د. أحمد الحطاب - من المصطلح العلمي إلى ترجمة النص العلمي : صياغة المصطلحات العلمية (جزء ثاني) المصطلحات العلمية كصُور فكرية

(جزء ثاني)

المصطلحات العلمية كصُور فكرية


عندما يتوصل الباحثُ إلى تفسير ظاهرة من الظواهر، فإنه مطالب بأن يسميها تسميةً تجعل القارئ يُدرك ما أراد أن يوصِلَه إليه من أفكار. في هذه الحالة، بيَّنت التجربةُ أن الباحثَ يلجأ الى عدة طرق لإخراج المصطلح الى حيز الوجود . من بين هذه الطرق :
1.اللجوء إلى رصيد المفردات المتداولة و اختيار من بينها تلك التي لها علاقة من حيث المعني بالظاهرة المراد تسميتُها.
و في هذا الصدد، يمكن أن نأخذ كمثال مصطلح (Trou noir) الذي اختاره الباحثُون للدلالة على مفهـوم فلكـي/فيزيائي astrophysique. فـهذا المصطلـح مركـَّـب مــن مفردتـين متداولتــين (Trou) بمعنـى ثُقــب و (Noir) بمعنى أسود، أي ثُقب لونه أسود. لكن الباحثين عندما أختاروا هاتين المفردتين لم يكن قصدُهم هو الدلالة على شيء لونه أسود بل كان اختيارُهم مبنيا على أن المفردتين المذكورتين تعبِّران أكثر من غيرهما على ما يروج في أذهانهم من أفكار.
و هكذا، فبمجرد انتقال هاتين المفردتين من اللغة المتداولة إلى اللغة العلمية، يصبح لكل واحدة منهما معنى آخر. في هذه الحالة، اختار الباحثون مفردة (Trou) لأنها تشير الى الفراغ و مفردة (Noir) لأنها تشير الى العدم و بالتالي، أصبح مصطلح (Trou noir) يشير إلى صورة فكرية أو مفهوم يعبِّر عن ظاهرة تتمثل في انكماش نجمٍ على نفسه ناتجٍ عن تركيز فائق للمادة بداخله، الشيء الذي يؤدي إلى تقليص هائل في حجمه وارتفاع قوي لكثافته يصبح من جرائهما قادرا على جذب و امتصاص كل شيء من حوله بما في ذلك الأشعة الضوئية المنبعثة منه و بالتالي، يحل محله ظلامٌ حالكٌ أطلق عليه الفلكيون اسم "الثقب الأسود".
وفي نفس السياق، يمكن أن نورِدَ مثالا آخر لتأكيد لجوء الباحثين للمفردات المتداولة للتعبير عن نتائج أبحاثهم. ويتعلق الأمر هذه المرة بمصطلح (Génération Spontanée) الذي اختاره لويس باستور Louis Pasteur فـي خضـم أبحاثـه فـي مجـال علـم الجراثيـم. كمـا هـو الـشـأن بالنسبة لمصطلـح (Trou noir)، فمفردة (Génération) تعنى في اللغة المتداولة جيل، نشوء، نسل، ذرية بينما مفردة (Spontané) تعني عفوي، تلقائي، ذاتي. و قد اختار لويس باستور هاتين المفردتين للتعبير عن الأفكار التي كان يروِّجها معاصرُوه و المتمثلة في اعتقادهم أن بعض الكائنات الحية كالفئران و خصوصا الجراثيم تنشأ ليس عن طريق التناسل و لكن من الأوساخ و العَفَـن. و مـن هـنـا، جــــاءت فكـرة "التـوالــد التلقائـي" التـي عبـر عنهـا باستــور بمصطـلـح (Génération Spontanée).
2.اللجوء إلى المفردات أو المصطلحات العلمية الأخرى التي لها علاقة بالظواهر المراد تسميتُها و توظيفُها لصياغة مصطلحات جديدة. في هذه الحالة، يكون المصطلح المصاغ إما بسيطا و إما مركبا ويشير للظاهرة بأكملها أو لبعض جوانبها. فمثلا، عندما استطاع الباحثون أن يفسروا الخاصية التي تتميز بها النباتات الخضراء والمتمثلة في تركيب المادة العضوية انطلاقا من ثاني أكسيد الكاربون الموجود في الهواء، والماء الموجود في التربة والطاقة الضـوئية، أشـاروا إليها بـواسطة مصطـلح (Photosynthèse) الذي تدخل في بنائه لـفظة (Photo) التي اشتُقَّت مـن (Phot) للتعبير عـن الضوء وكـلمة (Synthèse) المشتقة مـن (Syn) التي تعني معا و (Thet) التي تعني متموضع.
وهكذا، فكلمة (Synthèse) تعني وضع الأشياء أو جمعها معا. وهذا هو الشىء الذي يحدث عندما تركِّب النباتات الخضراء المواد العضوية حيث يكون التركيب ناتجا عن إلتقاء عناصر مستخرجة إما من الهواء وإما من التربة. وبما أن حدوث هذا التركيب رهين بوجود الضوء أضيفت لفظة (Photo) لكلمة (Synthèse) للتعبير عن ظاهرة تنفرد بها هذه النباتات.
و ما قِيل عن مصطلح (Photosynthèse) يمكن أن يُقال عن العديد من المصطلحات الأخرى. و كمثال آخر نضيفه للذي سبق، نورد مصطلحَ (Hémolyse) الذي يتشكل من لفظتي (Hemo) التي تعني الدم و (Lyse) التي تشير الى الذوبان أو تذويب أو انحلال أو شيء ذائب أو تحرير أو إطلاق، الخ... و قد اختار الباحثون هذا المصطلحَ بعدما لاحظوا أن الكُريات الحُمر إذا وُضِعت في وسط ضعيف التركيز، فإنها تفقد لونَها الأحمر نتيجةَ فُقدانها لليحمور hémoglobine الذي ينفصل عن الكُريات وينحل في هذا الوسط. و هكذا، فإن الصورة الفكرية التي أراد أن يعبِّر عنها الباحثون باختيارهم لمصطلح (Hémolyse) هي إطلاق سراح شيء بفصله عن شيء آخر. ويتعلق الأمر هنا بانفصال اليحمور عن الكريات الحمر.
3.اللجوء إلى أسماء الباحثين و توظيفها لصياغة مصطلحات جديدة التي يمكن أن تكون بسيطة أو مركَّبة. في الحالة الأولى، يُشتَقُّ المصطلح بأكمله من اسم الباحث و في الحالة الثانية، يُصاغ إما بإضافة إسمه الى كلمة متداولة وإما باستخراج نعث من هذا الاسم و إضافته إلى كلمة متداولة. و في هذا الصدد، يمكن أن نستدل بالمصطلحات التالية :
+ Pasteurisation
+ Cycle de Krebs
+ Mouvement Brownien
بالنسبة للمصطلح الأول، أي (Pasteurisation) ، تمت صياغتُه انطلاقا من اسم الباحث الفرنسي لويس باستور الذي كان له الفضل لإيجاد طريقة تَمكَّن من خلالها من القضاء على المتعضيات المهجرية (الجراثيم) المتواجدة في بعض الأغذية و خصوصا منها الحليب و عصير الفواكه. و تتمثل هذه الطريقة في خضوع هذه الأغذية لعملية تسخين تحت درجة حرارة معينة و خلال مدة محدودة حيث تصبح الصورة التي يرمز لها المصطلح هي القضاء على الجراثيم الموجودة في الأغذية و خصوصا المؤدية منها عن طريق التعقيم المترتب عن تسخين هذه الأغذية.
أمــا بالنسبــة للمصطلـــح الثـانـــي، أي ،(Cycle de Krebs) فهو مصطلــــحٌ مـركَّـبٌ مــــــن (Cycle) بمعنى دورة و (Krebs) الذي هو الباحث الذي اقترن إسمُه بالظاهرة التي يشير إليها هذا المصطلح. و يتعلق الأمر بسياق كميائي معقد تتحول بواسطته المواد السكرية التي يحصل عليها الجسم عن طريق التغذية إلى أحماض مختلفة، الشيء الذي يؤدي إلى تحرير كمية كبيرة من الطاقة يستفيد منها هذا الجسم. و تجدر الإشارة هنا إلى أن الصورة المراد بلورتُها من خلال هذا المصطلح هي التفاعلات الكيميائية المتسلسلة المعينة التي تحدث داخل الخلايا و تؤدي إلى إنتاج أحماض وطاقة.
أما المصطلح الثالث، فهو كذلك مركب من كلمة متداولة (Mouvement) التي تعني الحركة و كلمة (Brownien) التي هي نعث مشتق من اسم الباحث في علم النبات (Brown) الذي هو أول من شاهد الظاهرة التي يشير إليها هذا المصطلح. فعندما نتحدت عن الحركة البرونية، فالصورة التي يجب أن تخالج أذهاننا تتمثل في الاهتزاز أو الارتجاج المستمر، غير المنتظم و الصدفوي الذي تبديه الجزيئات السابحة في السوائل.
و هكذا، يبدو جليا أن ما يمكن إستنتاجُه من التوضيحات السابقة هو أن كل المصطلحات التي سردناها كأمثلة ليست مجرد تسمية لأشياء سكونية، بل إنها في الحقيقة تترجم بعض الجوانب من الفكر العلمي التي استطاع الباحثون أن يسلطوا عليها الأضواء. لهذا، فالمصطلحات من هذا النوع، لا يمكن أن تُدرَك ككلمات لأنها، أولا و قبل كل شيء، ناتجة عن سياق فكري و بالتالي، فهي عبارةٌ عن صور فكرية أو مفاهيم لها علاقة بالظواهر التي تم تفسيرُها من طرف الباحثين.
المصطلحات العلمية كألفاظ تقنية
يتعلق هذا النوع الثاني من المصطلحات بالمكونات الحية وغير الحية و الأشياء التي يتعامل معها الباحث أثناء مزاولة نشاطه الفكري العلمي. و هنا، يجب أن لا يغيبَ عن الأذهان أن هذه المصطلحات هي الأساس الذي يرتكز عليه الباحثون للخوض في غمار التفكير و التعبير العلميين. و كما هو الشأن بالنسبة للنوع الأول من المصطلحات، فإن الباحثين اعتمدوا عدة طرق لصياغتها. من بين هذه الطرق، نذكر على سبيل المثال :
1.ربط التسمية بشكل و حجم و لون المسميات و الأمثلة هنا كثيرة نكتفي بذكر البعض منها. لو أخدنا مثلا مصطلح ،(Globule) فسنجد أن واضعَه اعتمد في صياغته على الشكل و على الحجم حيث تم تركيب هذا المصطلح من لفظتين هما (Glob) الذي يشير إلى الشكل الكروي و (Ul) الذي يشير إلى الحجم الصغير. و هذه الصفات تنطبق على خلايا الدم وبعض الخلايا التناسلية. أما واضعُ مصطلح (Chlorophylle)، فقد اعتمد على اللون حيث تم تركيبه من لفظتين الأولى (Chlor) بمعنى أخضر و الثانية (Phyll) بمعنى ورقة. و المقصود هنا هي المـادة الكيميائية ذات اللـون الأخضر الموجـودة في أوراق النباتات الخضراء. و مــــا قِـيــــل عـــن ،(Chlorophylle)، يُقال عن (Chloroplaste) أي بالمعني الحرفي الجسيم الأخضر و بالمعنى العـلمي الجـسيم الـذي يحمـل مـادة اليخـضـــور. و في نفـــس السيـــاق، يمـكن إدراج مصطلــــح (Xanthophylle) الذي تشير فيه لفظة (Xanth) إلى اللون الأصفر علما أن هذا المصطلح يُطلق على المادة الصفراء أو اليصفور الذي يوجد كذلك في أوراق النباتات الخضراء. و استنادا كذلك إلى اللون، يمكن ذكر مصطلحات (Cyanophycées, Phéophcyées, Rhodophycées) التي تشير فيها لفظة (Phyc) إلى طُحلب بينما يشير (Cyan) إلى اللون الأزرق و (Pheo) إلى اللون البني و (Rhod) إلى اللون الأحمر أو الوردي.
و رجوعا إلى الشكل، يمكن كذلك الاستـدلال بمصطلحات.(Annélides, Nématodes, Echinodermes) فـالبنسبـــة لمصطلــــح (Annélides)، فهو مؤلف من (Anell) بمعنى حلقة صغيرة و (Id) بمعنى "على شكل"، أي الديدان الحلقية أو الحلقيات. أما (Nématodes) فهو مركَّب من لفظتين، الأولى (Nemat) بمعنى سلك أو خيط و الثانية (Odes) مشتقة من (Odeus) أو (Odeum) اللتان تشيران إلى عبارة "له مظهر". و تم إطلاق اسم (Nématodes) على نوع من الديدان لها مظهر خيطي أو سلكي أي الخيطيات أو السلكيات. أما ،(Echinodermes) فهو المصطلح الذي يُطلق على الحيوانات البحرية المسماة بشوكيات الجلد. و هذا المصطلح مركب من لفظتين، الأولى (Echin) وتعنى شوكة و الثانية (Dermat) بمعنى الجلد، أي الكائنات ذات الجلد الشوكي.
2.ربط التسمية بحالة أو فعل أو حركة كما هو الشأن بالنسبة لمصطلح (Phagocyte, Carnivore, Plancton). فبالنسبة لمصطلح ، (Phagocyte) فهو مركب من (Phag) بمعنى أكـل و (Cyt) بمعنى خلية أي مـا معناه حـرفيا الخلية التي تأكـل التي تسمــى الهضامــة. أمـــا ( plancton ) فهو مشتق من (Planct) بمعنى تائه و هو الاسم الذي يطلق على الكائنات الحيـة البحـرية المجـهـرية الكثيـرة العـدد التي تسبح في المـاء، أي العلـق البحـري.
أمــا ،Carnivore) يتركب من (Carni) و هي مشتقة مــن (Carnat) بمعنـى لحـــم و مــــن (Vore) المشتقة من (Vora) التي تعني "الذي يتغذى على"، أي آكِل اللحم.
3.ربط التسمية بالمسكن أو بمكان العيش. و يمكن هنا إدراج مصطلحات (Arboricole, Arénicole, Limicole ) التي تنتهي كلها بلفظة (Cole) المشتقة من (Col) أو (Cola) التي تعنى سكن. أما (Aréni)، فهي مشتقة من (Aren) بمعنى رمل. و يُطلق المصطلح على الكائنات الحية التي تسكن أو تعيش في الرمل. أما لفظة (Limi)، فهي مشتقة من (Limn) بمعنى ماء راكد أو مستنقع و المصطلح يُطلق على الكائنات الحية التي تعيش في المستنقعات. أما (Arbori)، فهي مشتقة من ( Arbo) بمعنى شجرة و المصطلحُ يُطلق على الكائنات الحية التي تعيش في الاشجار.
4.ربط التسمية بالعدد، بالكثرة أو بالكثافة. في هذا الصدد، يمكن إدراجُ مصطلحات كثيـرة تبتــدىء إمــا بـلفظــة ( Pluri ) أو ( Poly ). مـن بــين هــذه المصطلحــات، يمكـن ذكــــر (Polychète) حيث (Chet) تعني شعر أي بالمعنى الحرفي كثير الشعر. والمصطلح يُطلق على ديدان حلقية تمتاز بشعر كثيف على جانبيها. كما يمكن إدراج (Pluricellulaire) أي متعدد الخلايا.
5.ربط التسمية بالموقع أو التموضع باستعمال (Epi) بمعنى فوق و (Apo) بمعنى بعيدا عن و (Hypo) معنى تحت. و يمكن هنا إدراج مصطلحات (Epicarde) و هو غشاء خارجي للقلب (Hypoderme) و هي الطبقة السفلى للجلد و (Aponévrose) و هو غشاء يحيط بالعضلات.
6.ربط التسمية باسم الباحث و في هذه الحالة، يمكن أن يُشتق المصطلحُ من هذا الاسم أو أن يُستعمل هذا الأخير كما هو أو أن تُضاف له كلمة أخرى. و يمكن في هذا الاتجاه، إدراج مصطلح (Nicotine) و هي المادة السامة التي يحتوي عليها التبغ. وسُمِّيت هذه المادة نيكوتين نسبةً إلى (Jean Nicot) سفير فرنسا بلشبونة خلال القرن السادس عشر الذي اشتهر كـأول مهـرِّب لمـــا كــــان يسمى (Herbe à Nicot) أي التبـــــغ. يمكـــن كــــــذلك إدراج مصطلحــــات (Einsténium, mendélévium) و هما اسمان يُطلقان على عنصرين كيميائيين تمت صياغتهما انطلاقا من اسمي الباحثين (Einstein) و (Mendéléïev) و بإضافة لفظة (Ium) التي تعنى "متعلق بــ". غير أنه في بعض الحالات، يتم الاحتفاظُ باسم الباحث بدون تغيير لتصبح له دلالة ما كما هو الشأن في مجال الفيزياء بالنسبة للأسماء (Ampère, Joule, Watt, Coulomb, Newton) التي تُطلق على الوحدات التي تُقاس بها الكهرباء أو القوة. و يمكن كذلك أن تُصاغَ المصطلحاتُ انطلاقا من أسماء الباحثين كما هي بعد أن تضاف لها كلمات أخرى. و يمكن هنا أن نستشهد بمصطلحات (Cellule de Sertoli, Follicule de De Graaf, Ilots de Langherans).
و كيفما كان الحال، سواء تعلق الأمر بالمصطلحات كصور فكرية أو كألفاظ تقنية، فإن صياغتَها لم تأت من عدم بل تعتمد على عدة طرق تتطلَّب أولا من الباحث أن تكون له فكرةٌ واضحةٌ عن الشيء المراد تسميتُه و ثانيا أن يكون ذا معرفة بالرصيد الذي توفره له اللغة للتعبير عن هذا الشيء.
انطلاقا من هذه الاعتبارات، استطاع الباحثون عبر العصور أن يعبِّروا عن نتائج أبحاثهم عن طريق صياغة العديد من النصوص العلمية التي أصبحت في الوقت الراهن تنمو بسرعـة مذهلة.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى