لا يعرف متى وأين، فض لها من على قلبه أقفاله، ليست هذه هي محنته، وإنما إحساسه برعشة يده، في كل مرة، يقرر فيها رد الأقفال إلى موضعها، واسترداد قلبه المختطف.
ليست أول امرأة، ولن تكون بالتأكيد آخرهن، فهو يبدّلهن كما يبدل رابطة عنقه، كان واثقًا من طبع قلبه المطيع، لا يعصي له أمرًا، لم يزعزع ثقته شكٌ، في أنها ستغادر عندما يريد هو، وليس لها من الأمر، إلا أن تجمع أوراقها وترحل.
بين جنبيه "طفل" مُدلّل، عندما يمل لعبته، لا يحتفظ بها في خزانته، وإنما يتركها حِطامًا مبعثرًا، يستعصى على رده إلى هيئته الأولى، ليلهو به تباعًا أطفال آخرون.
لم يكن متأكدًا أيهما كان الفريسة، وأيهما كان الصياد، كلاهما كان يتعقب الآخر وداخله حفرة عميقة يختبئ فيها ثعلبٌ جائعٌ.
ثرثارة ولكنه لا يمل حديثها، كلما شاء أن يمخر بقاربه بعيدًا عن ضغوط عمله الشاق، كان يرفع سماعة الهاتف، ويتحدثان معًا بالساعات في كل ما هو تافه: ضحكتها تحاكي رنة الفضة، صوتها ناعم مثل مواء القطط، مثخن بالخضوع كأنها نفضت لتوّها شيئًا "ما" على فراش المتعة. قالت له مرة، إن زميلات لها في العمل، يُصبن بالهلع غيرةً على أزواجهن، حال طلبت إحداهن على الهاتف، ورد عليها الزوج، وسمع صوتها الذي يخر له أعتى الرجال "هدا".
مهذبة جدًا، ولكنها تخفي وراء إتيكيت أولاد أحياء القاهرة الراقية، جرأة تظهرها بتردد أحيانًا، ويراها تلمع في عيونها الوقحة أحيانًا أخرى. تتصنع الغضب حال سمعت كلمة نابية، ثم تلح على سماعها إذا كانت، تحمل مطرًا باردًا، يرطب جفاف الكثبان الظامئة تحت سفح جبلها الناتئ.
وجدت فيه رجلًا حنونًا ومجنونًا، لا تعوزه الجرأة والمهارة، في إشباع الشبق المختبئ، تحت هذه البراءة المصطنعة، دون أن يجرحها بتعرية طفولتها الكاذبة.
أحبّت فيه هذه الطريقة، التي فهمتها بسذاجة بأنه مجنون ولكنه قروي "غلبان" صدق بأن الصورة ليست مزيفة.
لاحظ شغفها بسماع ما يتعمد قصّه عليها من مغامرات، أيام نزقه في متاهة الرغائب المجنونة، قليلها صحيح وأكثرها أكاذيب، يقفز على المشاهد التي يضرب عندها خيمته، ويغرز بعدها بيرقه في عمق مغارات بين جبلين أبيضين، متوقعًا أنها ستلهث بشغف في طلب التفاصيل، وكأنها بالونات اختبار أطلقها فوق صحرائها العطشى.
يأتي رد فعلها كما توقع، يمضى في حبك الأكذوبة تلو الأخرى، فهي شغوفة، ومستسلمة، يشعر برعشة جسدها مثل الشاة الذبيحة، ينتفض بجواره، يغمد وهجه في شرايينه، تلهث أنفاسه، كأنه يتسلق جبلًا حاملًا ثقلًا على كتفيه، يسمع خفقان قلبه في قعر أذنه الوسطى. تمدّ يدها الدافئة، لتقبض على يده بقوة، تسأله بخضوع يفلق الحجر: ثم ماذا ؟! يهمس في أذنها، بكل ما يشق الجسر، ويدفع بالماء البارد، إلى أرضها الشراقي.
تختفي فجأة بالأيام، يلاحقها بهوس، مثل قط أصابه مسٌ من الجنون، وهو يبحث عن جرذ، أفلت من بين مخالبه، واختبأ في عتمة غرفة مكتظة بالكراكيب. هاتفها مشغول بالساعات، ومغلق ما تبقى من ليل أو نهار. وإن ردت.. ترد عليه بغير اهتمام، وإن عاتبها، ينقلب مواء القط إلى كأكأة غراب متتابعة، لا تمنحه فرصة أن تسمعه، ينفد صبره عليها، يغلق الهاتف من حيث لا تشعر، ويتركها على الطرف الآخر، تتشاجر مع نفسها.
فجأة يتلقى رسالة منها على الواتس آب: "أنا في البنك.. سأنتظرك إلى أن تأتي"، يشعر بحفيف قفزات قلبه المرحة، مثل طفل عادت إليه أمه بعد طول غياب. رمقها تجلس في قاعة الانتظار، تعبث بعقد العاج الذي وضعته حول جيدها الجميل، عنق الإوزة الذي يحبه، واضعة ساقًا على ساقٍ، فخطف عينه خلخالها الذهبي، يطوق ساقها الأبيض الناعم، فبدت وكأنها أشهى نساء العالم.
قال لها وهما ينتظران النادل بمقهى بشارع مصطفى النحاس: لقد أصبحت جزءًا من هويتي!
كان يعجبها ثقافته الواسعة، لم تقرأ يومًا مقالته اليومية، في الصحيفة التي يعمل بها، ولكنها كانت تدرك أهميته، وشغف الرأي العام بما يكتبه، وحضوره الكاريزمي أمام الكاميرا في برامج الـ"توك شو"، وكانت لغته العالية، أداته في إبهارها، وسحقها وتعزيز شعورها بالدونية أمامه، واستسلامها بين يديه، يقلبها كيف يشاء.
نظرت إليه مستغربة ـ فيما يبدو ـ كلمة "هويتي".. قالت: "يعني إيه؟!"
لم يمهل نفسه وقتًا، لانتقاء مرادف يفتح لها ما استشكل عليها.. تأمل برهة وجهها الجميل ثم قال يعني: "بتِ تجري في عروقي مجرى الدم".
وعلى الرغم من أنه ظل لسنوات يهرب من مواجهة نفسه بالسؤال عما إذا كانت علاقته بها حبًا أو اشتهاءً، إلا أن هذه الدقائق القليلة، كانت هي أصدق لحظات حياته مع هذه المرأة، التي أدمن عبق عطرها، في كل مرة يدلف فيها إلى سيارته، وأنفاسها منذ أن عانقت وتخللت أنفاسه في المرة الأولى.
محمود سلطان
من المجموعة القصصية الجديدة "رأيت أميرًا سلجوقيًا"
ليست أول امرأة، ولن تكون بالتأكيد آخرهن، فهو يبدّلهن كما يبدل رابطة عنقه، كان واثقًا من طبع قلبه المطيع، لا يعصي له أمرًا، لم يزعزع ثقته شكٌ، في أنها ستغادر عندما يريد هو، وليس لها من الأمر، إلا أن تجمع أوراقها وترحل.
بين جنبيه "طفل" مُدلّل، عندما يمل لعبته، لا يحتفظ بها في خزانته، وإنما يتركها حِطامًا مبعثرًا، يستعصى على رده إلى هيئته الأولى، ليلهو به تباعًا أطفال آخرون.
لم يكن متأكدًا أيهما كان الفريسة، وأيهما كان الصياد، كلاهما كان يتعقب الآخر وداخله حفرة عميقة يختبئ فيها ثعلبٌ جائعٌ.
ثرثارة ولكنه لا يمل حديثها، كلما شاء أن يمخر بقاربه بعيدًا عن ضغوط عمله الشاق، كان يرفع سماعة الهاتف، ويتحدثان معًا بالساعات في كل ما هو تافه: ضحكتها تحاكي رنة الفضة، صوتها ناعم مثل مواء القطط، مثخن بالخضوع كأنها نفضت لتوّها شيئًا "ما" على فراش المتعة. قالت له مرة، إن زميلات لها في العمل، يُصبن بالهلع غيرةً على أزواجهن، حال طلبت إحداهن على الهاتف، ورد عليها الزوج، وسمع صوتها الذي يخر له أعتى الرجال "هدا".
مهذبة جدًا، ولكنها تخفي وراء إتيكيت أولاد أحياء القاهرة الراقية، جرأة تظهرها بتردد أحيانًا، ويراها تلمع في عيونها الوقحة أحيانًا أخرى. تتصنع الغضب حال سمعت كلمة نابية، ثم تلح على سماعها إذا كانت، تحمل مطرًا باردًا، يرطب جفاف الكثبان الظامئة تحت سفح جبلها الناتئ.
وجدت فيه رجلًا حنونًا ومجنونًا، لا تعوزه الجرأة والمهارة، في إشباع الشبق المختبئ، تحت هذه البراءة المصطنعة، دون أن يجرحها بتعرية طفولتها الكاذبة.
أحبّت فيه هذه الطريقة، التي فهمتها بسذاجة بأنه مجنون ولكنه قروي "غلبان" صدق بأن الصورة ليست مزيفة.
لاحظ شغفها بسماع ما يتعمد قصّه عليها من مغامرات، أيام نزقه في متاهة الرغائب المجنونة، قليلها صحيح وأكثرها أكاذيب، يقفز على المشاهد التي يضرب عندها خيمته، ويغرز بعدها بيرقه في عمق مغارات بين جبلين أبيضين، متوقعًا أنها ستلهث بشغف في طلب التفاصيل، وكأنها بالونات اختبار أطلقها فوق صحرائها العطشى.
يأتي رد فعلها كما توقع، يمضى في حبك الأكذوبة تلو الأخرى، فهي شغوفة، ومستسلمة، يشعر برعشة جسدها مثل الشاة الذبيحة، ينتفض بجواره، يغمد وهجه في شرايينه، تلهث أنفاسه، كأنه يتسلق جبلًا حاملًا ثقلًا على كتفيه، يسمع خفقان قلبه في قعر أذنه الوسطى. تمدّ يدها الدافئة، لتقبض على يده بقوة، تسأله بخضوع يفلق الحجر: ثم ماذا ؟! يهمس في أذنها، بكل ما يشق الجسر، ويدفع بالماء البارد، إلى أرضها الشراقي.
تختفي فجأة بالأيام، يلاحقها بهوس، مثل قط أصابه مسٌ من الجنون، وهو يبحث عن جرذ، أفلت من بين مخالبه، واختبأ في عتمة غرفة مكتظة بالكراكيب. هاتفها مشغول بالساعات، ومغلق ما تبقى من ليل أو نهار. وإن ردت.. ترد عليه بغير اهتمام، وإن عاتبها، ينقلب مواء القط إلى كأكأة غراب متتابعة، لا تمنحه فرصة أن تسمعه، ينفد صبره عليها، يغلق الهاتف من حيث لا تشعر، ويتركها على الطرف الآخر، تتشاجر مع نفسها.
فجأة يتلقى رسالة منها على الواتس آب: "أنا في البنك.. سأنتظرك إلى أن تأتي"، يشعر بحفيف قفزات قلبه المرحة، مثل طفل عادت إليه أمه بعد طول غياب. رمقها تجلس في قاعة الانتظار، تعبث بعقد العاج الذي وضعته حول جيدها الجميل، عنق الإوزة الذي يحبه، واضعة ساقًا على ساقٍ، فخطف عينه خلخالها الذهبي، يطوق ساقها الأبيض الناعم، فبدت وكأنها أشهى نساء العالم.
قال لها وهما ينتظران النادل بمقهى بشارع مصطفى النحاس: لقد أصبحت جزءًا من هويتي!
كان يعجبها ثقافته الواسعة، لم تقرأ يومًا مقالته اليومية، في الصحيفة التي يعمل بها، ولكنها كانت تدرك أهميته، وشغف الرأي العام بما يكتبه، وحضوره الكاريزمي أمام الكاميرا في برامج الـ"توك شو"، وكانت لغته العالية، أداته في إبهارها، وسحقها وتعزيز شعورها بالدونية أمامه، واستسلامها بين يديه، يقلبها كيف يشاء.
نظرت إليه مستغربة ـ فيما يبدو ـ كلمة "هويتي".. قالت: "يعني إيه؟!"
لم يمهل نفسه وقتًا، لانتقاء مرادف يفتح لها ما استشكل عليها.. تأمل برهة وجهها الجميل ثم قال يعني: "بتِ تجري في عروقي مجرى الدم".
وعلى الرغم من أنه ظل لسنوات يهرب من مواجهة نفسه بالسؤال عما إذا كانت علاقته بها حبًا أو اشتهاءً، إلا أن هذه الدقائق القليلة، كانت هي أصدق لحظات حياته مع هذه المرأة، التي أدمن عبق عطرها، في كل مرة يدلف فيها إلى سيارته، وأنفاسها منذ أن عانقت وتخللت أنفاسه في المرة الأولى.
محمود سلطان
من المجموعة القصصية الجديدة "رأيت أميرًا سلجوقيًا"