبلادهم، وترتب على ذلك غياب قيم الولاء والانتماء، والفخر والاعتزاز بالمكان والناس، لسان حالهم يقول للحكام الاجانب "لكم دولتكم ولنا دولتنا"، لا حماس لوحدة الهدف والتنظيم، ولا رغبة في العمل الجماعي، ولا يوجد هدف واضح يترتب على انجازه تحقيق مشاعر العزة والزهو والتباهي والسعي لامتلاك أقصى قدر من القوة. اكتفى كل فرد بتحقيق دولته الخاصة به والتصرف مع نفسه ومع الآخرين وفق هذا الأساس، عشاوئيات في المباني وفي السلوك وتصرفات الناس مع بعضهم البعض، وراجت مقولات على شاكلة القوانين اتعملت عشان يتم كسرها، الدولة العميقة، ثقافة ضرورة المحسوبيات والوسايط لتحقيق اغراضك، ثقافة من الممكن انتهاك مصادر الحياة مثل الاعتداء على نهر النيل سواء بالردم أو ملئه بالمخلفات السامة والحيوانية، وتجريف الأراضي الزراعية الخصبة لصناعة طوب المباني لكي تمتلأ جيوب بالمال السهل.كل ذلك وأكثر لحساب مصالح خاصة ضيقة، تكشف توغل نمط الذاتوية لدى الناس والعدوان على حقوق الغير أو عدم الاكتراث بحقوق الآخرين. وعلى الرغم من وصول البكباشي الصعيدي الأصل القوي جمال عبد الناصر صاحب الشعبية العظيمة الى قمة السلطة في خمسينات القرن الماضي باعتباره أو حاكم مصري خالص يملك القرار في مصر في اعقاب نهاية عصر الاسرات في مصر القديمة، غير ان ثقافة دوران المصريون داخل دوائرهم المنعزلة التي تمثل لكل فرد منهم دولته الخاصة لاتزال منتشرة على نطاق واسع، ولم يتحرج الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في ان يعلن لجموع المصريين اننا نعيش في شبه دولة!.
ان ادمان المصريون على العيش في دولهم الخاصة وفشلهم في انجاز دولة كبيرة عظيمة على الرغم من محاولات قادتهم الوطنيين في السابق أمر يثير الدهشة والاستغراب، لكن يبدو متفهما اذا ما تعلق فهم الأمر في سياقه التاريخي الذي شرحناه آنفا. ان المصريين بفضل جيناتهم الوراثية التي خلفها داخلهم جدودهم العظماء نجحوا على الرغم من ذلك من الحفاظ على الكيان الأساسي للدولة كما يبدو في الفنون والعمارة، واللغة والعادات الخاصة، وصلابة نفسية، ووعي فطري مدهش بعظمتهم التاريخية التليدة، وكيانهم وفلسفتهم البسيطة في الحياة، وعلاقتهم الفطرية على غرار جدودهم بالدين والمعتقدات الدينية التي لم تختلف كثيرا عما كان عليه الأمر في مصر القديمة رغم الانقلابات والزلازل التي تتابعت عليهم خلال قرون وعصور. ونجحوا في التغلب على طوفان التعصب والتطرف الذي ساد العالم أجمع وعصف بالكثير من البلدان المجاورة. لكن بالعودة الى هذا الرجل الذي تهور في شارع طنطا بالاسماعيلية وذبح خصمه وسار في الشارع متباهيا بحمل رأسه بين اصابعه يمكن اعتباره النتاج القبيح لميراث موغل في القدم ما يزال صداه يتردد في عالمنا اليوم يتعلق باشكالية غياب الدولة القوية صاحبة السطوة والنفوذ على كل ما يتعلق بمخالفة القوانين التي تنظم حركة وتصرفات الناس وتحفظ حرماتهم واموالهم وحياتهم.
واذا كانت المسألة متعلقة بالوعي ودرجة الوعي التي تدنت بفعل سيادة نمط الفوضى والعشوائية وتعامل الأفراد مع بعضهم البعض كأنهم في غابة البقاء فيها للأقوى، فان الاستجابة لدعوات العمل الجماعي والتعليم الحديث غير التقليدي وغير القبلي، والتعامل بجدية واستدامة مع كل انحراف عن القانون وارساء مبدأ الشفافية والعدالة معصوبة العينين، وتهيئة مناخ مناسب من حرية التعبير، كل ذلك يعد بمثابة البوابة الرئيسية لتنمية وتطور الوعي وقيم الانتماء والأمل والفخر والدولة العظيمة التي نتطلع اليها.
نوفمبر 2021
كان المطلوب من مجلس ادارة العالم رسم خريطة اقتصادية جديدة للهيمنة على مصادر الطاقة والثروة في العالم داخل مناطقها وحدودها البعيدة، لذلك كان لابد من رسم خريطة سياسية جديدة اعلنت ملامحها وزيرة الخارجية الامريكية ذات الاصول الافريقية كونداليزا رايس في سياق حديثها عن الشرق الاوسط الجديد، واستراتيجيتها الأساسية هي ضرورة احداث ما أسمته بالفوضى الخلاقة في منطقة الشرق الأوسط، من أجل اعادة ترتيب أوضاع المنطقة، وانجاز صياغة جديدة لأنظمة الحكم فيها ولمناطق الصراع والدول التي يبدو انها تسبب صداعا للدولة العظمى الوحيدة في العالم ومصالحها ومصالح حلفائها، والتحالف المعلن مع تيارات الاسلام السياسي وحلفائهم باعتبارهم ادوات تنفيذ مخطط الفوضى الخلاقة، وباعتبارهم الداعم الأعظم لمصالحهم الحيوية في المنطقة. المخطط تأسس على استغلال الظروف السياسية والاقتصادية والثقافية في بعض البلدان العربية لتعميق الانقسام داخل هذه البلاد، والنتيجة جاءت سريعة متمثلة فيما اسموه لاحقا بثورات الربيع العربي عام 2011 التي اتخذت طابعا ثوريا شعبويا في البداية قبل ان يهيمن الاسلاميون لاحقا بحكم جودة التنظيم وسياسة الطاعة المطلقة للأمير، واستيلائهم على عواطف وقلوب ملايين البسطاء حسني النية الذي وجدوا فيهم الأمل في امكانية حدوث تغيير جوهري في حياتهم الدنيوية والدينية، بعد ان ظلوا عقود طويلة معدومي الأمل في امكانية حدوث تغيير في واقعهم المؤلم، وكذلك منح الغطاء السياسي القوي المعنوي لتلك الفوضى الخلاقة!، والتمويل المادي السخي للناشطين الساخطين على نظام الحكم واسلوب ادارته للدولة سواء من قبل الهيئات المدنية الدولية التابعة، أو من قبل الدول الاقليمية المتحالفة من أجل انفاذ مخطط الشرق الأوسط الجديد.
ان التعصب الطبيعي اتجاه فطري انساني وانعكاس لميل الفرد الغريزي لتصنيف وتفضيل الاشياء والاشخاص والأحداث، لكن هذا الأمر قد ينحرف ويتخذ مسارا سلبيا شبه سلمي، بمعنى ممارسة العداء السلبي ضد الأفراد أو الاحداث أو تجاه مواقف بعينها عن طريق اصدار استجابات ضدهم تتسم بالتنمر اللفظي غير الصريح، والسخرية أو استخدام لغة الجسد في اصدار اشارات ذات دلالات سلية محقرة، أو التجاهل وعدم الاكتراث لحضورهم الفيزيقي وتفاعلاتهم اللفظية. أو قد يأخذ الأمر مسارا عدائيا صريحا يبدأ من الهجوم اللفظي المباشر وينتهي بالعنف والصدامات الجسدية الصريحة. ربما نكون قد دخلنا في نفق التعصب والتنازل بارادتنا عن قيم الموضوعية والتسامح. الدول العظمى صانعة الحضارة والعلم تخشى من نضوب مصارد الثروة والطاقة خاصتها، تتدافع بقوة للاستيلاء على المصادر الخاصة بالدول الفقيرة، الاستعمار قديما كان يفعل ذلك بطريقة غاشمة تكبده خسارات بشرية واخلاقية كبيرة، اصبح الآن يفعل نفس الشيء لكن على الطريقة الحديثة، تجنيد عملاء من نفس البلد يحلمون بالثروة والنفوذ.كل دورهم استخراج طاقة الغضب والتعصب الكامنة لدى الملايين من الجماهير الفقيرة وحثهم على رفض الواقع المرزي الذي يعيشونه، والظلم المتسع النطاق الذي يدركونه عن واقعهم المحدود مقارنة بواقع مغاير يعاينونه في التلفاز أو في المنتجعات والمولات الضخمة المليئة بكل مظاهر الترف والاستهلاك. العالم الفيزيقي المعاصر تغير بفعل فوران التكنولوجيا وتطور العلوم والمعارف بدرجة مذهلة، العقل الانساني توجه بسرعة قصوى نحو كل ما يصلح تصنيعه أو استهلاكه فوق سطح الأرض أو داخل قاعها، وفي البحار والمحيطات أيضا. الآن يتم السطو على كل شيء موجود في الطبيعة بغرض تحويله الى ادوات استهلاكية تيسر للانسان حياته على ظهر الكوكب، حمى الاستهلاك طغت بقوة بعد نجاح الامبراطورية الامريكية في السيطرة على العالم ونهاية الحرب الباردة.
مع الطغيان السلعي في الاسواق اتسع بالضرورة افق الطموحات والتوقعات الفردية وشدة التصارع والمنافسة بين الافراد والدول أيضا. ان سيطرة قيمة الاستهلاك على العقل البشري افقدته توازنه، تهاوت حدود القيم وتبدلت مواضعها وتأثيراها على التحكم في السلوك الانساني، اتسع نطاق الضغوط التي تعتصر عقل الانسان، أصبح منحازا أكثر لما يمكن ان يحقق مصالحة وتوافقه مع واقع بدى متسعا باحتياجات ليس لها سقف، ومتطلبات والتزامات اتسع مدها جدا. عند هذه النقطة يجد الفرد نفسه وقد دخل في نفق الذاتوية المظلم، احاط نفسه بسياج قوي من الاحتياجات والمصالح التي تخصه فقط بصرف النظر عن الآخرين القريبين أو البعيدين.
وللذاتوية متطلبات من بينها ان تكون حادا وصارما في الدفاع عن مصالحك الخاصة حتى لو بدى هذا الأمر عنيفا ومؤلما مع أعز احباءك، وان تحذر من منافسينك أو من المحتمل ان يكونوا منافسينك في يوم من الأيام، وان تسعى بكل جهدك لمنع أي أحد منهم من منافستك بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة. ان جائزتك الكبرى ان تحقق مبتغاك وتحافظ على مصالحك بصرف النظر عن الوسيلة.
الميكافيلية أصبحت منهجا يتم تداوله بين الجميع في خضم صراع المنافسة والبقاء والعيش حياة الرفاهية أو على الأقل اتباع نفس اسلوب الحياة الذي أصبح عليه أقراننا، زملاءنا، جيراننا، أصدقائنا الذين تمكنوا من الاحتيال على الواقع مبكرا واضحوا من الأثريا أصحاب النفوذ والمال والسطوة.
البنية التحتية لكوكب الأرض تغيرت ملامحها القيمية والاخلاقية بفضل زلازل واعاصير ثورة العلم والتكنولوجيا والاتصالات، نتج عن تلك الهزات دربكة فكرية هائلة اصابت انسان هذا العصر بالاغتراب والانفصال عن قيمه التقليدية القديمة، دربكة عقلية ربما تقوده الى الجنون ما لم يتمكن من التقاط حبل التوازن داخله، واستيعاب أو محاولة احتواء كل ما يجري من حوله.
ان اصحاب الشخصيات الهشة الضعيفة القابلة للكسر بسهولة من جراء تعرضها لصدمات الواقع المتتالية مساكين، لايستطيعون مجاراة واقع أصبح من التعقيد لدرجة قد تدخلهم في انفاق الأمراض النفسية، والصدام مع أنفسهم والآخرين. الفضاء الاليكتروني الذي قدمه هديه الى العالم البريطاني تيم بيرنرز لي عام 1991 باسم شبكة الويب العالمية World Wide Web أصبح يعج بالاحداث العجيبة والأخبار السيئة التي تعكس المدى الذي وصل اليه التغير الحادث في منظومة القيم مقارنة بزمن سابق لم تكن فيه حركة الايقاع الشخصي والاجتماعي للبشر بكل هذه السرعة المفرطة. ان الفضاء الاليكتروني ووسائطه المتعددة التي تسمى بالسوشيال ميديا تمثل المرآة التي يرى البشر انفسهم خلالها بكل وضوح. صحيح لم تتوفر في السابق مثل هذه المرآة العبقرية حيث يرى البشر تصرفاتهم مباشرة لكن عمق التغير لافت ويمكن ملاحظته لدى الشخص المدقق قبل ان يشرع في انجاز بحث يقارن فيه المنظومة القيمية زمان قبل 50 عاما مثلا والمنظومة القيمية الآن. ام الدنيا مصر تمثل جزء جوهري من هذا العالم الواسع، ساهمت بمنجزها الثقافي القيمي الحضاري بشكل عظيم قبل أكثر من سبعة الآف عاما وفق التاريخ المدون، ولا يزال احفاد المصريين القدماء يسعون في الأرض يحملون ما تبقى من ميراث جدودهم القدماء أملا في صنع المجد مثلهم، ولعل سؤالا يطرح نفسه بقوة في هذا السياق هل بمقدورهم الصمود في هذا العالم "الشفاف" غير المستور والذي أضحى من دون أسرار.
في عهود القدماء كانت المعابد وكهنتها وعلمائها ملجأ مريح للعلوم والفنون والاديان والآلهة مثلما كانت ملجأ عظيم للأسرار أيضا. نهر النيل لم يعد مهيبا، كأنه تخلص من وقاره ومن التماسيح التي كانت تمرح داخل ملابسه الزاهية، لكن الملابس لم تعد زاهية الآن، ومع ذلك لايزال ملهم للمصريين الذين يمشون على ضفافه ويأتنسون برحيقه. على ضفافه يمشون في وجل وفي خجل وفي خوف، الدنيا تغيرت، صدورهم تغيرت، لكن بقى شيء مهم لم يتغير هو صلابتهم واصرارهم على التمسك بتلابيب جدودهم بناة الهرم والمجد.
هاتفتني الصحفية الشابة تسأل عن ذلك الشاب الذي ذبح غريمه في وضح النهار وسط الشارع المزدحم في قلب مدينة الاسماعيلية الساحلية، فصل رأسه عن جسده ومشى في الشارع يحملها بين يديه متباهيا. بدى صوتها مضطربا ومنزعجا، طالبتني بالتحليل النفسي لهذا الشخص وفعلته الاستثنائية. كان الفضاء الاليكتروني بحكم المعتاد قد ارذحم بفيديوهات الحادث وعشرات الآف من التعليقات والصور للحادث في نفس توقيت حدوثه، تناثرت المعلومات من هنا ومن هناك عن الشاب القاتل، ادمانه، علاقته بالقتيل. وعن القتيل العنتيل الذي اغتصب اخت القاتل وضاجع والدته، ثرثرة ودوشة كبيرة نقلها الانترنيت عن الحادث المزعج وعن الجمهور اللامبالي من المصريين الذين اكتفوا بتصوير الحادث في صمت ومن دون تدخل!. بالطبع كثرت الترهات والمبالغات في وصف الحادث واستجابات الناس وقتها كالمعتاد في غياب بيان رسمي من وزارة الداخلية يوضح ملابسات الموضوع برمته. الشاب القاتل ذكي، قارئ جيد لثقافة المصريين، ما ان انتهى من فعلته وادرك الغضب في عيون الجمهور حتى صرخ فيهم مستدعيا تعاطفهم ومساندتهم لأن ما فعله مجرد تأر للشرف والدين وانفاذ شرع الله وفق ما تسرب في الفيديوهات ووسائل الاعلام " لقد اغتصب أختى وضاجع والدتي" بالطبع يقصد القتيل الذي يحمل رأسه بين يديه. أيضا تسربت معلومات عن ان الشاب القاتل كان يحمل في يده كيس بلاستيكي والساطور الذي ذبح به ضحيته وكذلك عثر معه على طبنجة، وظل يهذى في لحظة القبض عليه بعبارات غير مفهومة، ناهيك عن تاريخ مع تعاطي المخدرات.
ييبدو ان حصيلة المعلومات المتسربة من السوشيال ميديا والاعلام دسمة بالقدر الذي لايرهق ذهن محلل نفساني مثلي،. نحن بصدد شخصية سيكوباثية بامتياز تنطبق عليها كافة المحكات التشخيصية الخاصة باضطراب الشخصية السيكوباثي، لكن يبدو للمسألة بعد آخر يسترعي الاهتمام والانتباه يتعلق بتساؤل بسيط هو لماذا اصر الشاب على ذبح ضحيته في وضح النهار، في شارع طنطا المزدحم بالناس، وفصل رأسه وحملها بين يديه والمشي في الشارع متباهيا؟. الأمر لايبدو مجرد جريمة تم ارتكابها في لحظة من عدم الاتزان العقلي لفرد ما بقدر ما يمكن النظر اليه باعتباره تحدي معلن في وضح النهار من قبل هذا الفرد المسلح لسلطة وقوة ونفوذ الدولة، صورة الدولة لم يعد لها وجود لا داخله ولا خارجه.
ان من أعظم منجزات البشرية لايمكن ان يكون اختراع الصرف الصحى فحسب الذي انقذ الملايين من الموت بسبب التلوث، وانتشار الأوبئة الفتاكة بل اختراع الدولة القادرة على بسط سلطتها ونفوذها على الملايين واجبارهم على الخضوع للقوانين التي تنظم حركة معيشتهم وأمنهم وسلامتهم وسلامهم يعادل نفس الأهمية أيضا. ونستشعر هذا الأمر الآن في اعقاب تراجع سلطات رجال الدين نتيجة لتراجع القيم الدينية بسبب التغيرات القيمية المتزامنة مع تحرر الاوربيين من قيود القرون الوسطى في القرن الخامس عشر الميلادي وبداية دخول عصر النهضة والاستكشافات العظيمة وفوران ثورات العلم والأفكار، وأصبح التأثير الأعظم حاضرا بقوة لرجال العلم والفكر والفلسفة بعد سحب البساط من تحت أقدام رجال الكنيسة وشحوب جاذبية الجماهير تجاههم. ان تنظيم الناس تحت لواء منظومة من القوانين والتشريعات تنظم سلوكهم وحركتهم الاجتماعية، وتضبط المنحرف من القيم والتوجهات والسلوكيات أمر متعلق بمقدار التحضر الانساني والاعتقاد في ان حياة المرؤ هبه ثمينة ينبغي الحفاظ عليها. جدودنا المصريون القدماء (الذين أسسوا أقدم دولة في التاريخ الانساني قبل سنة (3200) قبل الميلاد في اعقاب توحيد الملك مينا لمملكتي الشمال والجنوب وتأسيس أول حكومة مركزية) أدركوا ذلك مبكرا، وعلى الرغم من سطوة كهنة المعابد وقوة نفوذهم داخل الدولة المصرية القديمة لكن المصريون نجحوا باعجاز لافت في موازاة التطور العلمي التقني الفائق بالطقوس والشعائر الدينية ولغة الأسرار والسحر، وانتجوا حضارة انسانية حقيقية قامت على سطوة الضمير باعتباره الهادي للحق والعدل، وكتابة التشريعات والقوانين التي تنظم العلاقات بين البشر، وعلاقة البشر بالحكام وبذلك وصفهم التاريخ باعتبارهم أول الخلق الذين عرفوا الضمير، وأول من أسسوا الدولة بمفهومها الحضاري الثقافي في التاريخ. لكن يبدو ان الأحفاد علقوا في الزمن بعد نهاية حقب الاسرات المصرية القديمة، واطماع الغزاة فيها وحولها من فرس ويونانيين وبطالمة ورومانيين وعرب وامتزاج الثقافات والانساب. غامت حدود الهوية القومية، ربما اصابها نوع من الهشاشة للدرجة التي يسهل على المغامر القوي ان يوجهها وفق رؤيته السياسة الخاصة. لكن لحسن الحظ لايمكن توجيه الجينات أو الموروثات التي انتقلت الى الأحفاد من جدودهم المصريين الأصليين، ظلت تلك الجينات قابعة داخلهم تظهر في تداولهم لمفردات مصرية قديمة في احاديثهم العفوية فيما بينهم، واسماء المدن والقرى والنجوع التي مازالت عالقة منذ الاف السنين، كذلك تظهر تلك الجينات الوراثية في فنون العمارة خاصة ما يتعلق بالكنائس والمساجد وفي ممارسات المصريين لطقوسهم الدينية مسيحية كانت أو اسلامية، وفي ممارساتهم للغناء في الافراح وطقوس الموت وبعض الالعاب الرياضية...الخ.
ان غياب مفهوم الدولة بما يتضمنه من معاني القوة والنفوذ والسطوة في انفاذ الآف التشريعات والقوانين التي يعلمها جيدا كل مصري أو قد لايعلم أو لايكترث بها قطاع واسع من المصريين نتيجة لاعتبارات ثقافية/سياسية خاصة أمر مزعج بحق، نتج عنه قيام شاب مصري في نوفمبر عام 2021 بذبح آخر في عز الظهر في شارع طنطا بمدينة الاسماعيلية الساحلية والمزدحم بالمارة، والسير في الشارع حاملا رأس القتيل التي فصلها بالساطور متباهيا بثأره لشرفه ودينه من دون ان يقترب منه أحد. تلك هي المسألة مع الوضع في الاعتبار انها ليست المرة الأولى أو الأخيرة التي يتصرف بها المصريون من منطلق "غياب الدولة"، الملاحظ المدقق لتصرفات غالبية المصريين يلاحظ انهم يتصرفون "بعفوية غرائزية" أكثر مما ينبغي، كأن في عقل وقلب كل فرد منهم دولته أو مملكته الخاصة به. البناء العشوائي في كل مكان من دون اعتبار لا لقوانين البناء المنظمة، ولا للآخرين من الجيران الذين يمكن ان يتضرروا من هذا التصرف. يمكن القياس على ذلك فيما حدث بالنسبة للاراضي الزراعية التي استلموها من الاقطاعيين بعد ثورة يوليو 1952 وكيف تحولت الى مباني قبيحة عشوائية متراصة تخنق بعضها البعض، أصبحت مثل المقابر التى تأوي الناس بعد ان كانت مصدرا عظيما للحياة والجمال والرزق. كما ان المصانع التي تم تأميمها في اوائل ستينيات القرن الماضي لصالح الشعب تحولت لاحقا الى خرائب بعد ان امتص رحيقها مديروها الذين اعتبروها ملكية خاصة بهم. ونفس الأمر حدث في المحليات التي تبسط سلطاتها على المناطق والاقاليم المحلية ومسئولة عن انفاذ قوانين الدولة فيما يخص تشريعات البناء والخدمات المحلية.
ان التحايل على القوانين المنظمة لتصرفات الناس وكذلك كافة التشريعات البشرية والسماوية أصبح ثقافة رائجة بين جميع أفراد وطبقات المصريين. غاب مفهوم الدولة تماما عن وعي المصريين فيما عدا محاولة الاقتراب من التحرش بالحكام.
ان سيادة انماط التصرفات العشوائية التي تظهر في استجابات المصريين فيما بينهم أو في علاقتهم بنظام الدولة تبين المدى الذي وصل اليه الأفراد في تأسيس كل فرد دولته الخاصة به.
ربما يكون مرد غياب فكرة الدولة عن اذهان المصريين يتعلق بمجمل تلك الغزوات التي منوا بها في اعقاب نهاية عصر الاسرات في عهد الدولة المصرية القديمة بداية بالغزو القمبيزي (نسبة لملك الفرس) الفارسي لمصر، ثم نجاح الاسكندر المقدوني اليوناني في طرد الفرس من مصر سنة 333 وتتويجه ملكا قبل ان ينجح الرومان في طرد البطالمة في سنة 30 قبل الميلاد وانضمام مصر الى عصبة الدول الملحقة بلواء الامبراطورية الرومانية وصارت مصر من أهم ولايات الامبراطورية الرومانية حينذاك، ومع دخول المسيحية مصر في منتصف القرن الأول الميلادي مع القديس مرقس وتأسيس أول كنيسة في مصر وافريقيا عانى المسيحيون المصريون من اضطهاد الرومان خاصة مع تولى دقلديانوس صدارة الامبراطورية المتسعة الأطراف بسبب الخلافات المذهبية بين سكان الأرض الاصليين والمحتلين الغزاة الرومان، حتى حدث الصدام والنزاع الكبير بين الرومان والعرب على الفوز بمصر. حسم القائد العربي الداهية عمرو بن العاص الصراع وتم طرد الرومان من مصر، وقدم المسيحيون المصريون المضطهدون خدمات جليلة للجيش الاسلامي في سبيل التخلص من الكابوس الروماني.
ثم تتابع الحكام الاجانب أمر الحكم في مصر وتنظيم شئون الدولة لاحقا لمئات السنين الأمر الذي غيب عن اذهانهم فكرة الدولة المصرية الخالصة.
كأنهم اعتادوا حكم الاجانب لبلادهم، وترتب على ذلك غياب قيم الولاء والانتماء، والفخر والاعتزاز بالمكان والناس، لسان حالهم يقول للحكام الاجانب "لكم دولتكم ولنا دولتنا"، لا حماس لوحدة الهدف والتنظيم، ولا رغبة في العمل الجماعي، ولا يوجد هدف واضح يترتب على انجازه تحقيق مشاعر العزة والزهو والتباهي والسعي لامتلاك أقصى قدر من القوة. اكتفى كل فرد بتحقيق دولته الخاصة به والتصرف مع نفسه ومع الآخرين وفق هذا الأساس، عشاوئيات في المباني وفي السلوك وتصرفات الناس مع بعضهم البعض، وراجت مقولات على شاكلة القوانين اتعملت عشان يتم كسرها، الدولة العميقة، ثقافة ضرورة المحسوبيات والوسايط لتحقيق اغراضك، ثقافة من الممكن انتهاك مصادر الحياة مثل الاعتداء على نهر النيل سواء بالردم أو ملئه بالمخلفات السامة والحيوانية، وتجريف الأراضي الزراعية الخصبة لصناعة طوب المباني لكي تمتلأ جيوب بالمال السهل.كل ذلك وأكثر لحساب مصالح خاصة ضيقة، تكشف توغل نمط الذاتوية لدى الناس والعدوان على حقوق الغير أو عدم الاكتراث بحقوق الآخرين. وعلى الرغم من وصول البكباشي الصعيدي الأصل القوي جمال عبد الناصر صاحب الشعبية العظيمة الى قمة السلطة في خمسينات القرن الماضي باعتباره أو حاكم مصري خالص يملك القرار في مصر في اعقاب نهاية عصر الاسرات في مصر القديمة، غير ان ثقافة دوران المصريون داخل دوائرهم المنعزلة التي تمثل لكل فرد منهم دولته الخاصة لاتزال منتشرة على نطاق واسع، ولم يتحرج الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي في ان يعلن لجموع المصريين اننا نعيش في شبه دولة!.
ان ادمان المصريون على العيش في دولهم الخاصة وفشلهم في انجاز دولة كبيرة عظيمة على الرغم من محاولات قادتهم الوطنيين في السابق أمر يثير الدهشة والاستغراب، لكن يبدو متفهما اذا ما تعلق فهم الأمر في سياقه التاريخي الذي شرحناه آنفا. ان المصريين بفضل جيناتهم الوراثية التي خلفها داخلهم جدودهم العظماء نجحوا على الرغم من ذلك من الحفاظ على الكيان الأساسي للدولة كما يبدو في الفنون والعمارة، واللغة والعادات الخاصة، وصلابة نفسية، ووعي فطري مدهش بعظمتهم التاريخية التليدة، وكيانهم وفلسفتهم البسيطة في الحياة، وعلاقتهم الفطرية على غرار جدودهم بالدين والمعتقدات الدينية التي لم تختلف كثيرا عما كان عليه الأمر في مصر القديمة رغم الانقلابات والزلازل التي تتابعت عليهم خلال قرون وعصور. ونجحوا في التغلب على طوفان التعصب والتطرف الذي ساد العالم أجمع وعصف بالكثير من البلدان المجاورة. لكن بالعودة الى هذا الرجل الذي تهور في شارع طنطا بالاسماعيلية وذبح خصمه وسار في الشارع متباهيا بحمل رأسه بين اصابعه يمكن اعتباره النتاج القبيح لميراث موغل في القدم ما يزال صداه يتردد في عالمنا اليوم يتعلق باشكالية غياب الدولة القوية صاحبة السطوة والنفوذ على كل ما يتعلق بمخالفة القوانين التي تنظم حركة وتصرفات الناس وتحفظ حرماتهم واموالهم وحياتهم.
واذا كانت المسألة متعلقة بالوعي ودرجة الوعي التي تدنت بفعل سيادة نمط الفوضى والعشوائية وتعامل الأفراد مع بعضهم البعض كأنهم في غابة البقاء فيها للأقوى، فان الاستجابة لدعوات العمل الجماعي والتعليم الحديث غير التقليدي وغير القبلي، والتعامل بجدية واستدامة مع كل انحراف عن القانون وارساء مبدأ الشفافية والعدالة معصوبة العينين، وتهيئة مناخ مناسب من حرية التعبير، كل ذلك يعد بمثابة البوابة الرئيسية لتنمية وتطور الوعي وقيم الانتماء والأمل والفخر والدولة العظيمة التي نتطلع اليها.
نوفمبر 2021