عبد الكريم الناعم - الحساسية والإبداع

نعني بـــ(الحساسية) التّكوين الخاص لإنسان ما، يُشاركه فيه غيره رهافةً، والرّهافة، (موهبة)، تشكّل حالة من التّمايز والتميّز لدى المُبدعين ، لاسيّما في ميدان النّقد، وإلاّ ما سرّ التّفاوت بين ناقدين مشهود لهما، حين يقرآن قصيدة واحدة، وبرغم اشتراكهما في التّحليل، والغوص، وكشف الغوامض، والتّركيز على الجماليّ،.. سيظلّ شيء من التّمايز، لا في الأسلوب ، بل في القراءة الإبداعيّة، واجتلاء النصّ، وهذه الحساسية هي التي دفعت بعض النّقاد الكبار للقول بانفتاح النصّ بحسب ذوق كلّ ناقد،
هذه الحساسية ليست واحدة لدى حامليها، ويقع الاختلاف في التّكوين الذاتي، وفي التّعبير، فهذا هادئ، وذاك متوتّر، والذي يعنينا فيما نحن بصدده : النّاقد، والمتلقّي،
المقصود بالمتلقّي الذي يستمتع بالقراءة، ويستفيد منها، وتأخذه خلابة ما يقرأ، ولا يمتلك موهبة التّعبير، مع قدرته على التّمييز بين الآراء،
مِن هنا أيضاً كان التّقييم الجديد للنّاقد المبدع، فهو يبدأ من النّص، ولكنّه يصل بموهبته إلى آفاق إبداعيّة لا تقلّ قيمة عن النصّ المقروء، وهكذا لا يكون عالة على النّصّ، فالنصّ يحرّضه على السّفر في أمداء جَواؤها حساسية النّاقد، وثقافته، وتجاربه، ورؤاه بعامّة،
نقول :" رؤاه بعامّة" لأنّ ناقداً لا يؤمن بشيء اسمه (الرّوح) مثلاً، سيختلف عن آخر ذي منحى روحانيّ، وقد تنعكس إحدى الرؤيتين سلباً على النّص ذاته، وهذا أحد المزالق التي تُوصِل إليها الأيديولوجيا، أيّاً كان شكلها ومصدرها،
2
الحساسية تحتاج لثقافة نوعيّة لكي تُثمر، وإلاّ فما أكثر مَن وُلدوا مُرهفين ، ولم تساعدهم ظروفهم أن يكونوا مثقفين ، فلم تجد البذرة ما يناسب نماءها، بينما (الثقافة) لا تحتاج إلى ذلك القدر من موهبة الحساسية، ولسنا ننفي عن مثل هذا المثقّف حساسيته ،.. فقد يكتفي بمتعة المعرفة، ونقلها، وتداولها، أمّا صاحب الحساسية الإبداعيّة فلا يكتمل حضوره المعبّر إلاّ بالإبداع، والذي قد نعبّر عنه بقولنا " هذا ماكنت أحسّ به"،
3
تنوّع الإبداع والتلقّي تعبير عن جوهر تنوّع الحياة، فهذا يحبّ الموسيقا، وذاك الشعر، وثالث الرّسم، وأقرب النّاس كمالا إبداعيّاً هو المتذوّق للكلّ ، ولا يُشترَط أن يكون تذوّقه على درجة واحدة، لارتباط هذا بمفردات الحياة ، فابن الرّيف يُطربه الغناء الرّيفي، وابن المدينة يجذبه مانشأ على سماعه، وهذ لا يعني إقامة حدود فاصلة بل أن نذهب معاً في ذلك الرّوض،
قبول التّعدّديّة في الجمال يعني قبول التّنوّع والخروج من الأحاديّة، كما أنّ قبولها درجة في الرّقيّ الإنساني، واحترام هذا الإنسان، أيّاً كان معتقده، مادام لا يخرّ ب ولا يسيء لبستان اللّه، ولمخلوقاته، وواصِلُ هذه الدّرجة يضع قدمه على معراج الرؤية الصوفيّة التي عبّر عنها الإمام عليّ ( ع) بقوله:" ما رأيتُ شيئاً إلاّ ورأيتُ اللّه معه"،
مثل هذه الرّهافة تستحضر الصّوفيين في العالم ، الذين بلغت حساسيتهم حدّ الصّمت النّاطق، أو القول المشتعل، فكان لهم في الشعر ما ليس لغيرهم، وبعض شعرائنا المعاصرين، ينحو نحوهم طلباً للاقتراب من الشعلة الالهيّة،
نتذكّر العلاقة بين الشعر والتصوّف، ومقولة في داخل كلّ صوفيّ: شاعر ، وفي داخل كلّ شاعر صوفيّ ،
4
الحساسية الإنسانيّة العالية تنصب جسراً نوعيّاً بين الإبداع والمنصرفين للشأن العام، فالذين همّهم إقامة العدالة الاجتماعيّة يحملون قدراً عالياً من الرّهافة الإنسانيّة تدفعهم للتحدّي، وللمخاطرة، وللتّضحية، .. هؤلاء من حمَلًة تلك الحساسية في جانب التجسيد المجتمعي الذي لا يقلّ إبداعاً، في الصّياغة المجتمعيّة عن المبدعين الكبار،
من حقّنا، إبداعيّاً، أن نستغرب انحياز المبدع لِما يجرح كرامة الإنسان فكيف بمن ينحاز لمواقع الاستكبار؟!!



.............................................................
نشر في صحيفة العروبة الالكترونية في 22/1/2022



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى