د. سيد شعبان - القط الأخضر

أوغلت في ممر النسيان فترة لم أستطع تذكرها، عادة تلازمني يحلو لي فيها الارتحال إلى أماكن تغيب عنها الشمس، حدثت فيها غرائب أتأسف أن لم يكن لدي قلم لأسجلها؛ ثمة أمر ظل يدور في ذاكرتي، حاولت أن أدعه يتسرب إلى الممرات الخلفية، يبدو أنه كان مثيرا لدرجة غير معقولة؛ حين ندون تلك الجذاذات نستبقي بقية من عمرنا لحظات نعتاش عليها.
في يوم نزلت أمي درج السلم مهرولة أوشكت أن تنكفيء، انتابتها حالة من غضب، تتهمني أنني من آوى تلك القطط في البيت؛ تلك عادتها حين تجد شيئا غير منطقي في البيت.
ألم أطلب منك أن تلقي بهذا القط بعيدا؛ لقد افترس الدجاجة الطيبة؛ كان لا ينقطع بيضها!
ترى من أين سنأتي بالبيض؟
حاولت أن أعتذر إليها مما أحدثه تكاسلي؛ منذ ساعتين كانت فرحة حين تذكرت أن الفئران غادرت البيت؛ أثنت على القطة وأولادها.
إنها تجيد تنظيف أجسادهم؛ بارعون في اللعب؛ كنا نتسلى برقصاتهم فوق حبال الغسيل.
- لقد بعثر أجزاءها في كل ناحية، دمها تناثر فوق الحائط حيث رسم لوحة أشبه بواقع كئيب، بقايا طفلة وجديلتها مدرجة على طريق إسفلتي، ورد أحمر تبعثر في كل ناحية، خيوط لغد مشوه الملامح؛ انتبهت لصوت أمي: ستكون آخر مرة أرى فيها هذا القط اللعين، أما كفاك ما فعل؟
التزمت الصمت؛ أمى دائما محقة؛ وإلا نالني منها خصام قد يمتد لأيام.
جاءت ببقايا سمك الغداء، ولكونها ماهرة خايلت بسلة ومن ثم حين اقترب القط الأخضر ألقت بها عليه، ثم أمرتني بأن أرمي به في مجاهل الأرض؛ خشيت أن يسقط في منتصف قناة الماء، ترددت ما أفعل به؟
تعلمون أن جدتي خوفتني كثيرا من أمس القطة أو أيا من أولادها بسوء؛ إن لها أرواحا، تتلبس صور كائنات مستأنسة؛ ثمة حكايات عن الجنية التي طرقت الباب ليلا والشتاء يتساقط بردا قاتلا، امرأة طردتها، أما صاحبة الرزق الموعود فقد خرجت إليها بحساء وكسرات خبز ساخنة، أصدرت مواءها فرحة وحين استدارت صاحبة الرزق ألقت في سلتها ببضعة أرغفة صفراء كانت من ذهب!
استجبت لأمرها، وحتى لا أصاب بسوء؛ فالقط ربما يكون من هؤلاء الذين يتخفون في ثنايا الليل ومن ثم يعود إلي بشر لا أستطيع مقاومته.
من بعيد لمحت عربة قادمة، طرأت على ذهني فكرة؛ أتوسل إليه أن يحمله بعيدا، انتابت السائق حالة من تردد؛ فنحن في زمن يظن الناس ببعض سوءا، ربما كان ثعبانا أو شرا أريد به، وحتى أزيل شكه أو أمحو ارتيابه، فتحت فوهتها أريته القط؛ انظر إنه جميل ألم تر خضرته؛ عيناه كم هما جميلتان!
قلت لأجرب مهارتي في الخداع، على أية حال رق قلبه؛ لأجل أمك الطيبة سآخذه معي؛ رجوته أن يلقي به بعيدا حتى ولو كان عند مصنع السكر؛ منطقة تبعد حوالي ثلاثين كيلو مترا.
يقترب من الطريق الصحراوي، من يصل إليه يكون قد ابتعد عن دارنا ليالي وأيام!
عدت مسرعا حيث وجدت الطيبة تنتظر ما فعلت؛ تهلل وجهها حين أخبرتها حديث القط الأخضر وسائق العربة، رأيتها نامت مطمئنة؛ لقد تخلصت من ذلك الماكر الذي عدى على دجاجتها المسكينة؛ يبدو أن أحلاما سعيدة طافت بها تلك الليلة؛ تنفث عن نفسها بها؛ فالعجائز يسافرن إلى بلاد بعيدة وقد يعدن بخيالات لا تحصى؛ يقال إنهن يتحدثن إلى أزواجهن الراحلين، يمضون أوقاتا في تصفيف شعورهن، ترتدي الواحدة منهن ثياب العرس المخبأة في سراديب الحجرات المعتمة، تبادر إلى سمعي أنهن يدندن بأغان حلوة، يخاطبن القمر ويغزلن أردية العيد المؤجل منذ ارتحل هؤلاء الأزواج.
حين يأتي الحديث عن القط الأخضر ستدعي عجوز أنه زوجها قد تلبس جسده؛ بلا شك سيكون عراكا لا أتوقع له نهاية!
ستتخلص من بعض جاراتها اللواتي يثرن شغبا في الحارة؛ تشكو من صياح واحدة منها حين تجد أزواج الحمام تهدل فوق سور البيت، تدعو عليها بأن يلتهم القط الأخضر كل ما لديها من فراخ؛ لقد تشفين في أمي لذا أمرتني بأن أفعل به ما حكيته لكم.
مع مطلع الفجر تكون نوبة ري الزرع، حين فتحت الباب الكبير، وجدت ذلك الكائن الذي كان من ساعات في حكم المفقود، إنه يموء؛ مسرعا ناديتها: أمي لقد عاد!
صاحت لا تمسه بسوء فقد كاد يخنقني وأنا نائمة؛ إنه بسبعة أرواح!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى