كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب. لم يكن بقي في الخمارة كرسي واحد خاليا. و هي ـ الخمارة ـ عبارة عن حجرة مربعة تقوم في أسفل عمارة عتيقة بالية. تضاء نهارا و ليلا لقتامة جوها المدفون. وتطل على حارة خلفية بنافذة وحيدة من خلال قضبان حديدة. طليت جدرانها بلون أزرق فاتح يرشح رطوبة في مواضع شتى على هيئة بقع غامقة. ويفتح بابها على ممشى ضيق طويل يمتد حتى الشارع، و على جانب منه تصطف براميل النبيذ الجهنمي. زبائنها أسرة واحدة تتوزع فروعها على الموائد الخشبية العارية، منهم من يرتبطون بأسباب الصداقة أو الزمالة، وجميعهم يتآخون بوحدة المكان و المعاشرة الروحية ليلة بعد أخرى، و يجمعهم جامع السمر و النبيذ الجهنمي.
كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.
ليس بالنادر أن يتلقى أحدهم هذا السؤال: " لماذا تفضل خمارة القط السود؟"
النجمة اسمها الحقيقي، ولكنها تسمى اصطلاحا بخمارة القط الأسود، نسبة لقطها الأسود الضخم، معشوق صاحبها الرومي الأعجف المدبب و صديق الزبائن و تعويذتهم.
" أفضل خمارة القط الأسود لجوها العائلي الحميم، و لأنك بقرش أو بقرشين تستطيع أن تحلق بلا أجنحة.."
يتنقل القط الأسود من مائدة إلى مائدة، وراء لباب الخبز وفتات الطعمية و السمك، يتلكأ عند الأقدام، و يتمسح بالسيقان بدلال من بطرته النعمة، وصاحبه الرومي يعتمد الطاولة بمرفقيه رانيا للاشيء بنظرة ميتة، أما الجرسون العجوز، فيدور بالنبيذ أو يملأ الأكواب الصغيرة المضلعة من صنابير البراميل.
" و هي أرحم خمارة بذوي الدخول الثابتة.."
وتتبادل الملح و النوادر و تتوارد النفوس ببث الشكايات، ويترنم صاحب الصوت السالك بأغنية، فيطفح المكان المدفون الرطب بالسعادة.
" لا بأس من أن ننسى ساعة من الزمان كثرة العيال وقلة المال.."
" و أن ننسى الحر و الذباب.."
" وننسى أنه يوجد عالم خارج القضبان.."
" وأن ننعم بملاطفة القط الأسود.."
في ساعات اللقاء، تصفو نفوسهم، تفيض بالحب لكل شيء، يتحررون من التعصب و الخوف، ويتطهرون من أشباح المرض و الكبر و الموت، يتصورون في صورة منشودة، يسبقون الزمن بقرون كاملة.
وكانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.
نظر الرجل الغريب في أرجاء المكان، فلم يجد مائدة خالية، اختفى عن الأنظار في الممشى حتى ظنوا أنه ذهب إلى الأبد، ولكنه رجع حاملا كرسيا من القش المجدول ـ كرسي الخواجة الرومي نفسه ـ ثم وضعه لصق الباب الضيق وجلس.
جاء متجهما وعاد متجهما. لم ينظر نحو أحد، تجلت في عينيه نظرة حادة صارمة و لكنها غائبة، لائذة بعالم بعيد مجهول، لا ترى أحدا ممن يملأون المكان الصغير. منظره في جملته قاتم و قوي ومخيف كأنه مصارع أو ملاكم أو رافع أثقال. وملابسه متوافقة تماما مع قتامته، ومؤكدة لها بالبلوفر الأسود و البنطلون الرمادي الغامق و الحذاء المطاط البني. لم يشرق في ذاك البناء المظلم إلا صلعة مربعة توجت رأسا كبيرا صلبا.
أطلق حضوره غير المنتظر شحنة كهربائية نفذت إلى أعماق الجالسين. سكت الغناء، انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه و بين استراق النظر إليه، ولكن ذاك لم يدم طويلا. أفاقوا من صدمة المفاجأة وهول المنظر. أبوا أن يسمحوا للغريب بإفساد سهرتهم. وتداعوا بإشارات فيما بينهم للإعراض عنه واستئناف لهوهم. عادوا من جديد إلى السمر و المزاح و الشراب، ولكنه في الحقيقة لم يغب عن وعيهم، لم ينجحوا في تجاهله تماما، وظل يثقل على أرواحهم كالضرس الملتهب. وصفق الرجل بقوة مزعجة فجاءه الجرسون العجوز وحمل إليه النبيذ الجهنمي، وسرعان ما أفرغه في جوفه، وألحق به آخر، ثم أمر بأربعة أكواب دفعة واحدة، وراح يشرب كوبا أثر كوب حتى أتى عليها، ثم جدد الطلب. عاودهم الإحساس بالرهبة و الخوف، ماتت الضحكات على شفاههم، تراجعوا إلى الصمت و الوجوم. أي رجل هذا !..إن ما شربه من النبيذ الجهنمي يكفي لقتل فيل، وها هو يجلس كالحجر الصلد، لايتأثر و لا ينفعل، ولا تنبسط له أسارير أي رجل هذا !..
واقترب القط الأسود مستطلعا، انتظر أن يرمي له بشيء، ولما لم يشعر له بوجود، مضى يتمسح بساقه، ولكنه ضرب الأرض بقدمه فتقهقر القط، متعجبا ولاشك لهذه المعاملة التي لم يعامل بها من قبل. وحوّل الرومي رأسه نحو الحجرة بوجهه الميت، رمق الغريب مليا، ثم عاد ينظر إلى لا شيء. وخرج الغريب عن جموده. حرك رأسه بعنف يمنة و يسرة. عض على أسنانه. جعل يتحدث بصوت غير مسموع مع نفسه أو مع شخص في مخيلته. تهدد وتوعد وهو يحرك قبضته. استقرت في صفحة وجهه أقبح صورة للغضب. استفحل الصمت و الخوف.
وسُمِع صوته لأول مرة، صوت غليظ كالخوار، تردد بقوة و هو يقول:
ـ اللعنة..الويل
وكور قبضته وتابع:
ـ ليأت الجبل..وما وراء الجبل..
وصمت مليا ثم عاد يقول بصوت انخفض درجة:
ـ هذه هي المسألة بكل بساطة وصراحة..
اقتنعوا بأنه لم يعد للبقاء من معنى. قضى على السهرة بالفشل و لما تكد تبدأ. فليذهبوا في سلام. تم التفاهم فيما بينهم بالنظرات ثم تفشت فيهم حركة تأهب و قيام. عند ذاك تنبه إليهم لأول مرة. خرج من غيبوبته. نقل عينيه بينهم في تساؤل. أوقفهم بإشارة و هو يسأل:
ـ من أنتم؟
يا له من سؤال جدير بالتجاهل و الاحتقار، ولكن أحدا لم يفكر في تجاهله أو احتقاره، و أجاب أحدهم متشجعا بكهولته:
ـ نحن زبائن المحل من قديم..
ـ متى جئتم؟
ـ جئنا مع المساء..
ـ إذن كنتم هنا قبل حضوري؟
ـ نعم..
أشار إليهم أن يعودوا إلى مجالسهم، ثم قال بحزم صارم:
ـ لن يغادر المكان أحد..
لم يصدقوا أذانهم. عقدت الدهشة ألسنتهم. ولكن أحدا لم يجرؤ على الرد عليه بما يستحق. وقال الكهل بهدوء مناقض تماما لمشاعره:
ـ ولكننا نريد أن نذهب..
فرماهم بنظرة وعيد كالحجر و قال:
ـ ليتقدم المفرط في عمره !
لم يوجد بينهم من يفرط في عمره. تبادلوا نظرات ذاهلة حائرة. وتساءل الكهل:
ـ ولكن ماوجه اعتراضك على ذهابنا؟
هز رأسه بقسوة ساخرة وقال:
ـ لا تحاولوا خداعي، لقد سمعتم كل شيء..
قال الكهل بعجب:
ـ أؤكد لك أننا لم نسمع شيئا..
فصاح بغضب:
ـ لا تحاولوا خداعي، لقد عرفتم الحكاية !
ـ لم نسمع شيئا و لم نعرف شيئا !
ـ كذابون مخادعون
ـ يجب أن تصدقنا..
ـ أصدق سكيرين معربدين؟ !
ـ إنك تسب أناسا أبرياء و تهدر كرامتهم !
ليتقدم منكم المفرط في عمره..
وضح لهم أن الموقف لا يعالج إلا بالقوة، و أنه لا قوة لديهم. واضطروا تحت تأثير نظرته المخيفة إلى الجلوس. رجعوا إلى مقاعدهم بغضب مكتوم ومهانة لم يجربوها من قبل. وسأله الكهل:
ـ وحتى متى نبقى هنا؟
ـ حتى يجيء الوقت المناسب.
ـ ومتى يجيء الوقت المناسب؟
ـ اقطع لسانك وانتظر.
ومضى الوقت في توتر وألم. اجتاحهم الكدر و النكد، فطارت الخمر من رؤوسهم. وحتى القط الأسود استشعر في الجو رائحة معادية فوثب إلى حافة النافذة الوحيدة، ثم رقد عاقدا ذراعيه تحت رأسه و أغمض عينيه طارحا ذيله بين القضبان. وألحت عليهم أسئلة واحدة: مَنِ الرجل؟،..أ هو سكران؟..أ هو مجنون؟..وما الحكاية التي يتهمهم بسماعها؟..وطيلة الوقت، ظل الخمار الرومي ملازما لصمته الميت، على حين، قام الجرسون بخدمته كأنما هو لا يرى و لا يسمع.
وجعل الرجل الغريب ينظر إليهم بسخرية وشماتة، ثم قال متوعدا:
ـ إن يقدم أحدكم على غدر، فسأعاقبكم جميعا بلا رحمة..
تشجعوا بمعاودته الخطاب، على الكلام، فقال الكهل بصدق:
ـ أقسم لك، نقسم لك جميعا..
ولكنه قاطعه متسائلا:
ـ بم تقسم إن طالبتك بقسم؟
دب أمل طفيف في النفوس، وقال الكهل بحرارة:
ـ بما تشاء، بأولادنا، بالله العظيم !
ـ لا قيمة لشيء عند زبائن خمارة حقيرة كهذه الخمارة
ـ لسنا كما تظن، نحن أباء صادقون ومؤمنون مخلصون ولا يمنع ذلك، أو لعله بسبب ذلك تشتد حاجتنا إلى الترويح عن النفس المثقلة..
فصاح بصوت مدو:
ـ أوغاد، أنذال، تحلمون ببناء القصور بلا جهد ولكن بالاستغلال الدنيء للحكاية !
ـ نقسم لك بالله العظيم بأننا ما علمنا بالحكاية، ولا فكرة لنا عنها..
ـ من منكم بلا حكاية يا جبناء؟
ـ إنك لم تتكلم، كانت شفتاك تتحركان ولكن، لم يصدر عنهما صوت !
ـ لا تحاول خداعي يا مخرف..
ـ يجب أن تصدقنا و تتركنا لحالنا..
ـ الويل لكم إذا تحركتم، والويل لكم إذا غدرتم، وإذا وقعت الواقعة فسوف أهشم رؤوسكم و أقيم منها متاريس أسد بها الممشى.
الرجل مخيف حقا، ولعله خائف أيضا، وسيضاعف ذلك من سوء المصير..
وزحف اليأس إلى القلوب كموجة من البرد المميت. ولم يكف عن الشراب، رغم أنه لا يسكر و لا يفتر و لا يهمد. وها هو يعترض المَنْفَذَ الوحيد للمكان، قويا، عنيفا، فولاذي المبنى مثل قضبان النافذة.
راحوا يتبادلون النظرات بلا أمل، و كلما لمحوا شبحا ما وراء القضبان، هفت أنفسهم إليه، ولكن دون أن تند عنهم حركة ما، وحتى القط الأسود بدا أنه هجرهم تماما ومضى ينعم بالسبات، واشتد الحصر بأحدهم فتساءل في إشفاق:
ـ أذهب إلى المبولة؟
فهتف الغريب غاضبا:
ـ من قال لك إني مرضعة !
فتأوه الكهل قائلا:
ـ هل كتب علينا أن نبقى هكذا حتى الصباح !
ـ أنتم سعداء إذا طلع الصباح عليكم..
المناقشة عبث..الرجل مجنون، أو مطارد، أو كلاهما معا. وقد تكون وراءه حكاية، وقد يكون وراءه لا شيء. وهم سجناء رغم كثرتهم، و إنه لقوي شديد، وهم لا قوة لهم و لا عزم، ولكن، ألا يوجد سبيل للمقاومة؟..المقاومة من أي نوع كان؟..
عادوا يتبادلون النظرات وقد تجسد النكد في أعينهم، و جرى الهمس تحت مستوى سمع الغريب:
ـ أي داهية؟
ـ أي ذل؟
ـ أي خزي؟
و إذا بنظرة عين تشي بما يشبه الابتسامة، بل هي ابتسامة، ابتسامة حقا؟
ـ لم لا، إنه لموقف مضحك.
ـ مضحك؟ !
ـ تأمله بحياد مؤقت تجده مهلكا من الضحك !
ـ حقا؟
ـ أخشى أن أنفجر ضاحكا..
وقال الكهل بصوت مسموع بعض الشيء:
ـ تذكروا أننا ما زلنا بعيدين عن ميعاد انصرافنا المعتاد.
ـ ولكن لم تعد هناك سهرة؟
ـ لأننا أوقفناها بلا سبب
ـ بلا سبب؟ !
ـ أعني بلا سبب يمنع من مواصلتها" الآن".
ـ وبأي روح نواصلها بعد ما كان؟
ـ لننسى إلى حين الباب و لنر ما يكون
لم يرحب بالاقتراح أحد، و لم يرفضه أحد. وجاءت الأكواب الجهنمية، على مرأى من الرجل الغريب، ولكنه لم يعبأ بهم. وأفرطوا في الشراب. دارت الرؤوس. استخفتهم النشوة. انزاحت الهموم بسحر ساحر. أخذ الضحك يتعالى. رقصوا فوق مقاعدهم. تبادلوا القافية، وغنوا معا:
عيد الأنس هلت بشايره
وطيلة الوقت، تجاهلوا الباب. نسوا وجوده نسيانا تاما. استيقظ القط الأسود و راح يتنقل من مائدة إلى مائدة، ومن ساق إلى ساق. شربوا بنهم، عربدوا بنهم، كأنما يستمتعون بآخر لياليهم في الخمارة.
وحدثت معجزة، إذ تقهقر الحاضر حتى ذاب في مد من النسيان، وتحللت الذاكرة، فنفضت من خلاياها كل مكنوزها. لم يكن الواحد يعرف صاحبه. إنه لنبيذ جهنمي حقا، ولكن أجل ولكن..
ـ ولكن أين نحن؟
ـ خبرني من نكون، أخبرك أين نحن.
ـ كان ثمة غناء؟
ـ أو كان بكاء على ما أذكر..
ـ وكان ثمة حكاية..ترى أي حكاية؟
ـ وهذا القط الأسود، هو شيء محسوس لاشك فيه.
ـ أجل إنه الخيط الذي سيوصلنا إلى الحقيقة.
ـ ها نحن نقترب من الحقيقة.
ـ كان هذا القط إلها على عهد أجدادنا..
ـ وذات يوم جلس على باب زنزانة ثم أذاع سر الحكاية..
ـ وهدد بالويل.
ـ و لكن ما الحكاية؟
ـ كان في الأصل إلها ثم انسخط قطا..
ـ ولكن ما الحكاية؟
ـ كيف لقط أن يتكلم؟
ـ أ لم يفض إلينا بالحكاية؟
ـ بلى، ولكنا ضيعنا الوقت في البكاء و الغناء.
ـ ها قد اكتملت الخيوط، وتمهد الطريق لاقتناص الحقيقة..و ارتفع صوت الجرسون العجوز و هو ينهر شخصا ما مهددا و متوعدا و يصيح به:
ـ اصح يا كسلان و إلا هشمت رأسك.
و أقبل رجل ضخم محني الهامة من الانكسار. راح يرفع الأقداح و الصحاف، و ينظف الموائد، ويجمع النفايات من فوق الأرض، كان يعمل دون أن ينبس بكلمة، أو ينظر إلى أحد، وقد غشيه حزن عميق و اغرورقت عيناه بالدموع.
تابعوه برثاء و إشفاق، وسأله أحدهم:
ـ ما الحكاية؟
ولكنه لم يلتفت إليهن وتابع عمله صامتا، حزينا، مغرورق العينين.
و تساءل الكهل:
ـ متى و أين رأيت هذا الرجل؟
ومضى الرجل نحو الممشى بملابسه القاتمة المكونة من بلوفر أسود و بنطلون رمادي غامق، وحذاء بني من المطاط، فعاد الكهل يتساءل:
ـ متى و أين رأيت هذا الرجل؟
.
كانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.
ليس بالنادر أن يتلقى أحدهم هذا السؤال: " لماذا تفضل خمارة القط السود؟"
النجمة اسمها الحقيقي، ولكنها تسمى اصطلاحا بخمارة القط الأسود، نسبة لقطها الأسود الضخم، معشوق صاحبها الرومي الأعجف المدبب و صديق الزبائن و تعويذتهم.
" أفضل خمارة القط الأسود لجوها العائلي الحميم، و لأنك بقرش أو بقرشين تستطيع أن تحلق بلا أجنحة.."
يتنقل القط الأسود من مائدة إلى مائدة، وراء لباب الخبز وفتات الطعمية و السمك، يتلكأ عند الأقدام، و يتمسح بالسيقان بدلال من بطرته النعمة، وصاحبه الرومي يعتمد الطاولة بمرفقيه رانيا للاشيء بنظرة ميتة، أما الجرسون العجوز، فيدور بالنبيذ أو يملأ الأكواب الصغيرة المضلعة من صنابير البراميل.
" و هي أرحم خمارة بذوي الدخول الثابتة.."
وتتبادل الملح و النوادر و تتوارد النفوس ببث الشكايات، ويترنم صاحب الصوت السالك بأغنية، فيطفح المكان المدفون الرطب بالسعادة.
" لا بأس من أن ننسى ساعة من الزمان كثرة العيال وقلة المال.."
" و أن ننسى الحر و الذباب.."
" وننسى أنه يوجد عالم خارج القضبان.."
" وأن ننعم بملاطفة القط الأسود.."
في ساعات اللقاء، تصفو نفوسهم، تفيض بالحب لكل شيء، يتحررون من التعصب و الخوف، ويتطهرون من أشباح المرض و الكبر و الموت، يتصورون في صورة منشودة، يسبقون الزمن بقرون كاملة.
وكانوا يرددون أغنية جماعية عندما ظهر في الباب رجل غريب.
نظر الرجل الغريب في أرجاء المكان، فلم يجد مائدة خالية، اختفى عن الأنظار في الممشى حتى ظنوا أنه ذهب إلى الأبد، ولكنه رجع حاملا كرسيا من القش المجدول ـ كرسي الخواجة الرومي نفسه ـ ثم وضعه لصق الباب الضيق وجلس.
جاء متجهما وعاد متجهما. لم ينظر نحو أحد، تجلت في عينيه نظرة حادة صارمة و لكنها غائبة، لائذة بعالم بعيد مجهول، لا ترى أحدا ممن يملأون المكان الصغير. منظره في جملته قاتم و قوي ومخيف كأنه مصارع أو ملاكم أو رافع أثقال. وملابسه متوافقة تماما مع قتامته، ومؤكدة لها بالبلوفر الأسود و البنطلون الرمادي الغامق و الحذاء المطاط البني. لم يشرق في ذاك البناء المظلم إلا صلعة مربعة توجت رأسا كبيرا صلبا.
أطلق حضوره غير المنتظر شحنة كهربائية نفذت إلى أعماق الجالسين. سكت الغناء، انقبضت الأسارير، خمد الضحك، ترددت الأبصار بين التحديق فيه و بين استراق النظر إليه، ولكن ذاك لم يدم طويلا. أفاقوا من صدمة المفاجأة وهول المنظر. أبوا أن يسمحوا للغريب بإفساد سهرتهم. وتداعوا بإشارات فيما بينهم للإعراض عنه واستئناف لهوهم. عادوا من جديد إلى السمر و المزاح و الشراب، ولكنه في الحقيقة لم يغب عن وعيهم، لم ينجحوا في تجاهله تماما، وظل يثقل على أرواحهم كالضرس الملتهب. وصفق الرجل بقوة مزعجة فجاءه الجرسون العجوز وحمل إليه النبيذ الجهنمي، وسرعان ما أفرغه في جوفه، وألحق به آخر، ثم أمر بأربعة أكواب دفعة واحدة، وراح يشرب كوبا أثر كوب حتى أتى عليها، ثم جدد الطلب. عاودهم الإحساس بالرهبة و الخوف، ماتت الضحكات على شفاههم، تراجعوا إلى الصمت و الوجوم. أي رجل هذا !..إن ما شربه من النبيذ الجهنمي يكفي لقتل فيل، وها هو يجلس كالحجر الصلد، لايتأثر و لا ينفعل، ولا تنبسط له أسارير أي رجل هذا !..
واقترب القط الأسود مستطلعا، انتظر أن يرمي له بشيء، ولما لم يشعر له بوجود، مضى يتمسح بساقه، ولكنه ضرب الأرض بقدمه فتقهقر القط، متعجبا ولاشك لهذه المعاملة التي لم يعامل بها من قبل. وحوّل الرومي رأسه نحو الحجرة بوجهه الميت، رمق الغريب مليا، ثم عاد ينظر إلى لا شيء. وخرج الغريب عن جموده. حرك رأسه بعنف يمنة و يسرة. عض على أسنانه. جعل يتحدث بصوت غير مسموع مع نفسه أو مع شخص في مخيلته. تهدد وتوعد وهو يحرك قبضته. استقرت في صفحة وجهه أقبح صورة للغضب. استفحل الصمت و الخوف.
وسُمِع صوته لأول مرة، صوت غليظ كالخوار، تردد بقوة و هو يقول:
ـ اللعنة..الويل
وكور قبضته وتابع:
ـ ليأت الجبل..وما وراء الجبل..
وصمت مليا ثم عاد يقول بصوت انخفض درجة:
ـ هذه هي المسألة بكل بساطة وصراحة..
اقتنعوا بأنه لم يعد للبقاء من معنى. قضى على السهرة بالفشل و لما تكد تبدأ. فليذهبوا في سلام. تم التفاهم فيما بينهم بالنظرات ثم تفشت فيهم حركة تأهب و قيام. عند ذاك تنبه إليهم لأول مرة. خرج من غيبوبته. نقل عينيه بينهم في تساؤل. أوقفهم بإشارة و هو يسأل:
ـ من أنتم؟
يا له من سؤال جدير بالتجاهل و الاحتقار، ولكن أحدا لم يفكر في تجاهله أو احتقاره، و أجاب أحدهم متشجعا بكهولته:
ـ نحن زبائن المحل من قديم..
ـ متى جئتم؟
ـ جئنا مع المساء..
ـ إذن كنتم هنا قبل حضوري؟
ـ نعم..
أشار إليهم أن يعودوا إلى مجالسهم، ثم قال بحزم صارم:
ـ لن يغادر المكان أحد..
لم يصدقوا أذانهم. عقدت الدهشة ألسنتهم. ولكن أحدا لم يجرؤ على الرد عليه بما يستحق. وقال الكهل بهدوء مناقض تماما لمشاعره:
ـ ولكننا نريد أن نذهب..
فرماهم بنظرة وعيد كالحجر و قال:
ـ ليتقدم المفرط في عمره !
لم يوجد بينهم من يفرط في عمره. تبادلوا نظرات ذاهلة حائرة. وتساءل الكهل:
ـ ولكن ماوجه اعتراضك على ذهابنا؟
هز رأسه بقسوة ساخرة وقال:
ـ لا تحاولوا خداعي، لقد سمعتم كل شيء..
قال الكهل بعجب:
ـ أؤكد لك أننا لم نسمع شيئا..
فصاح بغضب:
ـ لا تحاولوا خداعي، لقد عرفتم الحكاية !
ـ لم نسمع شيئا و لم نعرف شيئا !
ـ كذابون مخادعون
ـ يجب أن تصدقنا..
ـ أصدق سكيرين معربدين؟ !
ـ إنك تسب أناسا أبرياء و تهدر كرامتهم !
ليتقدم منكم المفرط في عمره..
وضح لهم أن الموقف لا يعالج إلا بالقوة، و أنه لا قوة لديهم. واضطروا تحت تأثير نظرته المخيفة إلى الجلوس. رجعوا إلى مقاعدهم بغضب مكتوم ومهانة لم يجربوها من قبل. وسأله الكهل:
ـ وحتى متى نبقى هنا؟
ـ حتى يجيء الوقت المناسب.
ـ ومتى يجيء الوقت المناسب؟
ـ اقطع لسانك وانتظر.
ومضى الوقت في توتر وألم. اجتاحهم الكدر و النكد، فطارت الخمر من رؤوسهم. وحتى القط الأسود استشعر في الجو رائحة معادية فوثب إلى حافة النافذة الوحيدة، ثم رقد عاقدا ذراعيه تحت رأسه و أغمض عينيه طارحا ذيله بين القضبان. وألحت عليهم أسئلة واحدة: مَنِ الرجل؟،..أ هو سكران؟..أ هو مجنون؟..وما الحكاية التي يتهمهم بسماعها؟..وطيلة الوقت، ظل الخمار الرومي ملازما لصمته الميت، على حين، قام الجرسون بخدمته كأنما هو لا يرى و لا يسمع.
وجعل الرجل الغريب ينظر إليهم بسخرية وشماتة، ثم قال متوعدا:
ـ إن يقدم أحدكم على غدر، فسأعاقبكم جميعا بلا رحمة..
تشجعوا بمعاودته الخطاب، على الكلام، فقال الكهل بصدق:
ـ أقسم لك، نقسم لك جميعا..
ولكنه قاطعه متسائلا:
ـ بم تقسم إن طالبتك بقسم؟
دب أمل طفيف في النفوس، وقال الكهل بحرارة:
ـ بما تشاء، بأولادنا، بالله العظيم !
ـ لا قيمة لشيء عند زبائن خمارة حقيرة كهذه الخمارة
ـ لسنا كما تظن، نحن أباء صادقون ومؤمنون مخلصون ولا يمنع ذلك، أو لعله بسبب ذلك تشتد حاجتنا إلى الترويح عن النفس المثقلة..
فصاح بصوت مدو:
ـ أوغاد، أنذال، تحلمون ببناء القصور بلا جهد ولكن بالاستغلال الدنيء للحكاية !
ـ نقسم لك بالله العظيم بأننا ما علمنا بالحكاية، ولا فكرة لنا عنها..
ـ من منكم بلا حكاية يا جبناء؟
ـ إنك لم تتكلم، كانت شفتاك تتحركان ولكن، لم يصدر عنهما صوت !
ـ لا تحاول خداعي يا مخرف..
ـ يجب أن تصدقنا و تتركنا لحالنا..
ـ الويل لكم إذا تحركتم، والويل لكم إذا غدرتم، وإذا وقعت الواقعة فسوف أهشم رؤوسكم و أقيم منها متاريس أسد بها الممشى.
الرجل مخيف حقا، ولعله خائف أيضا، وسيضاعف ذلك من سوء المصير..
وزحف اليأس إلى القلوب كموجة من البرد المميت. ولم يكف عن الشراب، رغم أنه لا يسكر و لا يفتر و لا يهمد. وها هو يعترض المَنْفَذَ الوحيد للمكان، قويا، عنيفا، فولاذي المبنى مثل قضبان النافذة.
راحوا يتبادلون النظرات بلا أمل، و كلما لمحوا شبحا ما وراء القضبان، هفت أنفسهم إليه، ولكن دون أن تند عنهم حركة ما، وحتى القط الأسود بدا أنه هجرهم تماما ومضى ينعم بالسبات، واشتد الحصر بأحدهم فتساءل في إشفاق:
ـ أذهب إلى المبولة؟
فهتف الغريب غاضبا:
ـ من قال لك إني مرضعة !
فتأوه الكهل قائلا:
ـ هل كتب علينا أن نبقى هكذا حتى الصباح !
ـ أنتم سعداء إذا طلع الصباح عليكم..
المناقشة عبث..الرجل مجنون، أو مطارد، أو كلاهما معا. وقد تكون وراءه حكاية، وقد يكون وراءه لا شيء. وهم سجناء رغم كثرتهم، و إنه لقوي شديد، وهم لا قوة لهم و لا عزم، ولكن، ألا يوجد سبيل للمقاومة؟..المقاومة من أي نوع كان؟..
عادوا يتبادلون النظرات وقد تجسد النكد في أعينهم، و جرى الهمس تحت مستوى سمع الغريب:
ـ أي داهية؟
ـ أي ذل؟
ـ أي خزي؟
و إذا بنظرة عين تشي بما يشبه الابتسامة، بل هي ابتسامة، ابتسامة حقا؟
ـ لم لا، إنه لموقف مضحك.
ـ مضحك؟ !
ـ تأمله بحياد مؤقت تجده مهلكا من الضحك !
ـ حقا؟
ـ أخشى أن أنفجر ضاحكا..
وقال الكهل بصوت مسموع بعض الشيء:
ـ تذكروا أننا ما زلنا بعيدين عن ميعاد انصرافنا المعتاد.
ـ ولكن لم تعد هناك سهرة؟
ـ لأننا أوقفناها بلا سبب
ـ بلا سبب؟ !
ـ أعني بلا سبب يمنع من مواصلتها" الآن".
ـ وبأي روح نواصلها بعد ما كان؟
ـ لننسى إلى حين الباب و لنر ما يكون
لم يرحب بالاقتراح أحد، و لم يرفضه أحد. وجاءت الأكواب الجهنمية، على مرأى من الرجل الغريب، ولكنه لم يعبأ بهم. وأفرطوا في الشراب. دارت الرؤوس. استخفتهم النشوة. انزاحت الهموم بسحر ساحر. أخذ الضحك يتعالى. رقصوا فوق مقاعدهم. تبادلوا القافية، وغنوا معا:
عيد الأنس هلت بشايره
وطيلة الوقت، تجاهلوا الباب. نسوا وجوده نسيانا تاما. استيقظ القط الأسود و راح يتنقل من مائدة إلى مائدة، ومن ساق إلى ساق. شربوا بنهم، عربدوا بنهم، كأنما يستمتعون بآخر لياليهم في الخمارة.
وحدثت معجزة، إذ تقهقر الحاضر حتى ذاب في مد من النسيان، وتحللت الذاكرة، فنفضت من خلاياها كل مكنوزها. لم يكن الواحد يعرف صاحبه. إنه لنبيذ جهنمي حقا، ولكن أجل ولكن..
ـ ولكن أين نحن؟
ـ خبرني من نكون، أخبرك أين نحن.
ـ كان ثمة غناء؟
ـ أو كان بكاء على ما أذكر..
ـ وكان ثمة حكاية..ترى أي حكاية؟
ـ وهذا القط الأسود، هو شيء محسوس لاشك فيه.
ـ أجل إنه الخيط الذي سيوصلنا إلى الحقيقة.
ـ ها نحن نقترب من الحقيقة.
ـ كان هذا القط إلها على عهد أجدادنا..
ـ وذات يوم جلس على باب زنزانة ثم أذاع سر الحكاية..
ـ وهدد بالويل.
ـ و لكن ما الحكاية؟
ـ كان في الأصل إلها ثم انسخط قطا..
ـ ولكن ما الحكاية؟
ـ كيف لقط أن يتكلم؟
ـ أ لم يفض إلينا بالحكاية؟
ـ بلى، ولكنا ضيعنا الوقت في البكاء و الغناء.
ـ ها قد اكتملت الخيوط، وتمهد الطريق لاقتناص الحقيقة..و ارتفع صوت الجرسون العجوز و هو ينهر شخصا ما مهددا و متوعدا و يصيح به:
ـ اصح يا كسلان و إلا هشمت رأسك.
و أقبل رجل ضخم محني الهامة من الانكسار. راح يرفع الأقداح و الصحاف، و ينظف الموائد، ويجمع النفايات من فوق الأرض، كان يعمل دون أن ينبس بكلمة، أو ينظر إلى أحد، وقد غشيه حزن عميق و اغرورقت عيناه بالدموع.
تابعوه برثاء و إشفاق، وسأله أحدهم:
ـ ما الحكاية؟
ولكنه لم يلتفت إليهن وتابع عمله صامتا، حزينا، مغرورق العينين.
و تساءل الكهل:
ـ متى و أين رأيت هذا الرجل؟
ومضى الرجل نحو الممشى بملابسه القاتمة المكونة من بلوفر أسود و بنطلون رمادي غامق، وحذاء بني من المطاط، فعاد الكهل يتساءل:
ـ متى و أين رأيت هذا الرجل؟
.