خالد جهاد - بومة في ليل الرؤى الضريرة

ما يبنى بالصدق لسن وات قد تهدمه كذبة مهما كانت صغيرة، لذا كان اعتيادنا على استسهال الكلمات وتناقل الحكايات هو ما ساهم في إضعاف مصداقية أي خبر مهما بدى منطقياً للوهلة الأولى فبتنا نشك في ما نسمع ولا نصدق أي شيءٍ ببساطة، لذا بات كل ما يتناقله الناس بسهولةٍ ويسر محل توجس لأن ما ندفع ثمنه في الحياة فعلياً لا يتم تداوله إلا نادراً، وتزدحم الذاكرة بالأحداث والمواقف التي قد لا يتقبلها الناس لكنهم لا يستطيعون انكارها لأنهم يعرفون حقيقتها في قرارة أنفسهم رغم صمتهم وتعاميهم عنها..

ولذلك ظلت الأسئلة محفورةً بعمقٍ في داخلي لتطوف كقارب ٍصغير في عرض البحر مكانه دماغي، وكان رفضي التزام الصمت وسعيي للبحث عن إجابةٍ تختلف عن الجاهزة منها هو ما عرى جسد الحياة الخاوي في عيني كالمجسمات في واجهات المتاجر والتي ترتدي ما يراد لها أن ترتديه بينما هي مجرد أداة للعرض، لذلك قررت منذ سنوات طويلة الإبتعاد (قدر الإمكان) لتنافر الطباع واختلاف طريقة التفكير بيني وبين أبناء مجتمعاتنا وتقبلي برحابة صدر فكرة أنني (غريب الأطوار) بالنسبة إليها، مع أن الكثيرين يؤيدون ما أفكر به سراً ويخاف أن يعلن ذلك فيما يحسدني على جرأة اختياري لطريقي، لكنه لا يريد دفع ثمن موقفه ليظل (مقبولاً) من (الآخرين) حتى وإن عاش في صراع ٍمستمر بين ما يظهره وما يخفيه دون أن يفهم معنى أن تكون محترماً لذاتك ومتسقاً معها لتكون على الأقل جديراً بإنسانيتك، حيث تحاول اتخاذ الموقف الذي ينبغي اتخاذه وليس ذلك الذي يراد أن تتخذه مراعاةً لمصالح واستفادات وشكليات لا تنتهي وإن كانت على حساب الغير.. ودفعتني إلى أن أسأل نفسي.. هل أفعل ما أؤمن به ؟ هل أشعر بالراحة والرضا ؟ هل الكثير ممن حولي ينبغي لهم الإستمرار في حياتي؟ ماهذا؟ ومن هؤلاء؟

فشعرت بأن الحياة أقصر من اضاعتها في (كذبة) مهما كان اسمها وأن الحقائق لن تأتي من تلقاء نفسها بل نحن من يجب أن يبحث عنها، وضاقت مساحة ال(نعم) واتسعت مساحة الأسئلة بشكلٍ مضاعف رغم أنها مساحةٌ كبيرة في الأساس، أخرجت الكثيرين بهدوء من مجال الرؤية الخاص بي كبومٍ بشري يحاول أن يرى ماهو أبعد، مما جعلهم يلصقون بي الصفات المنسوبة إليه كمرادفٍ للشؤم و(الجدية وانعدام المرونة) كما يقولون، ولم أعد أراهم.. لأننا لم تجمعنا أي (رؤىً) ذات يوم وتقاسمت الحب والضحكة كالرغيف مع مستحقيها، وأحببت البوم وقرأت عنه وأسعدني التشابه بيننا وأضحكتني رؤيتي لدمىً بنفس ملامحه بين ألعاب الأطفال، وهنا قررت ألا أكتفي بالتجاهل والصمت والإمتعاض داخلياً فالتصقت بمرآة الكتابة وتحولت من مجرد فن إلى علاجٍ وملاذ وفعل إرادة وتحرر، مع الإدراك بأن مسؤوليات الحرية الحقيقية أعمق وأشد من تلك الزائفة أو من الإنخراط في (ثقافة القطيع) التي نعيشها دون مسؤوليةٍ تترتب على شخص ٍ بعينه وسط حالةٍ من (التغافل الجماعي) والتي قادتنا إلى حالة تشبه (الهيستيريا الجماعية)، الشبيهة بالرقص الصاخب في سرادق عزاء يملأه البكاء والنحيب يقودنا إلى مشهدٍ عبثي ملتبس ليس وليد الصدفة، يجعلك تدرك أن المهرجين هم أقل من يضحك، والممثلون هم أقل من يمثل حيث أصبح التمثيل مهنة أغلب البشر حتى ضاق الممثلون ذرعاً وأصبح لكل شيءٍ مايبرره..

فرفض الإنخراط في جوقة النفاق يجعلك مداناً، والحفاظ على الكرامة والمبادئ ورفض التملق لأحد أو المشاركة فيما يخدش مصداقيتك وصورتك يجعلك مداناً، والإيمان بعبثية الكثير من المسميات والمعايير وفراغها أمام الإجتهاد والإبداع والصدق يجعلك مداناً، وانحيازك إلى الأكفأ دون مجاملةٍ لأي فئة وتصفيقك للمتميز (الذي لا تعرفه بشكل شخصي) يجعلك مداناً، وأن حبك لوطنك ومناقشة سلبياته ليصبح الأفضل دون ادعاء أو شعارات يجعلك مداناً..

وأنك قد تكون أكثر قبولاً اذا تنازلت عما يميزك، أو ادعيت ما ليس فيك أو غيرت جلدك، أو انحزت لفريق أو جنسية أو انخرطت في حزب أو جماعة، أو سايرت المظاهر وتلونت حسب الفئة التي تخالطها، أو جاملت على حساب قناعاتك، أو كنت أنانياً فارتضيت للآخرين مالا ترضاه لنفسك وأحبائك طالما تحقق مصلحتك..

لذا يظل البحث عن الحقيقة في مجتمع ٍيرفضها أو يقوم بالتعتيم عليها والتعامل معها بإنتقائية هو الأشد صعوبة، ويشبه المشي ليلاً في حقل ألغامٍ تحتاج فيه إلى بصيرة البومة قبل بصرها، لتطير بسلامٍ بعيداً عن أصحاب (الرؤى) الضريرة..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى