د. سيد شعبان - ولي الله جزر!

تناول الشيخ إفطاره المعتاد، يتبلعه كيفما اتفق له، لبن وجبن وشطيرة خبز، يزدرد كوب الشاي وينكت الأرض بعصاه التي لا تفارقه، يرسم ألف وجه ليوم نترقبه من حديثه حين تنثال كلماته، يحلو له الحديث عن عالمه المنقوش في ذاكرته، أنصت إليه، حين تشرق الشمس تذوب كتلة البرد التي تخيم فوق منزلنا الحجري، نحن هنا كما الجبال أوتادا، تتداعى إليه أحاديث أجداده سمرهم، ونتف مما فعلوه، يشرب الشاي ممزوجا باللبن، يسائلني عن أشياء لا وجود لها، أمكنة تبدلت، أناس طواهم النسيان، يخبرني عن أحداث انقضت وتسربت كما الزمن، اعتدل في جلسته وقد أحكم عمامته، تطالع في وجهه أزمنة مضت وحكايات عاشها، يجاذبني الحديث مشفقا، كل موقف يعرض لي يبادلني بما يشبهه في ذاكرة نقشت عليها التجاعيد ، ليلة أمس أيقظني من النوم، أضاء الكشاف الكهربائي؛ حين يأتي الشتاء يدب جزر في الحديقة، ابتسمت له.
نسينا أن نبذر الجزر وسط الأشجار، يبدو أن الهالوك يصر أن يفترس نبات الفول.
قال الشيخ: يا ولدي الجزر والهالوك صاحبان؛ أما الهالوك فأنت تعرفه يخرج من بين الجذور يمتص دمها، يبدو عدوا يلتهم زرعنا؛ ازرع في الفول" الشبت والكسبرة" يحدان منه، وما أظنك سمعت بقصة جزر؟
له سبعة أولاد من نعناعة وخمس بنات من أم الخير؛ بلغ به الحال أن طاف ببلاد الله يسأل الناس، كنا نتعجب منه: جسمه كالثور الهلالي وذراعاه كنخلة الشيخ ربيع؛ ووجهه أحمر كالنار في فرن سحالي؛ لحيته حمراء كشمس الظهيرة، يبدو أن الناس لقبته بجزر لكل هذا، يأتي كفرنا يركب حماره الأعرج ذلك اللئيم ينطلق وسط الحقول عند حنية الطريق من ترعة أبو طبل، يختفي وسط الغاب والبوص ومن ثم يلتهم ما يجده من زرع، ثم يربع وقد امتلأت بطنه وقد أرخى أذنيه شبعا، وجزر يطرق الأبواب يحمل في خرجه أرغفة وأوعية وكل ما يجده في طريقه، حبل غسيل، ملعقة أو مسبحة، يعدو على صنابير مياه الجامع القبلي، يمر بالجزارين يعطونه اللحم والعظم؛ فالحساء لا يحلو من غير دهن.
يطوف بالبيوت التي تخبز، يشتم رائحة القدر، يعلوه شارب يقف الغراب الأسود وقد فرد جناحيه، يتبعه الصغار في كل حارة أو شارع وزقاق، بهاليل كفرنا رأوه وليا من أولياء الله، أعجبته الفكرة- وكثير من هذا في كفرنا- ارتدى عمامته الخضراء وركب حماره وقد تدلت منه شراشيف، يتمتم ويحرك شفتيه بأدعية وأوراد.
ولي الله جزر له عيون في كل ناحية يخبرونه بالزبد والمرق؛ بالفتيات وقد نضج الرمان في صدورهن؛ بذوات الخد والقد ممن يسلبن العقل؛ جزر ذاع صيته في البندر وما فوقه!
ولأن الحيلة تمكر بصاحبها، نادى في كفرنا بأنه يعرف الخبر ويناغي الحجر، يفك المربوط ويكلم الجن، حليب وقشدة وجبن وبط وإوز لسيدنا جزر.
موالد ودراويش ومقامات وأدعية، زينة وخيول وغجر ينصبون الخيام؛ حضرة ومقام وسيدنا جزر ذو السبعة رجال والخمس بنات؛ خلفاء وأولياء، يطوفون بالكفور والعزب في قطار الدلتا معجزات لسيدنا، أسرار يكشفها وخفايا يعرفها، نسي الناس جزر الحرامي- معاذ الله- وتبركوا بولي الله، أرض كفرنا وسية انتهبها جزر، بيوتنا بما فيها لولي الله، يطعمنا إن شاء أو نظل نتمتم بأوراده التي ستغمرنا بالبركة وقد سرح الدود في الدور، يتفل كل آونة في النهر ليخرج لنا الماء؛ لجزر حية تسعى، كل من ذكره بسوء تلدغه؛ بركاتك يا مولانا جزر؛ امتلأ كفرنا بالهالوك وما يزال مقام ولي الله نطوف به ننتظر أن تمطر السماء أو ينهدم السد!
والآن نبحث عن ولي الله جزر، ليته يرضى بواحدة تعيد إليه ماء الحياة، يقولون إن النساء يفلحن فيما عجز عنه دهن العطار.
أولاد جزر امتهنوا حرفته، تقاسموا خرقته وتوزعوا حبات مسبحته، في كفرنا يحلو السمر بحديث جزر، يبلغ بنا الجوع غايته ولصاحب المقام سر ما انكشف!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى