محمد السلاموني - حول [إعادة كتابة التاريخ الثقافى]

أعمل منذ سنوات على فكرة تتمحور حول "علاقة العلامة اللغوية بالمرجع" كعلاقة تاريخية متحوِّلة، محاولا تتَبُّع الدور الذى لعبته فى نشأة وتطور الآداب والفنون.
فعلى الرغم من أن مفكرين ومنظرين ونقاد لا حصر لهم عملوا على تلك العلاقة من قبل، إلا ان أحدا منهم لم يتخذ منها إستراتيجية عامة فى مقاربة "القانون الكلى الحاكم للأدب والفن"- لا سيما الأنواع "اللغوية"، متتبعا المراحل التاريخية التى مرت بها. وكل ما أمكن لى حصره لا يزيد عن إشارت عامة، عابرة ، تخص نوعا أدبيا أو فنيا ما، فى مقال هنا وآخر هناك، أو فصل فى كتاب... وهكذا.
"أرنست كاسيرر" فى كتابه [اللغة والأسطورة] أشار إلى إن الإنسان البدائى كان يطابق بين العلامة اللغوية والشئ، أى بين الإسم والمسمَّى، فإسم شئ ما كان يُعدّ هو الشئ نفسه، وهو ما يعنى أن "نظام اللغة هو نفسه نظام الأشياء". ويذهب كاسيرر أيضا إلى إن الإنفصال الأول الذى أصاب تلك العلاقة التطابقية هو الذى أدى إلى ظهور مشكلة العلامة اللغوية فى علاقتها بالشئ، ويضيف [وهذا هو ما أدى إلى ظهور الفلسفة والدراما]هذا ويذهب "بوتيتا" أيضا إلى ان عدم التطابق هذا هو الذى سمح بوجود [الكذب والسرود الخيالية].
هكذا، فالمسافة الفاصلة بين اللغة والمرجع الذى تسمِّيه، كانت هى الثقب الذى انهمرت منه الإشكاليات؛ التى تحولت بدورها إلى أسئلة والأسئلة التى تحولت بدورها أيضا إلى مقاربات معرفية.
ثم جاء "جان بيير فرنان" فى كتابة [الأسطورة والتراجيديا]، ليقول بأن [ازدواج دلالة العلامة اللغوية هو الصانع للمأسوى فى الدراما اليونانية]- مما يعنى ان عدم التطابق بين "الدال والمدلول"- الذى يعنى "العلامة اللغوية ككل"- كان هو الصانع للتراجيديا.
وما أعرفه عن "الدراما"، هو أن ازدواج دلالة الكلمة فى المسرح، هو نفسه ما تتأسس عليه "المفارفة الدرامية"...
من هنا وجدتنى وجها لوجه أمام سؤال [المفارقة اللفظية] ؟، وبدأ بحثى ...
يفرِّق البلاغيون بين [المفارقة اللفظية والمفارقة الدرامية]، استنادا إلى إن المفارقة اللفظية لغوية خالصة، بينما المفارقة الدرامية ترتبط بالمواقف الدرامية.
فى الحقيقة، وبينما أبحث فى هذين النوعين من المفارقات، تبَيَّن لى الآتى:
حقا أننا كثيرا ما نعثر على المفارقات اللفظية فى النصوص غير الدرامية، لكن المفارقة الدرامية تنبنى على سوء تفاهم لغوى فى الأساس، يتجسَّد فى مواقف أو يؤدِّى إلى إحداث مواقف؛ إذ هناك سوء تفاهم حادث بين الشخصية ونفسها أو بين شخصيتين أو أكثر...
لماذا الذهاب إذن إلى أن هناك نوعين من المفارقات؟.
يبدو واضحا أن اصطلاح "المفارقة الدرامية" يعود فقط إلى الطبيعة التجسيدية أو "الموقفية" للدراما، دون أن ينفى هذا الأصل "اللغوى- أو اللفظى" للمفارقة ذاتها.
ومن الغريب أننى حين أعدت قراءة نماذج من النصوص الدرامية العالمية، تمثل المراحل التاريخية العديدة التى قطعتها الدراما الغربية، تَبَيَّن لى إن مشكلة "الإزدواج الدلالى- الصانع للمفارقة الدرامية" ماثل فى جميع أنواع النصوص الدرامية، بل وأكثر من هذا، ففى القرن التاسع عشر، وما قبله بقليل، تحوَّل "الإزدواج الدلالى" للعلامة اللغوية إلى "تعدد دلالى"- بحكم ظهور الأيديولوجيات كمتغَيِّر حاكم، وإن هذا التحول فى المسار الدلالى للعلامة اللغوية هو الذى أدى إلى ظهور "المخرج المسرحى" كضرورة ألحت بها المشكلة المتفاقمة للعلامة- بما هى [مشكلة المعنى]؛ أى [مشكلة تواصل المتفرجين مع العرض المسرحى].
هكذا، وستشهد العلامة اللغوية تحولات تاريخية أخرى فى علاقتها بالمرجع "أو المشار إليه" عندما تنتقل من "التعدد" إلى "الإنتشار الدلالى"؛ وهو ما يعنى تدمير العلامة اللغوية ذاتها.
ما يعنينى هنا هو إن موت العلامة اللغوية هو الذى أدى إلى ظهور مسرح "ما بعد الدراما"- الذى هو مسرح الصورة أو المسرح الحركى أو مسرح التعبير الجسدى...
أعنى أن اللغة لم تعد هى بيت الوجود- كما أشار هيدجر من قبل- هكذا لتخلى مكانها للصورة.
// فيما سبق كله حاولت أن أمُر سريعا على بعض المحطات الرئيسية فى تاريخ التحولات العلامية وعلاقتها بالتحولات الدرامية والمسرحية.
لكننى الآن صرت على يقين بأن مشكلة "العلاقة بين العلامة اللغوية والمرجع"، بتحولاتها العديدة عبر التاريخ، تجاوزت الدراما والمسرح بكثير، لتطال كافة أنواع الآداب الفنون. وها أنا أعمل على "الرواية"،لكن الأمر أكبر مما أظن، ويبدو أنه بحاجة إلى [كتاب أو ربما مجلد]
أعيد فيه كتابة التاريخ الثقافى برمته.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى