حسين نيازي - كلب

ضمَّ لفة الشواء الساخنة إلى صدره كما تضم إمرأةٌ عاقر رضيعاً باعتهُ لها قوادة. كادت عيناه المذعورتان أن تقفزا من وجهه وهو يسترق بهما النظر إلى وجه كل عابرٍ في الطريق. ورغم خشيته أن تثير خطواته المتسارعة انتباه المارة، إلا أنه لم يقوَ على الإبطاء. فرائحة الشواء المتسللة إلى أنفاسه اللاهثة من بين طيات ثيابه الرثة أصابته بما يشبه اللوثة، كما أضاف إحساسه بالسخونة تسلخ جلده في موضع التصاق اللفة بصدره لجوعه غضباً حانقاً، فوجد نفسه يهرول نحو المكان الذي عُينَ له غير عابيء بالحصوات الدقيقة التي أخذت تنغرس في شقوق قدميه الحافيتين. كانت التعليمات التي وجدها مع صرة النقود تحت حشيته واضحةً لا لبس فيها. ولكي يغالب الجوع والحنق حتى يصل للمكان المحدد أخذ يرددها بصوت هامس ربما للمرة الألف. إشترِ بالنقود طعاماً وانتظر مندوبنا عند الخرائب مع غروب الشمس. رسالةٌ من سطر واحد ردوا بها على عشرات الرسائل التي كتبها لهم معلناً ولاءه واستعداده لتنفيذ أي أمر. لقد تأخر الرد طويلاً حتى كاد اليأس أن يقتله، لكن لا بأس، ساعات قليلة تفصله الآن عن جوعه الأبدي الذي سينساه كما نسيَ أول صفعة تلقاها في حياته. عما قليل سيلقى الماضي كله وراءه وسيستحيل مخلوقاً جديداً. يعلم كما يعلم الجميع أن من يقبلونه في خدمتهم لا يعرف الجوع ولا الخوف، وتعجب في قرارة نفسه لمَ لا يطيعهم كل الناس، لكنه عاد وأخبر نفسه أن لو كل الناس دخلوا في خدمتهم لما أصبح للمكانة التي يصبو إليها قيمةٌ تُذكر. ولاحت له نهاية الطريق فاسترد أنفاسه قليلاً وهو يراقب أصحاب الحوانيت الصغيرة وعمالهم وقد أخذوا يلملمون بقايا اليوم استعداداً لإعلان نهايته كسائر الأيام. لعنهم في سره وانحرف نحو الخرائب بعد أن تأكد أن لا أحد يراقبه، وأخذ يحث الخطى متوغلاً بين أكوام القمامة التي تراكمت كتلٍ صغير يحجب عن عيون الناس أطلال مدينتهم القديمة حتى وصل لجدار متهالك أسند ظهره إليه وقد سحق الجوع والتعب ما تبقى من إرادته. أخرج لفة الشواء التي فقدت أغلب حرارتها وأخذ ينهش محتوياتها دون تلذذ خوفاً من أن يصل المندوب قبل أن ينتهي من طعامه. ها هي الشمس تكاد تغيب ولعله يظهر الآن في أي لحظة. واختلطت في أنفه رائحة الشواء بروائح شتى انبعثت من أكوام القمامة وجثث القوارض النافقة حوله، فلم يسمح لنفسه بالتقزز وواصل الالتهام ممنياً النفس ببداية جديدة. وفجأة استشعر أن ثمة من يراقبه فرفع وجهه المنكب على الطعام ليجد كلباً ضخماً جالساً أمامه بلا حراك. حاول أن يزحف على مؤخرته للخلف لكنه اصطدم بالجدار المتهالك الذي كان يستند إليه. إلتقط حجراً رفعه عالياً ليعلن للكلب الضخم أنه ليس لقمة سائغة، وباليد الأخرى دس في فمه آخر قطعة لحم تبقت. خُيل إليه أن الكلب يبتسم لكنه طرد الفكرة من رأسه سريعاً وتساءل لم لم يأت المندوب. تمنى لو تأخر وصول المندوب قليلاً حتى يذهب هذا الكلب اللعين. أهكذا يرونه في أول لقاء؟ أسيراً لخوفه من كلب ضال؟ إزدرد على عجل ما تبقى في فمه من لحم وقرر أن يغير الموقف. ألقى بعظام الشواء على بعد خطوات آملاً أن يتبعها الكلب فيمنحه ذلك مساحةً للمناورة، لكن الأخير لم يحرك ساكناً.
"إن كنت قد انتهيت من طعامك، فربما علينا الذهاب".
تلفت حوله في كل مكان باحثاً عن المتكلم لكن لم يكن هناك سوى الكلب. تساءل إن كان ما سمع نتاج خيالات أحدثها في نفسه غروب الشمس وخوفه الذي طالما عاش به، لكن كل شكوكه زالت عندما انتصب الكلب واستدار نحو المدينة قائلاً "هيا".
وعلى ضوء القمر عبر كلب ضخم بخطوات واثقة أكوام القمامة عائداً للمدينة متبوعاً بكلب صغير تعثرت خطواته لأنه لم يعتد بعد السير على أربع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى