أمين الزاوي - حين تموت آسيا جبار للمرة الثانية!

كاتبة بحجم أمة: آسيا جبار. امرأة اسمنتية عصية في رهافة فراشة. حين نشرت آسيا جبار روايتها الأولى بالفرنسية في عام 1957، تحت عنوان "العطش" La soif، بحس أيديولوجي تعميمي، شن ضدها الكاتب الصحافي والمفكر اليساري مصطفى الأشرف، الذي أصبح لاحقاً وزيراً للتربية الوطنية في عهد الرئيس هواري بومدين، هجوماً شنيعاً، متهماً إياها بالكاتبة البورجوازية ذات النزعة الليبرالية التي تهتم بالمصائر الفردية للبورجوازية الصغيرة أكثر من اهتمامها بطبقة البروليتاريا والفلاحين، وتهتم بتاريخ العاطفة أكثر من اهتمامها بتاريخ الوطن.
ونظراً للموقع الذي كان يتبوأه الأشرف في سلم الإعلام والأيديولوجيا المهيمنة، في ظل المد الاشتراكي والشيوعي الذي ساد المرحلة من الخمسينيات حتى نهاية السبعينيات من القرن الماضي في الجزائر وأفريقيا بشكل عام، فقد ظلت هذه التهمة الأيديولوجية عقدة نفسية تنخر داخل الكاتبة الصاعدة. وقتها، لم تكن آسيا جبار قد بلغت العشرين من عمرها.
وبكثير من القوة التي تنم عن شخصية من "فولاذ أنثوي" نادر، واصلت الكاتبة الشابة مسيرتها الإبداعية ضد التيار الأيديولوجي اليساري في نقد الأدب، لتتكرس يوماً بعد يوم، رواية بعد أخرى، كاسم مغاربي وأفريقي ومتوسطي غطى على كثيرين. وتمكنت من أن تحجز لنفسها مقعداً أدبياً ممتازاً، في الصف الأول، إلى جانب محمد ديب وكاتب ياسين ومالك حداد ومولود معمري ومولود فرعون وجان عمروش. ليذكر اسمها في لوائح ترشيحات جائزة نوبل لمرات عدة.
آسيا جبار الروائية والمخرجة السينمائية والشاعرة، هي القلم النسوي المغاربي والعربي والأفريقي الذي دخل الأكاديمية الفرنسية في عام 2005. أصبحت عضواً في هذه المؤسسة قبل أن يدخلها الكاتب اللبناني الكبير أمين معلوف. وكانت عضواً في الأكاديمية الملكية البلجيكية للغة والأدب الفرنسيين منذ 1999 حتى وفاتها في عام 2015.
حين اختيرت عضواً في الأكاديمية الفرنسية، ثارت ضدها بعض الأسماء من "الكتاب" الذين يسترون غيرتهم وأحقادهم في غلاف "وطني" أيديولوجي معطوب ومَرَضِي. فقد هاجموها لكونها قبلت بعضوية الأكاديمية الفرنسية، المؤسسة الأكثر قيمة في فرنسا، بحجة أن هذه أكاديمية لغة مُسْتَعْمِر البارحة: الاستعمار الفرنسي.
مرة أخرى، استطاعت وبكثير من القوة والشجاعة والصبر أن تواجه الأصوات الناعقة التي يحلو لها العيش في الماء الكدر، ويحلو لها أن تطلق النار على كل نجاح أو تفوق أو تميز.
توفيت آسيا جبار في 6 فبراير (شباط) 2015. وفي العام نفسه، قررت الجزائر الرسمية بكثير من الارتجال أن تؤسس لجائزة باسم آسيا جبار، تحت اسم الجائزة الكبرى آسيا جبار للرواية الجزائرية، تشجيعاً ومرافقة للإبداع الروائي الجزائري الجديد باللغات الثلاث: العربية والأمازيغية والفرنسية.
على الرغم من هذه الارتجالية، إلا أن مكونات الحقل الأدبي الجزائري بشكل عام، من كتاب وناشرين وقراء، جميعهم صفقوا للمبادرة واعتبروها خطوة إيجابية في اتجاه تكريم الذاكرة الأدبية ممثلة في واحدة من الكتاب الجزائريين والأفارقة والمتوسطيين الذين سجلوا أسماءهم الأدبية في سجل الخالدين. وهو الاسم الذي ظل مرتبطاً بجزائر الحداثة، جزائر العدالة وحقوق الإنسان والمساواة بين الرجل والمرأة وحرية التعبير. واعتُبرت الجائزة مبادرة إيجابية من حيث أنها تحتفي وترافق الأقلام الجديدة في الأدب الروائي الجزائري باللغات الثلاث. وهي في حد ذاتها إشارة إلى احترام التعددية السردية في تعدديتها اللغوية والسياسية والجمالية.
انطلقت جائزة آسيا بإشراف من وزارتين في حكومة الجمهورية الجزائرية: الاتصال والثقافة. وقد تولت مؤسستان تابعتان للوزارتين المذكورتين التكفل بالجانب المادي والتنظيمي، وهما على التوالي: الوكالة الوطنية للإشهار (وزارة الاتصال) والمؤسسة الوطنية للفنون المطبعية (وزارة الثقافة). وتعد الأولى أغنى المؤسسات الثقافية الإعلامية على الإطلاق، إذ تحتكر الإشهار (الإعلان) في الجزائر. وهي مؤسسة عبارة عن "كهف علي بابا"، تنام على ثروة عجيبة. فهي من يتولى توزيع الإعلانات على الصحف بالمليارات. وعرفت في عهد الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة بدعمها "اللامسؤول والمشبوه" لكثير من العناوين التي لم يكن لها أي وجود في السوق. وهي صحف تكاد تكون وهمية. ما أساء كثيراً إلى حقل الإعلام الجزائري. وهي، إضافة إلى ذلك، دار نشر للكتب. أما المؤسسة الثانية، أي (الوطنية للفنون المطبعية)، فتعد أكبر مؤسسة للنشر في الجزائر من حيث الإمكانات المادية. وبدأت مسارها في سبعينيات القرن الماضي باقتناء أكبر مطبعة على المستوى الأفريقي. وقد تم تحديثها وتجهيزها في السنوات الماضية بمطبعة من الجيل التكنولوجي الجديد. وتمتلك إمكانات غير مسبوقة في تقنية الطبع. وهي إضافة إلى ذلك دار نشر.
بهذا المعنى، وبهذا التوصيف، اعتقد الجميع أن مستقبل جائزة آسيا جبار مضمون ومؤمن وقادر على الاستمرارية، باعتبار أن قيمتها المادية ليست كبيرة، إذ حددت قيمتها بمليون دينار جزائري أي ما يعادل عشرة آلاف يورو. وهي قيمة متواضعة أمام قيمة الجوائز الأخرى، مقل "البوكر العربية" أو "كتارا"... خصوصاً أن تمويلها من مؤسستين تابعتين للدولة وتنامان على ثروة كبيرة.
وكانت احتفالات توزيع الجائزة في دوراتها الثلاث الأولى بهيجة، وقد روج لها الإعلام بشكل مثير، لكن شيئاً فشيئاً بدأت تعرف بعض الصراعات بين الوزيرين المسؤولين عن القطاعين والمشرفين على الجائزة. فكل واحد منهما يريد أن يضغط على أعضاء اللجنة لفرض اسم الفائز من محيطه. وبدأت طبخات كواليس لجنة التحكيم تصعد منها روائح غير طيبة.
وأمام بداية انهيار الجائزة، التزمت لجنة التحكيم الصمت، ولم تندد بتصرفات تسيء إلى الجزائر واسم آسيا جبار والمتوجين أيضاً. وبدأ بعض أعضاء اللجنة يوشوشون، في أحاديث جانبية، عن الضغوط التي يتعرضون لها من أجل تتويج هذا الاسم والحجر على اسم آخر.
وأضحت الجائزة مهددة، وأصبح الحلم كابوساً، وباتت صورة آسيا جبار في مهب الريح، معرضة للتشويه والابتذال. ومع الدورة الخامسة، نزلت قيمة الجائزة من نحو عشرة آلاف يورو إلى ستة آلاف (من مليون دينار إلى 700 ألف دينار).
لم يتوقف انهيار المشروع بخفض قيمة الجائزة في دورتها الخامسة، ولكن بتوقيفها نهائياً، من دون أي توضيح أو تفسير أو تعليق من الجهات المنظمة.
فالوضع الصحي العالمي المتمثل في جائحة "كوفيد-19" ليس مبرراً. فلم توقف أي جائزة عالمية أو عربية. وكل ما تغير هو تقاليد حفل توزيع الجوائز. فقد فضل بعضها التوزيع عبر منصات التواصل عن بعد، وبعضها الآخر قرر تقليص عدد الحضور بما يسمح للمنظمين احترام البروتوكولات الصحية المطلوبة. ولم توقف الحرب في سوريا جائزة حنا مينة للرواية. أما في الجزائر، فلا هذا ولا ذاك، بكل بساطة تم محو الجائزة من المواعيد الأدبية في بلاد يعيش فيها الكتاب والناشرون حالة من اليأس والانهيار الذريع.
بكثير من الحزن والأسى والغضب ينظر المثقفون والكتاب والناشرون إلى هذا المحو الممأسس الذي تمارسه مؤسسات ثقافية كبيرة بأموال طائلة ضد الذاكرة الثقافية وضد رموز الأدب والثقافة في الجزائر.
مع إلغاء جائزة آسيا جبار، منذ 2019، يظهر بأن الفعل الثقافي في الجزائر مؤسس على الارتجال والصدفة ومزاج الأشخاص المتحكمين في المؤسسات.
أن يتم إسقاط جائزة آسيا جبار، فهذا عيب وعار، وهو فعل لامسؤول يجب إدانته أخلاقياً وثقافياً وسياسياً.
إنني أتخيل آسيا جبار تتقلب في قبرها في مدينة شرشال العريقة، وهي تشهد نهاية جائزة باسمها في بلد أعطته أجمل نصوصها الروائية والشعرية وأعطته أجمل أفلامها أيضاً.
سامحينا آسيا جبار، سامحينا أيتها الكاتبة الاستثنائية، على هذا الغباء الممأسس الذي ينخر ثقافتنا منذ أكثر من نصف قرن من الاستقلال.


(المقال الأسبوعي المنشور بأندبندت اللندنية كل خميس ، الرابط:
https://www.independentarabia.com/.../%D8%AD%D9%8A%D9%86...)




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى