أبووردة السعدني - منصب شيخ الجامع الأزهر (3)

... يمكن القول إن منصب شيخ الجامع الأزهر مر بمرحلتين متعاقبتين :
المرحلة الأولى :
***
تشمل تلك المرحلة المدة الزمنية من دخول مصر تحت الحكم العثماني سنة 923 /1517 وحتى منتصف القرن الحادي عشر الهجري ( السابع عشر الميلادي ) ، في هذه المدة الزمنية لم تستقر وظيفة " شيخ الجامع الأزهر " كوظيفة رسمية معترف بها من قبل السلطات الحاكمة ، بدليل : أن " قانون نامه مصر " الذي صدر في عهد السلطان سليمان القانوني (920-974 /1520-1566) ، لتنظيم أوضاع مصر الإدارية والاقتصادية ، لم يشر في مواده إلى وجود وظيفة بهذا الاسم ، كما أن المصادر التاريخية التي عاصر مؤلفوها تلك الحقبة الزمنية ،مثل : ابن إياس الحنفي - ت930/1523 - ، وابن زنبل الرمال -ت974/1566- ،وعبدالقادر الجزيري -ت977/1569 - ، والدميري المالكي -ت 1029/1619 - ، ومحمد بن عبدالمعطي الإسحاقي -ت1060/1650 - ، ومرعي الحنبلي -ت 1069/1658- ، وابن أبي السرور البكري الصديقي -ت1087/1676- في كتبه العديدة والمتنوعة في تاريخ مصر ، لم يشر واحد من هؤلاء المؤرخين ، الذين عاشوا في القرنين العاشر والحادي عش الهجريين إلى وجود وظيفة تخص علماء الأزهر باسم " شيخ الجامع الأزهر " ، وطبعي أنه لو وجدت وظيفة بهذا الاسم لكان من الضروري أن يشير اليها واحد منهم على أقل تقدير ، خاصة وأنهم - جميعا - من طبقة العلماء ، وعنوا - في مؤلفاتهم - بالجامع الأزهر وعلمائه عناية فائقة ، ولايمكن أن يكون سكوتهم عن ذكر هذه الوظيفة إجماعا منهم على عدم الإشارة إليها ..!!...
... ومن ناحية أخرى يتضح للباحث - من استقراء المصادر التاريخية المعاصرة - أن وظيفة " شيخ الجامع الأزهر " - إبان تلك الحقبة من تاريخ مصر في العصر العثماني - كانت في مرحلة " التكوين " ، وإن لم تظهر ظهورا رسميا ، فيمكن أن نعد مواقف بعض العلماء الذين برزت شخصياتهم ومواهبهم القيادية ، في تصديهم للدفاع عن حقوق علماء الأزهر ، إلى جانب مشاركتهم في الحياة العامة في مصرمشاركة إيجابية ، يمكن القول : إن تلك المواقف الشجاعة التي وقفها بعض علماء الأزهر ، كانت " الرحم " التي تكونت فيها وظيفة " شيخ الجامع الأزهر " ، حتى خرجت إلى الوجود رسميا في منتصف القرن الحادي عشر الهجري (السابع عشر الميلادي ) ، وما زالت قائمة حتى الآن ....
... وسوف نذكر - تدليلا على صواب ما ذهبنا إليه - ثلاثة مواقف لعلماء الأزهر أثناء تلك المرحلة :
أولا : مظاهرة طلاب الأزهر ضد خاير بك :
*********************************
... بعد أن تم للعثمانيين الاستيلاء على مصر سنة 923(1517 ، وتولى الأمير المملوكي " خاير بك" حكم مصر ، شرع هذا الأمير - الذي لقب بلقب ملك الأمراء - في تطبيق القوانين العثمانية تطبيقا صارما ، خاصة فيما يتصل بالضرائب ، فتم فرض رسوم باهظة على الزواج والطلاق ، وصلت إلى ستين " نصفا " من الفضة على زواج البكر ، وثلاثين " نصفا " على زواج الثيب ، الأمر الذي ضج منه المصريون بصفة عامة ، ورأى طلاب العلم بالأزهر أن المغالاة في رسوم الزواج والطلاق أمر يخالف الشريعة الاسلامية التي تدعو إلى التيسير في مثل تلك الأمور ، فنظم هؤلاء الطلاب - وكان عددهم مائة طالب - مظاهرة احتجاج صاخبة - في السابع من محرم سنة 928/1521 - ، وقادهم الشيخ " شمس الدين اللقاني " المالكي - ت930/1523- إلى حيث يقيم خاير بك ، وحين التقوا به خاطبه الشيخ اللقاني قائلا :
- يا ملك الأمراء : قد أبطلتم سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أمر النكاح ، وصرتم تأخذون على زواج البكر ستين نصفا ، وعلى زواج الثيب ثلاثين نصفا ، ويتبع ذلك أجر الشهود وغير ذلك ، وهذا يخالف الشرع الشريف ، فقد عقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خاتم فضة ، وعلى ستة أنصاف فضة ، وعقد على آية من كتاب الله تعالى ، وقد ضعف الإسلام في هذه الأيام ، وتجاهر الناس بالمعاصي والمنكرات ، وتزايد الأمر في ذلك !!...
رد خاير بك على الشيخ " اللقاني " قائلا :
_ اسمع يا سيدي الشيخ : من أكون أنا ؟ ، الخوندكار ( السلطان ) رسم يهذا ، وقال امشوا في مصر على اليسق ( القانون ) العثماني ....
فصاح طالب يدعي الشيخ " عيسى المغربي " قائلا :
- هذا يسق الكفر !!
فأمر خاير بك بالقبض على الطالب المذكور ، ثم أطلق سراحه - بعد ذلك - خوفا من طلاب الأزهر الذين أعلنوا عن استعدادهم للسفر إلى " إستانبول" - عاصمة الدولة العثمانية - لمقابلة السلطان سليمان القانوني نفسه ، كما هددوا بغلق المساجد ودور العلم - وفي مقدمتها الجامع الأزهر - احتجاجا على الرسوم التي فرضها العثمانيون على الزواج ، وعلى انتشار المعاصي والمنكرات في مدينة القاهرة ...
... أحدثت ثورة طلاب الأزهر صدى كبيرا داخل مصر ، إذ كثر الدعاء - في مساجد القاهرة - على خاير بك ، الذي حاول استرضاء علماء الأزهر وطلابه ، فأرسل رسولا إلى الشيخ شمس الدين اللقاني يطيب خاطره ويقول له : "لا تؤاخذ ملك الأمراء ، فإنه لم يكن يعرفك " ، كما أرسل إلى " المجاوين " في الجامع الأزهر مائتي دينار وأربع بقرات ، تذبح وتوزع عليهم ، لكن ابن إياس يعلق على محاولة خاير بك بقوله :
قصد أن يستجلب خواطر العلماء والفقهاء ، بما فعله من الأفعال الشنيعة ، ليمحو ذلك بذلك ، وهذا من المحالات ..!!...
ثانيا : الشيخ السنباطي وداود باشا :
****************************
الشيخ السنباطي ، هو : شهاب الدين أحمد بن عبدالحق بن محمد السنباطي ، الشافعي المصري ، من كبار علماء الأزهر ، ومن أسرة عريقة في العلم ، نعتته المصادر التاريخية ب " الإمام العالم العلامة " ، كان واعظا بالجامع الأزهر ولم يكن شيخا له - كما يذهب كثير جدا من الباحثين - ، قال عنه " معاصره " الشيخ عبدالوهاب الشعراني -ت 973/1565 - : " لم نر أحدا من الوعاظ أقبل عليه الخلائق مثله ، كان إذا نزل عن الكرسي يقتتل الناس عليه " ، وقال عنه أيضا : " اشتهر في آفاق الأرض كالشام والحجاز واليمن والروم ، وصاروا يضربون به المثل ، وأذعن له علماء مصر ، الخاص منهم والعام " ، وحين لحق بالرفيق الأعلى سنة 950/ 1544 " أظلمت مصر لموته ، وانهدم ركن عظيم من الدين "....
... تولى حكم مصر - في حياته - "داود باشا " ، وكان " خصيا " من عبيد السراي العثمانية ، غشوما سفاكا للدماء ، حين نشب خلاف بين الباشا المذكور وعلماء الأزهر ، تصدى له الشيخ أحمد السنباطي ، قائلا له :
- أنت لاتصلح للحكم وأنت تحت الرق ، وما دمت غير معتوق فأحكامك باطلة !!...
فهم الباشا بإعدامه ، إلا أنه لم يمكن من ذلك ، وحين رفع الأمر إلى السلطان سليمان القانوني ، أرسل كتابا أعلن فيه عتق داود باشا ، وأمره بحسن معاملة الرعية ، كما أرسل كتابا آخر للشيخ السنباطي شكره فيه على موقفه وشجاعته....
... ولما كان الشيخ السنباطي يتزعم علماء الجامع الأزهر وطلبته - في تلك الآونة - ، ويرفض الهدايا التي تقدم له من الحكومة العثمانية ، أمر السلطان العثماني بصرف " راتب" خاص له من خزينة مصر ، ويسجل في السجلات الرسمية ....
ثالثا : الشيخ البكري وحقوق الأزهريين :
******************************
... الشيخ أبو السرور البكري من كبار علماء الأزهر في أوائل القرن الحادي عشر الهجري ( السادس عشر الميلادي ) ، من أسرة البكري الشهيرة في مصر ، ووالد المؤرخ محمد بن أبي السرور البكري - صاحب التآليف العديدة في تاريخ مصر - ، كان خطيبا للجامع الأزهر ، وأول من شغل وظيفة " مفتي السلطنة " بمصر ، وأول من لقب بهذا اللقب ، برز في ميدان العلوم تدريسا وتأليفا ، درس في الجامع الأزهر ، وفي المشهد الحسيني ، اتسعت حلقات درسه اتساعا كبيرا ، حتى إن أحد باشاوات مصر كان يحضر دروس الشيخ أبي السرور - في المشهد الحسيني - فيخرج " متعجبا من الدرس وبهجته ".....
... تميزت شخصية الشيخ أبي السرور بالشجاعة النادرة في الذود عن حقوق العلماء وطلبة العلم ، فيذكر ابنه : أن " خضر باشا " - والي مصر سنة 1006/ 1598- كان يغلب عليه الشح الزائد ، وشرع في قطع أرزاق العلماء من القمح " فطلع له والدي ... وكلمه بكلام زائد ، وأنكاه بالكلام ، فقال للوالد :
- يا مولانا : الغالب على الذين لهم قمح تجار ، وليس فيهم علماء ...
فقال له الوالد :
- يا مولانا الوزير : نحن نكتب لكم دفترا بأسماء العلماء الذين لهم قمح ...
فأجاب الوزير إلى ذلك ، وأمر المقاطعجي ( المختص بسجلات الغلال الأميرية ) بالذهاب لمنزل الوالد في غير أيام الديوان للنظر في هذه القضية ، ثم لم يزل الوالد -رحمه الله - يتلطف بالوزير إلى أن أجاز الإعطاء للخاص والعام " ....
.... وبناء على هذا الموقف الشجاع للشيخ أبي السرور البكري ، يمكن أن نقرر : أنه كان أبرز شخصية في علماء الجامع الأزهر ، وأهلته تلك المكانة لينوب عنهم في المطالبة بحقوقهم لدى السلطات الحاكمة ، لكنه - على أية حال - لم يكن شيخا رسميا للجامع الأزهر ، ولو كانت هذه الوظيفة - الجليلة القدر - موجودة - في تلك الآونة - ، وحظي بها الشيخ البكري ، لحرص ولده على ذكرها في ترجمته الطويلة التي أوردها لوالده ، ولكانت أولى بالذكر من وظيفة " مفتي السلطنة " في مصر ، وقد توفي الشيخ البكري سنة 1007/1598.....
المرحلة الأخرى :
************
... تبدأ هذه المرحلة بتولي الشيخ " سلطان المزاحي " مشيخة الجامع الأزهر عام 1053/1643 ، تميزت بظهور شخصية شيخ الجامع الأزهر ظهورا رسميا ، واعتراف الدولة العثمانية ، ممثلة في الباشا - حاكم مصر - ، والجهازين الإداري والعسكري بالأزهر ، هيئة ذات كيان مستقل ، له نظمه وقوانينه التي يتعارف ويتفق عليها علماؤه ، ولشيخه سلطاته في رئاسة الجهاز الإداري الخاص بالأزهر ، إلى جانب رئاسته الدينية والعلمية للقائمين على التدريس فيه ، لأنه المتصدر لخدمة العلماء وطلاب العلم ، والممثل لهم عند أرباب الدولة والحكام ....
....تولى مشيخة الجامع الأزهر - إبان العصر العثماني - علماء أفاضل ، تحلوا بالموسوعية في العلم ، والجرأة في الحق ، فتمكنوا من فرض آرائهم - المطابقة للشرع الحنيف - على حكام مصر من الباشاوات وغيرهم ، بل تعدوا هؤلاء الى سلاطين الدولة العثمانية أنفسهم .....
****************************
* نشر لأول مرة عام ١٩٩٤م ، نعيد نشره بتصرف يسير
** تكرم الأستاذ الدكتور إبراهيم سلامة Ibrahim Salama بإهدائي نسخة من بحثه الموسوم 🙁 بنو عبدالحق السنباطي وأثرهم في الحياة العلمية بمكة المكرمة ، ٨٦٥ -٩٨٩/١٤٧٠-١٥٩٩) ، وسوف نعرض له مستقبلاً ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى