مقتطف أيمن مصطفى الأسمر - أحوال عائلة مصرية (جزء 3)

(جزء 3)

محمد عبد الهادي


فاجأني ما عرفته مصادفة عن الأحداث التي تدور في الشركة التي يعمل بها والدي، قابلني "الأسطى" حسين خلال إحدى جولاتي وأخذ يسرد لي في ضيق بالغ ما يواجهونه، كنت أعرف "الأسطى" حسين منذ الصغر وأعرف عصبيته الشديدة فحاولت أن أطمئنه رغم مفاجأتي بالأمر، حرصت على العودة إلى البيت مبكرا للتحدث مع والدي، كعادته حاول التخفيف من الأمر والتحدث معي حول العمل الذي التحقت به مؤخرا، استنتجت من حديثه أنه لا مفر من بيع الشركة وانتابني قلق شديد من تعرضه هو ورفاقه للأذى نتيجة للإجراءات التي يقومون بها لمعارضة البيع، هدأ من روعي وأكد أنه لا داعي للخوف.

كنت قد أنهيت تقريبا الشهر الثالث في عملي الجديد، تسير الأمور بشكل لا بأس به نسبيا، ليس العائد كبيرا لكنه مقبول، لم تواجهني حتى الآن مشكلات كبيرة غير أنني أعاني من حالة إرهاق واضحة نتيجة لجولاتي المستمرة سعيا وراء تسويق أكبر قدر ممكن من الأدوية، لا تبدي سمر ارتياحا كبيرا لهذا العمل لكنها تصمت على مضض، أعود إليها مجهدا في ساعة متأخرة من الليل فلا يكون هناك مجال لكثير أو قليل من الود أو الكلام.


سمر

توالت الأحداث داخل البيت بوتيرة لم أعد قادرة على ملاحقتها، بدأ الأمر بالحالة التي كنا جميعا عليها قبل التحاق محمد بعمله الجديد، تزامن مع ذلك التغير النسبي في تصرفات وفاء وفي حالتها المزاجية، والتوتر الخفي الذي لاحظته بينها وبين والدتها، وعندما اشتكت لي زوجة عمي مؤخرا لم يكن الأمر مفاجئا لي، حاولت طمأنتها وقلت لها أن ما يحدث هو مرحلة طبيعية يمر بها الكثير من الشباب والفتيات عند التحاقهم بالجامعة، وأنها سرعان ما ستعود لسابق عهدها، وعندما ابتسم الحظ أخيرا لمحمد ووجد عملا لم أقتنع مطلقا أن هذا العمل يتناسب وشاب في مثل قدراته لكنني حمدت الله رغم ذلك، بعد أسابيع قليلة أدركت كم أن هذا العمل يمثل ضغطا صحيا شديدا على محمد ربما أكثر من وضعه السابق، يعود في نهاية اليوم في حالة بشعة من التعب والإرهاق، يرتمي بجواري على السرير كالقتيل، لا أشتكي ولكنني أخشى أن تبرد العلاقة الدافئة بيننا بمرور الأيام، تبع ذلك مباشرة الخبر الذي صدمنا جميعا .. عرض الشركة التي يعمل بها عمي للبيع، كنا نقرأ كثيرا في الصحف والمجلات عن المشاكل العديدة التي يعاني منها العاملون ببعض الشركات التي تم بيعها مؤخرا، بل لقد شاركتهم النقاش أحيانا في هذه المسألة تحديدا من ضمن ما نناقشه من أوضاع قاسية يعاني منها الناس في هـذه الأيام، كان الأمر يبدو مريرا وهو مجرد موضوع مطروح للمناقشة، أما الآن فهو واقع نعيشه ولا ندري ماذا ينتظر عمي وينتظرنا معه، أو لعلنا ندري لكننا لا نريد مواجهة الأمر وعواقبه.

أم محمد

لم يفاجئني كثيرا ما أخبرني به "أبو محمد"، عايشت منذ فترة شروده الدائم وحالته التي يجاهد كثيرا كي يخفيها، أدركت مبكرا ما يعانيه من قلق شديد رغم عدم معرفتي لتفاصيل ما يمر به، الأكثر من ذلك أنه أعادني للقلق على محمد من جديد، هدأ قلبي وارتاح من ناحيته بعد تمكنه من الالتحاق بعمل، لكن كلام أبيه أعادني إلى حالتي الأولى وأكثر، عادت الكوابيس المخيفة تهاجمني من جديد، لعدة أيام أرى كابوسا واحدا لا يتغير، بحر هائج لكنه ليس ببحر .. ورمال هائلة لكنها ليست برمال، تتلاعب المياه الهائجة بمحمد وأبيه، تقذف بهما إلى الرمال لتبتلعهما ثم تلفظهما إلى البحر مرة أخرى، يتكرر الأمر مرة وراء مرة حتى أصحو من نومي مفزوعة، صرخت ذات مرة رغما عني، استيقظ "أبو محمد" على صوت صراخي، سألني عما بي، استعذت بالله من الشيطان الرجيم وقلت له:

ـ لا شيء .. لا شيء يا حاج يبدو أنني كنت أحلم.

ظلت وفاء على حالتها، باتت أقل حدة وعدوانية عن ذي قبل لكنها مازالت مختلفة عن ابنتي التي حملت بها وولدتها، ابنتي التي أرضعتها وربيتها وكنت موضع سرها، حاولت سمر زوجة محمد أن تطمأنني، قالت أنها هي نفسها مرت بفترة من الارتباك عند التحاقها بالجامعة، تظاهرت بالاقتناع بكلامها لكنه لم يريحني على الإطلاق.


"الأسطى" عبد الهادي

استمر الإضراب ناجحا لعدة أيام، شارك فيه الجميع دون استثناء، حتى القلة التي لم توافق عليه اضطرت للمشاركة عندما أدركت أنه لا جدوى من مواصلة العمل في ظل الأغلبية الكاسحة المشاركة فيه، نقلت الصحف القومية أخباره في اقتضاب شديد، بينما تابعتها الصحف المعارضة والمستقلة بتفصيل كبير، أصبح الأمر علنيا وانتشر حتى بين جيراني، عاتبني محمد على عدم إخباري له بالأمر منذ بدايته، أجبته قائلا:

ـ ومنذ متى أتحدث عن تفاصيل تخص العمل هنا في البيت؟ ثم ألا يكفيك ما أنت به؟

ـ لم أعد صغيرا يا أبي، وما يهمك يهمني، وأنا الآن أعمل والحمد لله.

ـ وهل تعتقد أنه سيكون عملا دائما؟

ـ قد يكون .. وقد لا يكون، ليس هذا هو المهم الآن .. هل تعتقد أنهم قد يتعرضون لكم بصورة ما؟

ـ لا أظن .. لقد اعتادوا على ما يبدو على مثل هذا النوع من الأمور، أصبحت تحدث كل يوم، وهم يتعاملون معها بقدر كبير من عدم المبالاة، ففي النهاية هم يفعلون ما يريدون.

ـ لكنكم لن تسلموا بذلك؟ أعرفك يا والدي وأعرف عددا كبيرا من زملائك.

ـ نحن نحاول .. فقط نحاول.


محمد عبد الهادي

بدون أي مقدمات أخبرني أحد المسئولين بالشركة أنه سيتم وضع نظام جديد للنسبة الشهرية التي نحصل عليها، لم يكن من الصعب علي أن أدرك فورا أن هذا النظام الجديد سيؤدي إلى تخفيض كبير لما أتقاضاه عن المبيعات التي أقوم بإتمامها، تساءلت في استغراب عن السبب في هذا التخفيض رغم أنني قد قمت في الشهر الأخير بتسويق كمية قياسية من الأدوية لم يسبق تحقيقها من قبل في شهر واحد وذلك باعتراف المسئولين في الشركة أنفسهم، قلت له أنه كان من المفترض أن يكون هناك زيادة لا تخفيض في نسبتي، أجابني المسئول أنه يقدر مجهودي بالفعل لكنها سياسة الشركة الجديدة التي ستطبق على كافة المندوبين، خاطبته قائلا:

ـ ليس هذا عدلا.

أجابني:

ـ وما هو العدل من وجهة نظرك؟

ـ أن ترتبط النسبة بقيمة المبيعات سواء بالنسبة لي أو بالنسبة لغيري.

قال ببرود:

ـ هذا هو النظام الذي سيتم تطبيقه، إذا لم يعجبك يمكنك تسليم عهدتك وترك الشركة، هناك المئات الذين يتمنون الحلول محلك.

في مواقف مشابهة لهذا الموقف قبل زواجي من سمر كنت أترك العمل فورا عندما أشعر بأن هناك ظلما أو إهانة قد وقعا علي، لكن هذه المرة مر بذهني سريعا ما واجهته خلال فترة الانقطاع عن العمل بالإضافة إلى اختلاف وضعي الآن عما سبق، وبدلا من اتخاذي موقفا فوريا بترك العمل إذ بي أصمت وأتوقف عن مناقشته وأنصرف دون تعقيب.


"الأسطى" عبد الهادي

في خطوة مفاجئة استدعاني رئيس مجلس الإدارة لمقابلته وطلب أن يقتصر اللقاء علينا نحن الاثنين، عندما دخلت عليه استقبلني بترحاب شديد وبعد العديد من عبارات المجاملة سألني:

ـ أظنك تسأل نفسك لماذا أريدك بمفردك؟

ـ نعم.

ـ سأكون صريحا معك، زميلكم محمود معروف عنه الانتماء إلى تيارات سياسية بعينها، هو حر في ذلك وأنا لا أتدخل في اختياراته.

ـ وماذا بعد؟

ـ أما "الأسطى" حسين فله تاريخ طويل في العمل النقابي، لكنه كما تعرف أنت شخصيا رجل شديد التوتر والعصبية، وقد دفعه ذلك للاستقالة عدة مرات وترك العمل النقابي رغم نجاحه الدائم في الانتخابات.

ـ حسنا، ماذا تريد أن تقول؟

ـ سأكون صريحا كما قلت لك، رغم كفاءتك المشهود لها وسمعتك الطيبة بين زملائك، فقد أجمع الكثيرون على أنك بعيد تماما عن العمل السياسي بل وحتى النقابي، ولهذا أظنك أفضل من يستطيع أن يتفهم الأمر وأن يحاول إيجاد الحل المناسب له.

ـ نحن نحاول جميعا أن نصل إليه.

ـ لن تصلوا إليه بالتوتر والعصبية، الإضراب وما شابهه من أمور لن تصل بكم لشيء، صدقني ما أقوله لك هو نصيحة مخلصة.

ـ أشكرك عليها، لكنني لا أستطيع أن أتخذ قرارا بمفردي، صدقني ليس بوسعي ذلك، أعرض علي أمرا محددا وسأنقله إلى زملائي.

ـ كنت أريدك أنت أن ..

قاطعته قائلا:

ـ أنا بمفردي لن أصنع شيئا، لو نجحت سعادتك أن تقنعهم في الوزارة أن يوقفوا البيع سيكون جميلا يحفظه لك كل العمال والموظفين.

قام من مقعده وقد بان على وجهه الضيق ثم قال:

ـ وأنا أيضا لا أستطيع أن أفعل شيئا بهذا الخصوص، على العموم يا "أسطى" عبد الهادي لقد أسعدني اللقاء بك.

خرجت من عنده وأنا في حيرة من أمري، هل أخبر زملائي بما حدث أم لا داعي لذلك؟ فضلت أخيرا أن أكون شفافا مع قليل من الفطنة، أخبرتهم بأمر اللقاء بصورة عامة دون ذكر الكثير من تفاصيله، احتد "الأسطى" حسين وقال:

ـ لماذا تذهب إليه وحدك؟ كان يجب أن تخبرنا.

ـ أنت تعرفني يا "أسطى" حسين، هل تشك في شيء؟

صمت لوهلة ثم تابع كلامه:

ـ لا أقصد ذلك ولكن يجب أن نتصرف جميعا معا.

ـ هذا ما قلته له، ويبدو أنه عاجز بالفعل عن عمل أي شيء.

ـ تدخل الأستاذ محمود قائلا:

ـ وهل هناك شك في ذلك؟ ليس هو من يحدد البيع، الأكبر منه يفعلون ذلك، والأكبر منهم هم من يوجهونهم، أيا كان الأمر سيستمر الإضراب وليكن ما يكون.


وفاء عبد الهادي

أشركتني سامية في تدبير العديد من المكائد الصغيرة لبعض زملائنا، أظهرتني في كل مرة كأنني المدبرة الرئيسية لهذه المكائد رغم أنني لم أكن سوى أداة في يدها، الغريب أن هذه الأمور التافهة جعلتني أكثر شعبية بين زملائنا وبصورة خاصة الشباب منهم، تهافتوا علي بصورة زائدة بدرجة لم أعتدها مما أثار غضب سامية وغيرتها، عودت نفسي كيف أجعلهم يقتربون مني لكن إلى حد معين، كان في ذهني ما حدث لي بالنادي وحرصت على ألا يتكرر، بعد فترة تغيرت طريقة معاملة سامية لي، حاولت اقصائي بشدة عن مجموعتها، فضحت بقسوة شديدة وضعي الاجتماعي مقارنة بوضعها ووضع باقي أفراد المجموعة، قاومت محاولاتها بهدوء تام، شجعني ما أصبح لي من شعبية جارفة رغم محاولاتها المتكررة، بدأت في تحديها بصورة حادة، انقلبت العلاقة بيننا إلى عداوة سافرة، انفصلت عن مجموعتها وكونت مجموعة خاصة بي، جعلني ذلك أشعر براحة نفسية افتقدتها منذ التحاقي بالكلية وتعرفي على سامية وباقي الزملاء، بل جعلني ذلك أتعامل مع والدتي بصورة أفضل عن ذي قبل، فرحت المسكينة بالأمر وظنت أنني عدت إلى سابق عهدي، لكن الأمر لم يكن بهذا القدر من البساطة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى