كأنه يحتضن آلة كمان مصنوعة من خشب الصنوبر المعتق بطريقة جيدة، وكأنه ينتشي مع القوس المشدود الذي يلامس الأوتار المتوثبة فتصنع لوحة موسيقية تٌرُج الوجدان، وتلقي به في عالم سحري غائم. هذا ما يحدث له دائما حينما تمتد أنامله تحتضن العصى الخشبية للمقشة البدائية المصنوعة من ليف النخل الخشن، ويدخل غرف الموظفين في المصلحة في الصباح الباكر وقبل وصولهم، يزيح بمنتهى التلذذ كل ما علق على الأرضيات من آثار أغبرة و أوساخ وبقايا طعام واعقاب سجائر واكواب شاي وفناجين قهوة فارغة أو نصف فارغة، وقاذورات تخلفت من أحذيتهم المتسخة، ثم يعمل فوطته المبتلة على المكاتب تنظيفا ونحتا وتلميعا قبل أن يدلف الى دورات المياه مصطحبا الجردل البلاستيك والمساحة الكاوتش، ويستمر في التنظيف والتلميع والكشط بمنتهى الجدية والشغف. يحاول بكل جهده أن ينتهي من كل ذلك قبل أن يتسمع بأذناه المرهفتان وقع دبيب أقدام الموظفين وانتشارهم في غرفهم وعلى مكاتبهم مصطحبين معهم الجلبة والضوضاء وطلبات الإفطار والشاي والقهوة وأخبار الزيادات المرتقبة في المرتبات، والغلاء المستعر الذي ينهش الأسواق والمرتبات. خمس سنوات مضت بسرعة الريح على هذا الحال لم ينغص عليه شيء في عالمه سوى ما حدث له مع زوجته اللئيمة، قريبته التي حسبها قطة مغمضة مثلما قالت له والدته. زوجوها له قبل ثلاثة سنوات، وفي اليوم الرابع للزواج انكشفت على حقيقتها، إمراءة صعبة المراس، كارهة لكل شيء، تقدس نفسها لأبعد الحدود، تسعى للسيطرة على جميع من في البيت بما فيهم عمتها. علقت منه ليلة الزواج، ليس متاكدا عما اذا كان قد تمكن من معاشرتها مرة اخرى بعد نهار اليوم الثالث للزواج أم لا؟، طفت المشاكل والخلافات الى السطح بين العائلتين منذ اليوم السابع للزواج. كان يمضي الليل في نِقار وصخب وصراخ وجيران يملأون البيت حتى الفجر، ومع ذلك كان يذهب في الصباح الباكر جدا الى المصلحة يحتضن المقشة، يمضى من غرفة لأخرى، يكنس أحزانه والآمه مع أغبرة الأرض، تمتزج دموعه بقاذورات الموظفين وأوحالهم التي خلفوها قبل ذهابهم، تحولت المقشة في يديه وبين احضانه الى وليف جميل، حنون، يفضي له بهمومه وأسراره، ويقتل أحزانه على نغمات أوتارها وهو يتنقل من غرفة الى أخرى، ومن وجه الى آخر، ومن دمعة الى أخرى. وجاء اليوم الذي وضعت فيه زوجته ابنته الجميلة، وجاءت معه الأسئلة الصعبة والقرارات الصعبة، ارتفعت وتيرة تسلط المرأة الزوجة وحماقتها، سقطت امه صريعة لتوترات نفسية غير محتملة مع ابنة اخيها العاقٌة. قرر أخيرا تطليقها والتخلص من متاعبها الى الأبد، ولم يكن هناك بد سوى أن يقترض مبلغا كبيرا من المال لكي يتخلص منها وديا، ومع ذلك ما تزال تساومه على الإبنة الجميلة. فيما خلا مقشته الأصيلة التي يبوح لها بكل أسراره، ويدفع اليها ببعض أحزانه ويشكو لها عن أيامه القاسية، ليس هناك مخلوق في هذا العالم يدري شيئا عن زوجته اللئيمة، ولا عن ذلك الجحيم الذي يهوي فيه بمجرد دخوله منزله وحتى لحظة خروجه في الصباح الى المصلحة ولقاء معشوقته. يمضي في ردهات المكان بهدوء بعد ان ينتهي من عمله الصباحي المعتاد قبل وصول الموظفين مباشرة، عيناه لا تغادران الأرضية كأنما يبغي التأكد من جودة عمله الذي انتهى توا، وفي يقينه دائما تلك اللغة الصامتة التي تدور بين عينيه والأرضية التي يتفنن طول الوقت في كيفية استرضائها وجعلها تتباهى به، وبعشقه لها. بشرته السمراء الجذابة ووجهه المستدير وشاربه الخفيف مع عينيه المستديرتين الواسعتين، وهدوءه، وصوته الخفيض على الدوام جعلا منه شابا ثلاثينيا مدهشا، جذابا، هذا الى جانب عفويته المميزة، وزهده، وعفته عن النظر لما في يد الآخرين، أو في جيوبهم، وتفانيه في عمله بدون التطلع الى أو توقع المقابل، كل ذلك رفع أسهمة في الادارة بدرجة مدهشة، لم يعد هناك شخص لايستطيع سوى أن يحبه ويقربه منه، أصبح أيقونة المصلحة ورجلها المفضل عند الجميع. الكل يسعى لتقديم أي خدمة يطلبها، أو تقديم مساعدة، لكنه على الدوام لم يطلب شيئا من أحد. لذلك لم يكن مدهشا ان يستدعيه أحد موظفي المصلحة ذات يوم والبشاشة والفرح يملأن وجهه ويطلب منه أن يصعد بسرعة الى شئون الموظفين لأن هناك اخبارا سارة في انتظاره، شكر الرجل. لم ينفطر قبله من الفرحة، لم يعتد أن يتوقع شيئا أكثر مما هو عليه، يعتقد أنه في قمة تدرجه الوظيفي وفي قمة رضاه أيضا، جال بخاطره أن ثمة مكافأة مالية ربما خصصوها له، لكن أبعد من ذلك يعتبر خارج نطاق توقعاته ومدركاته. التقاه رئيس شئون العاملين بالمصلحة في مكتبه المهيب، كان الرجل يمسح شاربه غزير الشعر باصبعه، رفع عينيه لمدة دقيقة واحدة عن الأوراق التي أمامه، وأعاد تثبيت نظارته الطبية، أخبره بعجالة إنه بمراجعة ملف خدمته في إدارة التسويات إكتشفوا أنه حاصل على دبلوم الصنايع، ولذلك من حقه أن يتحرك من وظيفة عامل الى وظيفة كاتب في ادارة الحسابات، وإن عليه ان يذهب فورا لتسلم عمله ومكتبه الجديد في الإدارة"، واستدار الرجل الى أوراقه بعد أن ابتسم له بأريحية مهنأ، ومرددا " إنت ابن حلال". خرج من المكتب مرتبكا، حائرا، لم يطلب تسوية، ولم يفكر في ترقية يوما ما، فهو سعيد بما يفعله، وراض عن وضعه وعمله الذي يحبه بشغف، دارت قدماه وجالت على غير سيطرة، وجد نفسه يدخل الغرفة التي يشونون فيها أدوات ومواد التنظيف الخاصة بالمصلحة، توجه مباشرة نحو المقشة، بمنتهى التلقائية سحبها وطفق يمسح أرضية الغرفة بغيظ قبل أن يتنبه الى حاله ويضمها بين ذراعيه ويسندها على الجدار برقة وهدوء بجوار أدوات النظافة الأخرى. خرج من الغرفة، عيناه زائغتان، تملكه شعور جارف بأنهم يخرجونه من جلده، دارت في رأسه الأفكار، لم يسع الى تسوية أو ترقية، لكنهم سعوا من دون علمه، ومن دون إذنه، ومن دون إرادته ايضا، صادف سهما مرسوما على الحائط ضمن لوحة خشبية كبيرة مكتوب عليها " ادارة الحسابات"، كأنه يراها لأول مرة على الرغم من معرفته التامة بتفاصيل ارضيتها، ونوعية الفضلات التي يتركها موظفيها، وخلافاتهم مع بعضهم، ويحفظ عن ظهر قلب مزاج كل منهم في مشروبه المفضل ونوعية سجائره التي يبتلعها في صدره. وجد نفسه وسطهم فجأة، استقبلوه بترحاب لم يتبرأ من سخرية. العامل الذي كان يدور بينهم حتى ظهر اليوم بالمقشة وجردل وفرشاة التنظيف، ثم يلف على مكاتبهم حاملا صينية متروسة بأكواب الشاي وفناجين القهوة يوزعها عليهم فردا فردا، الآن سوف يجاورهم في مكاتبهم، ويصبح ندا لهم، تقدم بعضهم لتحيته وابتسامة عريضة تشق وجهه، وتراجع كثيرون، لكنه لم يلحظ ذلك، كان وعيه غائبا، وتفكيره مشوشا، لم يرد على التحايا، ولم يهتم بتعليمات رئيس الإدارة وهو يشير له الى مكتبه الجديد واختصاصات عمله الجديد، كل الذي أدركه بعد أن هدأت ضجة الإستقبال وبدأ الموظفون في الإنصراف تباعا، واستعاد المكان هدوءه ووقاره، إنه توجه بخطوات سريعة نحو غرفة تشوين أدوات النظافة، وضم المقشة بين ذراعيه وهرع نحو ادارة الحسابات وكانت قد خلت تماما من الموظفين، طفق يعمل المقشة في الأرضية بمنتهى الهمة ومنتهى النشاط حتى أصبحت الأرضية نظيفة تماما، ثم أفرغ الفضلات والأوساخ في الكيس البلاستيك الأسود، وحمله معه الى الخارج قبل أن يطوحه بقوة في صندوق القمامة الكبير المركون بجوار باب المصلحة في الشارع الرئيسي.
د. احمد الباسوسي
مايو 2016
د. احمد الباسوسي
مايو 2016