خالد محمد مندور - 18 و19 يناير 1977 والمزاج الجماهيري

تحل ذكرى يناير 1977 كي تعيد من جديد ذكريات تاريخنا القريب والبعيد وتطرح كيف نرى حركة الجماهير وعلى راسها قضية المزاج الجماهيري ، مزاج يؤثر كثيرا في حركته وكثيرا ما يفاجئ القوى السياسية المنظمة ، بل يفاجئ أيضا قيادات الحركة ذاتها وتطرح ، من جديد ، العلاقة بين القوى المنظمة بأهدافها وحركة الجماهير التي بالضرورة هي حركة مستقلة .
دروس كثيرة يقدمها ليس فقط تاريخ بلادنا ، على الأقل منذ ثورة عرابي 1882 ، بل يقدمها التاريخ العالمي ولذلك رأيت ان اعيد نشر ما كتبته في التعليق على ذكرى اللجنة الوطنية للطلبة والعمال.
المزاج الجماهيري
في ذكرى الكفاح البطولي للطلبة بقيادة اللجنة الوطنية للطلاب في عام 1946 ضد مشروع معاهدة صدقي بيفن و الذي حفز تشكيل اللجنة الوطنية للطلبة والعمال التي قادت الإضراب العام في مصر ضد مشروع المعاهدة و ضد حكومة صدقي مغتصبة السلطة وحظيت بدعم من الصحافة الحرة و من بعض المنظمات والتيارات الحزبية العلنية وغير العلنية والتي نجحت في النهاية في إسقاط مشروع المعاهدة والحكومة التي تبنتها ، رغم تأييد اخوان الشياطين لهذه الحكومة ، اسم جدتي الكودي للإخوان المسلمين، الا ان هذه اللجنة لم تستطيع الاستمرار برغم التأييد الشعبي الغامر و النجاح الكبير الذى حققته
.
و لكنها تبقى في الذاكرة الوطنية كي تعود من جديد ، في زمن جديد ، بعد 26 عاما ، بقيادات جديدة ليس لها أي علاقة جسدية بالقيادات القديمة ، و تقود كفاحا جماهيريا جديدا ضد التخاذل عن مواجهة الاحتلال الصهيوني لأرضنا وارض اشقائنا ، و تحظى بدعم جماهيري هائل ومن كبار الأدباء والفنانين و من الكثير من النقابات المهنية.
وفي العام التالي مباشرة ، وبعد اختفاء الوجبة الأولى من زعماء الطلبة في الحفظ الأمين، تتفجر الأحداث من جديد و تعجز القيادات المتبقية ، رغم ادراكها هي وقيادتها للأهمية البالغة لتنظيم الجماهير ، وبرغم قوة الحركة و ازدياد تماسكها ، فإنها تعجز عن إعادة خلق اللجنة من جديد ، برغم وجود الكثير من القيادات خارج الحفظ الأمين ، لان المزاج الجماهيري كان يتبنى الاعمال الجماهيرية المباشرة.
و يدور الزمان و تنفجر الثورة بعد اكثر من أربعين عاما و تعجز عن خلق اشكالها الجماهيرية المنظمة التي من المفترض أن تقود ، وتقود الأحداث تدريجيا الأحزاب وهيئات الدولة المتبقية و التي حافظت على قدر معقول من التماسك ، و يصبح الجمهور الغير منظم أداة هيولي تستخدم برغم الأداء البطولي لبعض المنظمات الحزبية الصغيرة.
وهو ما يطرح من جديد التساؤل القديم الجديد ، كيف تتشكل و تموت المنظمات الجماهيرية ، هل الأمر رهن بوعى و رغبة العناصر أو المنظمات الأكثر وعيا وادراكا ، ام ان هناك عوامل أخرى حاكمة و مؤثرة و ما هي هذه العوامل؟ وهل يمكن تعميمها؟ ام ان التحليل الملموس للواقع الملموس في كل حالة كفيل بتبيان الدروس والعوامل كل في زمانه و ظروفه بدون خبرة تعليمية ؟!!
اعتقد ان الأساس الموضوعي هو مزاج الجمهور و استعداده و مستوى تطور وعيه العفوي ، فلقد تعرضت ثورات كثيرة لهزائم كبيرة برغم توفر التنظيمات الحزبية المتماسكة و القادة الكبار أصحاب الكاريزما و لكن في زمن الثورات كل المنظمات الحزبية ، مهما كان تاريخها أو زعمائها ، تصبح صغيرة في مواجهة حركة جماهيرية عارمة .
وإذا راجعنا خبرة ثورة 1919 في مصر لظهر بجلاء أن الجمهور كان سباقا بمراحل لمن أصبحوا قادتها فيما بعد بـمسارعته الى تشكيل لجان الوفد و بالأعمال النضالية ومنها استقلال جمهورية زفتي.
أما 1977 فلم يكن ممكنا لها أن تتطور إلا باستمرار الغباء السياسي للنظام لأن الجمهور الذي خرج محتجا، خرج من اجل اهداف صغيرة في نفس الوقت الذي أدرك فيه قادة الدولة الإمكانيات الكامنة لتطور الحركة فقطعوا الطريق عليها بالتراجع عن القرارات.
والمفارقة هنا أن أجزاء من هذا الجمهور كانت قد تلقت تدريبات سياسية ونقابية كبرى قبل الانتفاضة ولعدة سنوات منذ 1968 ،في حين أن من خرج سنة 2011 كان تدريبة السياسي اقل ولكنه خرج من اجل اهداف كبرى ولم يخرجه أحد وبرغم ذلك لم تنجح الجماهير في خلق منظماتها الجماهيرية المستقلة التي تتولى القيادة.
وفي ثورة شعبية أخرى، في بلد أخرى، لازلت أتذكر ان الحزب الذي قاد الثورة وانتصر كان حزب أقلية في بدايتها رغم كل قادته الأفذاذ و تاريخهم النضالي و لكنه احسن إدارة مواقفه و توقيتاتها و كافح لكي يحوز الأغلبية في هيئات الثورة المتشكلة تلقائيا، فقادها بعد أن حاز على ثقة الجمهور وانتصر في النهاية بعد شهور طويلة و في ظرف دولي موات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى