مقتطف البروفيسور إشبيليا الجبوري - شذرة فصل ال15 عشر من رواية (موسم عشق ارض السواد).. عن الإيطالية أكد الجبوري

(......)
توهجت أحلام حامية في عينيه الجاحظتين، الذي ألقى الله عليها المحبة، بحلاوة القبول ومهابة الإفهام، وغشاه حسن موضع القصر، ومع استغناءه عن جسده وإعادته، طال شعره، كما قلة حاجة السمع إلى معاودته، لم تسقط له خطوة، كما لم تسقط منه كلمة، ولا زلت له نفسه رغبة، ولا بارت له حجة، ولم يقم له خصيم، ولا أفحمته كلام، بل يبذل التأمل الطوال بزهد الكلام، لا يلمس ما طالت أظافره، ولا يتلمس ما لقي في أصابعه الذابلة، ويمسد على ذقنه اللحية قصارها، ولا يحتج على جفافها المشعث. هنيئا بالصوم صادقا، يستعين بخلابة الصبر، ولا يخشى مواربة النزوات، ولا يهمز أو يلمز، ولا يعد للبطيء ولا يتعجل، باردة لا يسهب ولا يحصر، آخاذة بالهدؤ طمأنينة نظراته؛ إن أزلت خارج موضعها؛ على المغريات أو مفاتن على النسوة، ثم لم يسمع كلامهن قط أعم نفعا، ولا أصدق قولا، ولا أعدل قياسا ووزنا، وفمه المتيبس من العطش تلمحه أجمل بهجة، راجف بأكرم مطلبا، وأحسن موقعا، مستنكرا، نابذا لمز وهمز النسوة، مقيم خصما لأسها مخارجهن، فاصحا معناه، أبين عن جمة فحواه، أحسن عدم التزيد على نظراته عليهن، وإن جاءته عبر المدينة بها أناس في خلابة اللباس، أو لمز النسوة ببهرجة الكذب المزين. أعبأ بمظاهر التجار والأغراض التي يأتون بها، وهم يستنسخون اسرارها ليتاجرون، حاشيات أمراء يتصبغون بأحاديث العيارين، يتصيدون أولئك الباعة، متألمين يقصوا القصص، يبكون عبرة موتاهم، ما كانوا يفترون ولكن سبقت بوصف أفعال السائلين، وما ختمت تتكرر في الاقوال، بل رآها والفاها هنيئة على بغايا يعرضن أنفسهن في الظلال، تحدوا بكل من أمريء إلى ذعر من أقتدى بهن، فإن من أطلق سوام الميل في حياة التجار، وما ذاك إلا كره لسيرتهن، وحميد سريرتهن، وتمسك بعض رجال التقوى والفضيلة يسعون فضيلة للفقراء، وتمسكهم بعري العفة والطهارة للمحتاجين، يقتفون أثارا بعرض علاجهم، والأقتداء في أداء يسعفون المرضى، شيوخ بجمة جهلهم ومكر دهائهم يحددون مكيال العقاب والثواب، ويعرضون بضاعتهم بلمط مواعيد الجنة والنار، عشاقا يتسمون ذروة المجد بغرامهم في هذه الدنيا، وينالون بعضهم من سعادة طيب حميد ويعشقون، أقاصيص فيها آداب وأخلاق مختلفة، أمهات يشددن في الصبر على المعاصي، والتمسك بالصبر والحلم، ينشدن الفرج بعد حين، والتمسك بكللهم ومللهم لعظيم ذلك في دينهم ودنياهم، إطلاق صيحات، استغاثات، فلطالما اشتاقت للصراخ مرة بعد مرة، تفتح القلوب متشققة، وسماع الآذان لاصواتهن القلب مرارة، تهدأ تلاوة علوية خاصة بهن، والشوارع تتح فيها بيد القدر الإلهي، تحرك الحوادث، ولتري الإنسان يريد ويقدر ما تنزيه أحتمال المكره، على مالم تأمله وانتظاره، ومن فوقه عناية إلهية غالبة، تبلغ من هذا أضعف ما يبالغ برغباته وغياب عقله، وتصل عواقبها ونهايتها المرسوة في نهاية الزقاق، المقدرة بلطم الخدود وهزات الابدان هذه الصورة من المشاعر والعواطف وحركات الايادي على وجوههن، سامعا الضمائر من التجار والميسورين، وهم يتجولون في عالم الاسواق والتجارة، سماع اوجاع حوادثها ووائعها، وتقافز الاصوات وعواطف أناسها يتقطعون وجعا بأفكارهم وعقائد لحمتهم، والنساء تفتح امام المارة صدورهن أفق القدر، ليجعل من حليب صدورهن العاري، نجاة يتمسكهن رضعهن أطفالهن ـ وهذا كله لم يفتح عجائب القدر لجعل الإراة من الله، أيمان نافذا لقضائه، منسجما مع غايات قدره، التي تجعل ما يراه ابو يعقوب غور الفكر المحض، فيجمع بين الطاعة والإرادة والعمل بتلك الهزات، تصل به عواقب النهايات الشديدة التي لا يمكرها من عينيه نظرة، أحسن هوى لقاع في نفسه عميق، أخذ عقله وقلبه نحو الله، ومنها ما عبر عن نفسه عما رأه، شعورا باسرارها كأنه خدعة، فيض نور لمعنى تقبض على أمواج حكمتها وشواطيء ما يسري مع النفس، سريان دم الايمان في عروق القلب، وتجري كلها بخشونتها، ومكائد تعثرها في العقل ان لا تجري الا العقاب، أما القلب جريان المغفرة، روح في احتواء الجسد النتن، كل يوافي العقل بالكذب ويكافؤ بالمزيد، يلقب الأشياء بمسميات مطلقة، مستذكرا قول الله تعالى: (( ومن يبغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الأخرة من الخاسرين)) [ ال عمران: ٨٥]. يظهر ذلك في الكثير من الاشياء مما كان له أسوأ الأثر على أنفسهم، وافدح النتائج على يومياتهم، وما إلا لتجريدهم من معاني القيم وثوابت الدين، وارتكابهم المعاصي وولوغهم في الحرام، فلم يجنوا من نفوسهمم المتذبذبة الحائرة لإي انتسابها سوى الهون والذل، ركبوا الكبائر خفاء، ينصرون الظالم في ذنوبه، مشغولون بتناحرهم وتخاذلهم وأنغماسهم بحياة اللهو والترف والمجون، مستعينين عن بعضهم بالنهابين والقتلة ضد بعضهم، متناسين لحمة الاخاء والدم والمحبة، فارست ابدا عليهم خلقا، لا يردعها زهد الورع ولا شجاعة الصادق الأمين، معتمدين سياسة القوة والمخادعة والأبتزاز، آخذين يبيحون ما يقدرون ويتقنون، ذلك ضمن أعرافهم أسمى تقديرا واحتراما، مرابطين بها ضمن سيرة بعضهم، تقبل المتبرع للفهم بقبول الوهم أو التخاذل، كل يخالف التناصر عليه في الدارين ما يخدع به، فتحولت الوحدة إلى فرق، والقوة إلى ضعف، والتناصر إلى تخاذل، والعدل إلى ظلم، والإيمان إلى جاهلية، تلك مثلت نقطة تحول عظيم في تاريخ البلدة. تتوجت في الهدم والخذلان، يتتبع إشاعة الظلم بين الرعية، إلى انقياد البلدة بين براثن المحتل/التجار، واقفين و يشرف في ما يتظاهر في المشرق مغربا بالمعنى، والحمد بالسعادة برا للعيون، والرحمة بالجمال سائر مصادر البصر، والخير والبر عون صحبة السالكين سبيلهم في المواساة وامتحان الابتلاء لما نزل بهم من تأويل، بصحة ما عرفوا أثره وداركوه مصدقين، أم ساروا مع التابعين في موكب طويل في التشريد والتجويع والقتل، وكله نتن غير مقر به. ومر مذاق الدنيا وعذاب الحياة.

كان لأبو يعقوب هدف واحد، هدف وحيد: أن يمسي متقشفا خالعا نفسه، ويتولى عليها، مستمرا في تدبير ذاته، حقيق بها، وخليق خاليا لها، منتدبا لنصرة هذا الهدف، ولا يتولى هذا الأمر أحد إلا نفسه خاليا، زاهدا في زينة الدنيا، حازما سائسا للأمور، مقداما شجاعا، نجدا حاذقا، عادلا متورعا، متقشفا يأكل من عمل يديه، عزيز النفس، وافر الخوف من الله، جوادا كريما، مرابطا من العطش، قاشعا من الرغبة، شافطا من الحلم، مفرغا من الفرح والألم. قادرا لنفسه يمضي حتى نهاية الطريق، فإذا ما تم موعد الصلاة، جلس، مشرئب قلوب أهل القرية حب الخليفة عمر بن عبدالعزيز وأصحابه، داعيا وركبه يستروحون، ضابطا أحق به منهم مصالحهم، مؤثرا لأهل العلم والدين، كثير المشورة لهم، ما اتفق علي تقديمه أشياخ الحكماء، لما يعلمون من دينه وفضله، وسداد رأيه، ويمن نقيبته. زرع ذاته مرتوية ضبطا وحزما. نافض عنه غبار الطريق، وأخذا في الحديث والسمر كصبح في إثر غسق، لاحت لهم بأمور الدين والدنيا، حديث من قرت عينه بعد غياب طويل، مستدركا ما تبقى من رمق.
غير أنه ما كاد أن بلغ هذه المرحلة من التقوى، حتى أستوقفته أمور شتى للتأمل عن والده الجليل، كان عادلا صالحا، شجاعا مرابطا، أيمن الناس نقيبة، واسعدهم ولاية، وألزمهم نصرا للحق، محبا للعلماء، ملاذا للضعفاء والمضطهدين، مكرما للصلحاء، محافظا على الدين، مستشعرا للتقوى، كانت القرية تنقاد بحكمه، والمنابر في أرض السواد تهل بأسمه، وسمع الرعية بمقدمه، ينثالون عليه انثيال الجياع على الوليمة، ويباشروا به تباشير البلد بالديمة.

كان رحمه الله خائفا لربه، كتوما لسره، كثير الدعاء والاستخارة، مقبلا على الصلاة، يأكل من عمل يده، أكثر عقاب لنفسه الوقوف الطويل، عندما يلهو منتزيا في شق الترع والجداول، فالصيام والوقف تحت الشمس اللاهبة طويلا، أحسم لإنتشار الداء. في كل يوم ينهل مبرور بالفضيلة، تردي على أبو يعقوب عديد الدرس أو يفنيه بمشقة السؤال حتى يصل جهاد النفس موفقا، حتم القضاء بكل ما تقتضيه خاليا، متواضعا لله، يظهر دينه في كل ما تبديه أو تخفيه زينة النفس وخطبها، سامعا قول سبحانه وتعالى: (( يا أيها الذين أمنوا أصبروا وصابروا ورابطوا وأتقوا الله لعلكم تفلحون)) [ أل عمران: ٢٠٠]. حين طلب إليه أن يقف وقفة تطول تحت الشمس الحامية، إثناء صيامه، ريثما يؤذن للفطور، بعدها يستأنف السير، والمضي إلى الغاية.

والحق أنه كاد يستجيب تمزيق حياة رغباته عامة في باطنه تقريبا، منذ نعومة صباه حتى وفاة والده الجليل، وما لهذه الأرشادات من أثر حميد في غموس عقيدته خالصة لله تعالى، وطرد معالم الشرك والجهل من أعماقه، التي جاهدت فيه حتى أكرمها الله تعالى زاهدا شجاعا، فيجاء به عزيز النفس، متورعا، ما أتفق على تقديمه فيض أشياخ الحكماء، لما يفقهون ويحكمون من دينه وفضله، ونجدته وعدله. ومن ثم صحبة الصبر المتفانية، تلك التي كان يعاني منها شتاتا وتمزقا وصراعا لا مثيل لها؛ حتى صدق أنتشارها في أبصاره الأثر، كما كان رغبة ابو يعقوب عارمة منذ مبتدأ وعيه يتفتح، وعلى مدى حيات في إثبات وجوده الفاعل، وغرس أعتراف أفذاذ مجلس الحكماء به، كشخص ذكي متميز، بغض النظر عن صغر سنه، قام بكل معالمه فرده مليك رشيد، تصير بلل جوفه أوج ارتواء لمه أثر حميد، علمته تأمل ظواهر العيان، تهب من كل أوب وصوب. وهو قتئذ قد شد صغر سنه شق الطفولة، الذي كان والده لا يعلم أحد العلم حتى يتعلم الأدب، وهو يردد قول الامام (سفيان الثوري): (( إذا فسد العلماء، فمن بقي في الدنيا يصلحهم؟ ثم ينشد: يا معشر العلماء يا ملح الارض، ما يصلح الملح إذا الملح فسد؟!))، كان أبو يعقوب يتربى مقدمات في ظل مظاهر الحياة، بقول سفيان المذكور: (( افتضحوا فاسطلحوا))، لم يمتنع من مجلس العلم، ويقول: (( أخذنا ونحن لا نشعر)). لم يطق صبرا على الجهل به، أخذ المعاني في نفسه فأكبرته، فزاد إكباره حين كان يجلس للدرس، فتتعلق الآذن بأخلاص النفس في حركاتها، وأفعالها وأقوالها لله وحده، أخذ في الجد ما يبحث عنه هنا وهناك في جلي المعاني، تغيرها المصائب والنكبات التي تقع على بصره في تلك القرية، لا سيما في الأشجار التي كانت تتساقط أوراقها، وتخضع جذوعها للبرد التي ترفع ألوانها استرداد الشمس من أيدي المطر، وزاد تلك الحال سوءا نزاع جفاف الريح بين عاتيها الذي يتمادى في التفريط بمحمولاتها من الثمار، والأنسلاخ من موسم الحصاد في حماية أرزاقهم ورعياهم، بدلا من أن يصحو على جمال الوانها وفتنة خضرتها التي تميز بين نوع القريب منها والبعيد، بدلا من الصحوة والوحدة والثبات٬ بوجه الريح تحمي الازهار في أحضان الحقول، تغرونهم بحسن طلعتها، تكشف لهم مخابئها، تعطيهم أسرارها، يتوحدون معها ضد رغباتهم وشهواتهم ونزواتهم، ويتسابقون في تلبية شروط وتحقيق منابع الحكمة.

أنسلخ أبو يعقوب من نفسه خاليا، قادرا على القيام بمسؤولياته، بحب الحق وسيادته في نفسه، وحماية يقين ما ملكت روحه من امور للتقوى، فلما استيقن أتمها، أعترف بلزم الصيام، واطاعة ذاته خاليا، أطاعة العطش٬ بذل منة الجهد منة عظيمة، وفتح العطش بابا واسعا من أبواب يسر الله فيها، دون مداراة أو نصب له.

نفض غبار رغبته، بالحمد لله على هذا الرضا العظيم. خاليا في تصحيحه وترتيبه وتحشيته فهم الصوم على منوال للثقات المحققين، وبعد جهد، كان يقول لنفسه بعد حين: "طالما المرء قويما قادرا على أقرار إرادته، يتم ما يجيز طبع إيمانه فيه". الان، ابو يعقوب يمسي هيوبا ناصرا، قادرا على السير، مهتديا خاليا من الرغبة، عازما إن لا يتوقف وقفة قد تطول، وقد تقتصر، دون خدمة أعم وأنفع وأرجح، لزاما أن لايشفق على نفسه، أن يهجرها بلا حداد او مناحات، قادرا فيها خير سلوى، ولا يستروح عنها بهوان الأنا ليتقهقر، وهو لم يبلغ من الرحلة بعد إلا أقله، لم يجد السكينة ما تخشاه لتستوقفه، ما يخشاه المتعب المكدود في سيره راحة خالي القلب، يحثه على السير والدأب والمؤانسة، كلما أدعي الإعياء والنصب، وأن أنسى هذا الذي كان منه حين جاءه ما يشعره بتعبه وكده. ومن يدري إذا جلس وينفتح للمعجزة في تفكير المكدود وأستمرأ الراحة، واستشعر حلاوة الغفوة متى ينكر ذاته، وينهض من مكانه ويعاود سيره؟! ـ ليمضي تحقيق هدفه هذا حتى الرمق الأخير.

غير أن الطريق ليست له وحده؛ فإذا ألقى عصاه، غالب الأنا ريثما تتأهب كله، تفتح مسارا شاقا طويلا وأماته، وما كاد يلتفت خلفه، ويرنو إلى بعيد بعينيهن حتى رأى ما رأى (حميدة) تقترب نحوه.. ولولا أن مؤنسا آنسته، ومعلما حبيبا إلى نفسها أذهب عنها وحشتها، لكانت الآن، تتلفت في بدء الطريق، ذلك المؤنس، وهذا الحكيم الشاب، هو أبو يعقوب. فلطالما كان يحثها ويدربها على السير وتحمل المشقة كلما توقها النصب في وحشة الطريق، وإذا تصمت كل ما في خصوبة القلب، لا تمكث أي رغد حياة شهوة، وغشاوة كديدان النزوة المزيفة، بل الحاق إلى أحساس الوحشة حيث هممت النفس وحدها، ولا تخشى تلفها. نعم، مازال يتلفانهما في بدء تلك الطريق. ذلك الاشد حاجة ماسة لكل لحظة توفره ما لا تخشاه. بدأ ابو يعقوب آخذ مثواها القحط، ما لا يخشاه ذلك الطريق معا، وكان لايزال في طريق مراسه يبعث له بالتجارب دون رفق، لكنهما ما كادا يخطوان فيها خطوات قليلة، حتى بدأ لهما لا غرابة من ارادة طلب مراجعة هذه التجارب على الاصل الذي قاله ، وعلى الأصول المخطوطة لمجلس الحكماء، أيضا زيادة في الحيطة بايقاف أصل شذر الشهوات، فوفقا. ذلك أن قلبا آخر عن الشوق عن لهما، فلابد من أن يستيقظ الأخير، هو أخبار مشقة المكنون في خطوات الأنا الكبرى الأثرة المباركة، الذي لا يعود السير في سبره الأنا الصغرى الهدامة، ما هي في النهاية إلا وهم الحقيقة بالأكاذيب ومدها بدهاء التأويل الماكر في الرذيلة الطيعة، هي نفسها التي تخبرنا عنها الأنا الأثرة الكبرى الحقيقة في تستر. ما الأنا؟؛ شريفة أم سافلة؟، حمية ملتهبة أم باردة؟ رحمة خالصة أم مهلكة؟، بلاغة غافلة أم جديد عمل وحكمة؟ أصلاحا مخروقا أجوف أم قرع طبول حماقة؟. أية حماقة تحشر نفسها فينا؟ أية غفلة تفرط فينا عمل معروفها في منكرها؟، أية بلاهة تنزل علمها في جهلها؟ بل أية أنا ابتلاء عقلها في حماقتها؟. لا يعاود السير في سبر الأنا، في كلام كلما أقحمته فكرا أقحمك معنى، ولا تفسير قريب، كالصبر كلما جاورته الروح تعالت فيه الأثرة المباركة وهي تتعالى في سرها الألهي كأنه المركز. لان الألم أضخم و أوسع من فهم الإنسان وتجاربه وإن ساجلتها الفضائل الغيورة بالتسامح. همم خاليا من رذيلة الأنا الصغرى، بعد أن بات صاحبها مسافرا خارجها، ليلقي نفسه خاليا، وما يعاوده في السر مراودة وساوس تداهمه، أو قرابة لعنات خفية يمكن تقربه بهذا الشعور او ذاك، لكن متى ينهض من خلخة مكانه الهلع، بجمعه قدرا من فتات السر ليتيح دراية ما جناه ماض قبله. تيسر على منوال رتيب، جمع قواه، ينهض من مكانه المتقهقر، الألم المكنون في أعماقه، لأجل أن يعاود السير بحثا عن السر في الأثرة الكلية. لا حذار من شبهات الانا ممن يتوكلون باليقين عن الصبر والعزيمة والصدق في ملكوت الله، مركز القناعة بالأيمان التي تثيرها سر الحقيقة، لكن كيف ان لم تكن الأثرة المباركة ستجيب عن كل ذلك القلق؟!. كان يتساكن سر القلق داخله. وأن بدأ الطريق وحده بلا أنا، لا يخشى مثالب الذئاب، ولا يتمجد بالسذاجة والعاهات، ولا كشفيع يتحشم بفرط الرهافة حتى ينصرف.
يقول الحق سبحانه وتعالى: (( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا)) [الأنعام:١١٢] ٬ ...... ٬

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى