د. سيد شعبان - جيب عوض المثقوب !

اقترب الشهر من منتصفه، أدار الأستاذ عوض يده في جيبه،تلك كانت عادته حين تسأله زوجه عن بعض مال، كلما كانت قرارة الجيب ذات عمق دل ذلك أن المرتب قد أوشك على النفاد، التفت إليها قائلا: كم بقي على نهاية الشهر؟
أم خليل: لايزال الشهر على حاله!
لا عليك ربما وضعت باقي المائة جنيه في مكان ما،هو كثيرا ما ينسى أشياءه، ولذلك من باب الحيطة،كانت تضع يدها على راتبه كله، وتشعره أنهم يستمعون لنصحه وتدبيره كل يوم، كم هي ماهرة!
عوض يعمل معلما ، ولأن مهنته تسلب أصحاب العقول قدراتهم، إنهم طوال اليوم ما بين شرح وتصويب أخطاء، يدورون من فصل إلى فصل، يحدث أحيانا أن تجده أم خليل وقد أرقه النوم، فيأتى بإشارات متتابعة، افهم يا علي، تعالي امسحى الخطأ يا أمينة، رائع إنشادك يا إيهاب، صفقوا لهدى !
تعيذه بالله ثلاثا من عين جارتها أم سحر،فعينها نافذة،ولأنه طوال الأسبوع متعب،الدروس الخصوصية يالها من طاقة الستر التى فتحت لهم، ظل طوال سنوات عمله يكرهها،ولما كانت تجيد الكلام المعسول،روضته مثلما يفعل الحلو مع الأسود، أخذت بنصيحة أمها بعض تدلل وكثير تشكي،نسي أحلامه بأن يكون مثل الرافعي أو حتى أنيس منصور؛ كان ينفق -قبل أن يتزوج- كل مرتبه على تلك الكتب، يطيل شعره ولا يهمه أن يراه الناس مثل ديك الجن، لقد كان أشبه بإنسان الكهف، يحتسي القهوة وينام كيفما اتفق له، أول مرة رأته نفرت منه،وهل تقبل فتاة برجل تعلوه فروة شاة !
لم تكن ذات نصيب من غنى، ربما أوشك قطار الزواج أن يغادرها دون أن تحجز به مقعدا!
ولأن جليلة -أمها-تبكي حرقة لحالها، أخذت بالحيلة مرة وبالمصارحة أحيانا تثني على الأستاذ عوض زميلهم الجديد،تتحدث عن طيبته أمامها، لكنها أبدا ما ذكرت أنه يشبه غول أم الهيثم!
ندت منها ضحكة خفيفة ،حين تخيلته مقصوص الشعر مهندم الثياب،يا لحلاوة وجهه لو زاره زينهم الحلاق،وكيف تقنعه بهذا؟
لقد مضى على ذلك اليوم اكثر من خمسة عشر عاما،هاهو اليوم مستأنس ببيت الزوجية،انقطعت عنه عادته عن شراء الكتب،يعتاش من وظيفته، أفلحت أم خليل في تقليم أظافره، صنعت حوله سياجا من حديد، تفاخر به نسوة الحارة التى تنزوي بعيدا جوار عزبة النخل، نسي الأستاذ عوض أحلامه التى روادته في سني عمره الأولى، لقد أدارت بوصلته بمهارة ،تعد له كل ليلة جدول الدروس الخصوصية، مثل قرد إفريقي ينتقل من "أتوبيس لآخر" ولأنها تعرف عدد زبائنه، بل وأماكنهم،كانت كثيرا ما ترافقه بل تنتظره حتى يأتي بالمعلوم، حدث ذات مرة أن تطلعت نفسه لبعض ماضيه-هي لم تكن معه-اقترب من سور الأزبكية ،جذبه "خان الخليلي" يا لروعة نجيب!
أدار يده وأخرج عشرة جنيهات، اشترى تلك الرواية،غفل عن مواعيده،بل نسي أن يضع يده في جيبه،ضاعت فلوسك يا عوض!
لعله أضاعها، لعل اللكع بالعتبة سرقوه!
تأخر عن البيت فالساعة تقترب من منتصف الليل،لقد كانت صبيحة الجمعة،ويا لموعد منتظر،زوجين من الحمام،أعدتهما!
فتحت له الباب،لقد عاد بوجه آخر،هل ترى أصابته عين أم سحر؟
أحضرت البخور،أعاذته بكرامة السيدة،وفي الصباح كان مثل طفل بين يديها!



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى