نور الدين صمود - الهمس الصاخب: شاعر قديم يقوم بأقدم عملية إشهار تجاري

كثيرا ما قام الشعراء القدماء بوصف الحسان في ملابسهن الفاخرة، وهذا أمر طبيعي معروف، لكن من غير المألوف أن يقوم شاعر بعملية إشهار شبيهة بما يقوم به أهل الاختصاص في ميدان الإشهار التجاري في العصر الحاضر الذي يُقصد منه ترويج البضاعة بين الناس بأسلوب يغري المشترين وخاصة من الجنس اللطيف الذي يدفعه الإغراء إلى الشراء.
وأقدم ما عثرت عليه في هذا الموضوع، تلك الأبيات التي أنشدها سعيد الدارمي في الخُمُر السوداء، (والخمار يُجمع على خُمُر، وهو ما تغطي به المرأة رأسها ووجهها، على وزن حمار وحُمُر) فقد قال أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني ج 3 ص 44: (يروى أن تاجرا من أهل الكوفة قدم إلى المدينة بخُمُرٍ فباعها كلها وبقيت السُّودُ منها فلم تنفُقْ «أي لم ترُجْ» وكان صديقا للدارمي، فشكا إليه، وقد كان نسك» أي أنه في ذلك الوقت قد تنسك وتعبّد وتزهّد وتقشف» وترك الغناء وقول الشعر، فقال له: لا تهتمَّ فإني سأُنفقها لك (أي سأروجها) حتى تبيعها أجمعَ. ثم قال:
قلْ للمليحةِ في الخِمار الأسودِ: ماذا صنعتِ براهبٍ متعبّدِ؟
قد كان شمَّرَ للصلاة ثِيابه حتى وقفتِ له بباب المسجدِ
فسلبتِ منه دينه ويقينه وتركتِه في حَيْرةٍ لا يهتدي
رُدِّي عليه فؤاده وحياته لا تقتليه بحق دين محمدِ
وغنَّى فيه، وغنَّى فيه أيضا سِنانُ الكاتب، وشاع في الناس وقالوا: قد فتك الدارمي «أي مجن» ورجع عن نسكه. فلم تبق في المدينة ظريفةٌ إلا ابتاعت خمارا أسودَ حتى نفِدَ ما كان مع العراقي منها، فلما علم بذلك الدارمي رجع إلى نسكه ولزم المسجد.)
تلك هي قصة الخِمار أو البُرقُع الذي تحدث عنه سعيد الدارمي في شعره وزعم أن الراهب المتعبِّد قد كان شمر للصلاة ثيابه وعزم على التوبة، لكنه عندما رأى صاحبة الخمار الأسود واقفة له أمام باب المسجد فسلبت منه دينه ويقينه وتركته حائرا في حسنها لا يهتدي إلى الطريق المستقيم، لذلك طلب منها أن تردَّ عليه دينه ويقينه، واستحلفها بدين خاتم الأنبياء محمد عليه السلام أن لا تقتله بفتنتها، فكان هذا الشعر مثل الومضة الإشهارية التي روجت خُمُرِ التاجر العراقي، لأنه زعم في شعره أنها تزيد الفاتنات فتنة على فتنتهن وتعطيهن جمالا لم يكن موجودا في الأصل. وقد قال راوي الخبر أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني إن تلك الخُمُر السوداء قد بيعت في أسرع وقت إذ تهافتت عليها حِسانُ المدينة، وبحسب تعبيره هو : «لم تبق في المدينة ظريفةٌ إلا ابتاعت خمارا أسودَ حتى نفِدَ ما كان مع العراقي منها».

وهكذا رأينا أن الإشهار يفعل في الناس فعل السحر، فيصدِّقون حتى مزاعم الشعراء الذين قيل عن شعرهم: أجمل الشعر أكذبه، ولكن كذبهم كالسحر الحلال، وكالماء العذب الزلال.
وبالمناسبة أذكر أن أحد الأذكياء أراد أن يقنع صديقه بدور الإشهار في ترويج البضائع، فقال له: هل تأكل بيض البط والإوز؟ فقال: لا. فقال: وهل تأكل بيض الدجاج؟ فقال: نعم. فقال: وهل تعرف سبب إقبال الناس على أكل بيض الدجاج دون بيض البط والإوز؟ فقال: لا أعرف. فقال: سبب ذلك الإعلان والإشهار، فالبطة والإوزة تبيض ثم تنصرف عن بيضتها صامتة فلا يعلم أحد أنها باضت، أما الدجاجة فإنها إذا باضت تظل تُقاقي وتصيح، بصوت فصيح، حتى تكاد تُسمع الصم، من باب الإعلان والإشهار، فيتهافت الناس على بيضها. أرأيت نتيجة الإشهار؟
والملاحظ أن أبا الفرج لم يذكر إلا البيتين الأولين من الأبيات الأربعة السابقة لأن الدارمي قد كان يملك الحس الذي يملكه الشعراء المجيدون الذين يؤمنون بقول البحتري:

الشعر لمحٌ تكفي إشارته وليس بالهذْرِ طُوِّلتْ خطبهْ
كما كان يملك حس رجال الإشهار المعاصرين الذين يعرفون أن الإشهار لمحة خاطفة. وهكذا يمكن لنا أن نقول: لعل البيتين الثالث والرابع من تلك الأبيات قد وضعهما بعض الوضّاعين الذين أرادوا أن يبينوا تأثير الخُمُر أو البراقع السود على قلوب النساك والرهبان والمتعبدين، ومن باب أولى وأحرى على قلوب عموم الناس، ولعل ذلك كان بطلب من المغنين الذين أرادوا إطالة الأغنية، وقد قام الأستاذ أحمد الغربي من تونس بتشطير تلك الأبيات لنفس الغرض، وقد غناها المطرب السوري المعروف صباح فخري.
وأختم هذا الحديث بفتح قوسٍ توضيحيٍّ لتخفيف الموضوع فأقول: (كانت البراقع لا تُظهر من الوجه إلا العيون التي تصوبها الحسان كالنبال، فتصطاد بها قلوب الرجال، عندما تخفي وجوها فتانة، وقد تستر وجوها مزعجة مثل ذلك الوجه الذي كان سببا في شيوع مثل عربي قديم له قصة طريفة خلاصتها أن رجلا أضاع أهلُه حمارا فطلبوا منه أن يسعى في البحث عنه، وأثناء بحثه رأى في طريقه امرأة (جميلة المنْتَقَب)، (أي جميلة العينين تحت النِّقاب أو البرقع أو الخمار) فتبعها وأظهر تعلقه بها، وفي أحد المنعطفات أسفرت عن وجهٍ ذي فم واسع غليظ أدرد وقالت له بصوت أجْشَّ: ماذا تريد مني؟ فإذا بها (قبيحة المَسْفَر) ففرَّ منها هاربا وهو يقول: «ذكّرني فوكِ حمارَ أهلي» ثم واصل البحث عن حمار أهله الضائع، حتى قابله فكانت طلعته البهية، أجمل من سِحنتها الزرية.

وقد ذكرتني هذه النادرة القديمة بذلك القاضي الذي شكَت إليه امرأة (ذات نِقاب) مِن زوجها وخاطبته بصوت رقيق فيه خضوع وخنوع، فلما أحس الزوجُ أن القاضي قد تأثر برقة صوتها وهمَّ بأن يحكم لها عليه، قال للقاضي: «إني أشك أن تكون هذه المرأة زوجتي لذلك أرجو منك أن تأمرها بإزالة الحجاب فأنا أظن أنها ليست هي» فصادف هذا الطلب هوى في نفس القاضي، فقال لها: أزيلي الحجاب ليتأكد زوجُك أنك لست امرأة أخرى. فتمنعت وتمسك القاضي بما طلبه الزوج بالقانون، وعندما استجابت للطلب رأى القاضي وجهًا ذكّره بقول الشاعر القديم في وصف امرأة قبيحة المنظر:
وتفتحُ لا كانت فما لو رأيته توهّمتَهُ بابا من النار يُفتَحُ
فقال لها: «قاتلكِ الله! لكِ صوت مظلوم ووجه ظالم».
ولا بد في الختام من تقديم تعريف موجز بالشاعر الذي قام بأقدم عملية إشهار تجاري فهو سعيد الدارمي التميمي من بني سُويد بن زيد: شاعر غزِلٌ من المغنين الظرفاء من أهل مكة، كان ينظم الأبيات ويضع لحنها ويغنيها، توفي نحو 155ه وهو غير مسكين الدارمي، المسمّى: ربيعة بن عامر بن أُنَيِّف بن شُريح الدارمي التميمي، وهو شاعر عراقي شجاع من أشراف تميم توفي نحو 89ه وليس هو صاحب أقدم إشهار، وقد نبهت إلى ذلك لأني رأيت الكثير ينسبونها إليه خطأً.
هل يمكن أن نعتبر هذه العملية سبقا عربيا في ميدان الإعلان أو الإشهار التجاري الذي ملأ القنوات التلفزيونية وأصبحت تعتبره مورد ربح من مبتكرات هذا العصر؟

نور الدين صمود
نشر في الشروق يوم 29 - 08 - 2010




تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى