علي بنساعود - عينان خابيتان...

قلقة جدا لحاله!
أحاول استدراجه للبوح، لكنه يتحاشى الحديث عما به...
عاد كئيباً، صموتاً، شارد الذهن... قل تواصله، تقلصت علاقاته الاجتماعية، كادت تضمحل. تجده، طول الوقت، بملابس البيت، معتصماً أمام التلفاز، لا شغل له سوى تناول القهوة، ونفث الدخان، واللهاث وراء نشرات الأخبار ومواقع النزاع...
أحثه، يوميا، على الخروج والذهاب إلى المقهى لتجديد الأواصر مع أصدقائه القدامى، أو زيارة الأهل، والتنزه وملء أوقات الفراغ... لكنه يرفض، يصر على مجابهة تلكؤ الوقت!

عاد حزينا، متوجسا، يثور لأتفه الأسباب حينا، وبدون سبب أحيانا، حاولت أن آخذه إلى الطبيب، لكنه امتنع...

يحاسبني على كل شيء، كلما دخلْتُ إلى المطبخ، يسارع إلى صنبور الماء يضعف صبيبه، وإلى الثلاجة يخفض درجتها...

عاد باردا... لا يطيق التجمعات، بل لا يطيق رؤية أحد، ولا الكلام مع أحد!

اكتشف فيَّ، أنا زوجته، عيوبَ الدنيا، أصبح ينتقِد تصرُّفاتي، وإدارتي لشؤون المنزل، وعلاقتي بأبنائي، كما أصبح يسْخَر مني، من آرائي وأفكاري، بل اتهمني بأنني لا أعرف كيف أغسل ملابسه! صار يغسلها بنفسه!

إن حدث، يوما، وخرج، ونادرا ما يحدث ذلك، فإنه سرعان ما يعود ليطرق الباب بعنف، والويل لنا إن تأخرنا في فتحه، يغضب منا، يؤنبنا مهما كانت الأعذار... وإن أنا خرجتُ للتسوق، فإنه يختلق المبررات، وينكد علي عند العودة...

وإن احتجت، أنا ابنته، شيئا من لوازم المدرسة، أتذلل، أتوسل إليه، وإن أَحْضَرَهُ، ونادرا ما يحضره، يكون على حساب مصروف البيت!

لم أعد أعرفه!

كان مغرما بي، متلهفا علي، يطلب مني أن أقص شعري، أن أتزين، أن أرتدي ثيابا حمراء قصيرة كان اشتراها لي... ويلح على أن أستعيد رشاقتي، وأنقص وزني!

كان ذلك يسعدني، وكانت أمنيتي أن أرضيه، أن أسعده فأسعد معه، ونرتاااح...

أصبح، كلما غضب منا، يمتنع عن الأكل، يعادينا، كما عادى أمه وأباه، يهددنا بالطرد من البيت، يجنح للعزلة، وكلما ظل وحيداً، ازداد حاله سوءا: يصرخ، يتذمر، يمنعنا من الخروج، ومن مشاهدة التلفاز، وفي العيد، لا يشتري لنا ملابس ولا لعبا!

أصبح لا ينام، وإن نام، فنومه كلام وصراخ، أحيانا، أستيقظ، فأجده نائما يتشاجر مع آخرين، يتبادل معهم السب والضرب، فينهال علي تعنيفا، وأحيانا ينتصب في وضعية صياد يسدد نحو طريدة! صرت أخافه، أخاف نومه وأحلامه المزعجة...

منذ أيام، استيقظتُ على صراخه: "ما بك عابسة في وجوهنا، لا تطيقين كلمةً منا، كأنك مُجبرة على العيش معنا... حتى الابتسامة اختفت من على وجهك، أكيد، أنك منزعجة مني، من عودتي التي حَدَّتْ من تَسيُّبك... على ِرسْلِك، قريبا أعيدك إلى بيت أهلك، وساعتها ستندمين، ولن ينفعك ندم..."

كانت أمي عاقلة، صبورة، لم تجبه، فأضاف: "منذ عدت، أشعر بالغربة بينكم، أحس أنني غير مرحب بي... كلمتي الأخيرة لكم جميعا: هذا بيتي، أنا سيده ومولاه، أحب من أحب، ومن كره فأرض الله واسعة!"

قبل يومين، استخرج نسخة مكبرة لصورته، أيام الشباب، بزيه العسكري، وضع لها إطارا مزخرفا، وعلقها في صدر البيت...

عند الغذاء، ما كدنا نشرع في الأكل، حتى صرخ في وجوهنا: "بسملوا أولا يا غِيلان! تأكلون ولا تشبعون!" واستدار نحو أمي: "وأنت، لماذا تطبخين اللحم مرة كل أسبوع؟ هذا كثير عليَّ، الناس أفضل منا ولا يأكلونه إلا في المناسبات والأعياد، كأنكم لا تعرفون معاشي! شمِّروا على أكتافكم... في مثل سنكم، كنت أشتغل وأنفق على والديَّ وعلى إخوتي، وأنتم كالرضع تستنزفون منحتي التي لا تكفيني حتى للدواء! ليتني مت وما عدت لأعيش الهوان بينكم..."

أصبح كائنًا غريبا...

الحياة معه جحيم حقيقي... عابس، دوما، لا يكف عن الصراخ والتذمر! يتشاجر معنا، يتدخل في أتفه أمورنا... يجبرنا على ألا نخبر أمي بأيِّ شيء إلا بعدَ أن يعلم به هو أولا، لازمته: "أنا لستُ طرطورًا في هذا البيت..."

خرج، منذ يومين، قبل أن نستيقظ... عبثا، بحثنا عنه في المستشفيات ولدى مصالح الأمن... وأنا عائدة أجر قدمي، مررت عبر ساحة المجد، بدا لي عشرات الناس متحلقين، انسللت بينهم، وجدته عاريا يحيي العلم ويردد النشيد الوطني، وكان الواقفون يحوقلون، نزع أحدهم معطفه، ستره به، وأعدناه إلى البيت... هناك عرفت أن صاحب المعطف كان أحد زملاء أبي، وهو من أَسَرَّ لي أن والدي عانى كثيرا حين كان مرابطا على الجبهة، ومن آخر ما عاناه أنه: أمضى أياما طويلة محاصرا في خندق، قرب جثث متعفنة لمن سقط من زملائه، تنهشها الغربان، وأنه كلما كان ينظر ناحيتها، كانت تهاجمه محاولة نقر عينيه الخابيتين...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى