د. السيد إبراهيم أحمد - الانزياح والوعي في قصائد علاء الدين علي..

تتملكك الحيرة حين تقرأ دواوين لشاعر واحد ثم تراها حتى في تفاوتها التاريخي من حيث الإصدار تشير بكل جدارة إلى براعة السرد الشعري، وامتلاك زمام النص الذي يصهل برشاقة معلنا عن جديد يختلف به عن النص الذي سبقه أو تلاه على الرغم من أن البوح لشاعر واحد، لكنه استطاع أن يمتلك أسلوبا خاصا به، كأنما نحت مفردات من لغة صنعها بيديه، تنتظم نسقا خاصا وتتناغم مع النسق العام في بناء قصيدته التي أفرغ فيها طاقته على قدر موضوعها ومضمونها، كأنها لوحة اختصها بتشكيلها، وخطوطها، وألوانها، وإيحاءاتها الظاهرة والباطنة.

هذا ما نجح فيه الشاعر علاء الدين علي الذي خلق لنفسه نسقا متفرداً بخصوصية تجعله متميزا عن غيره، سابحا نحو موانيء الابتكار والتجديد، مجتازًا مفازات دروب الشعرية المألوفة، رافضا منذ البدايات أن ينتهج سبيل من حوله، فصارع موهبته، وموضوعاته، ومفرداته، ودخل ميدانه بعد أن تشبع بالتجارب السابقة والمحيطة، وعكف على تجربته زمنا، يراجع أدواته، ويحدد لنفسه موقفا إنسانيا من قضايا الوجود والإنسان على اتساعها، حتى استطاع أن يطالعنا بمنطقه الخاص عبر دواوينه الثلاثة: "لحظة ميلاد الموت"، و"اتنفسيني لما أضيع"، و"نبات فطري".

للدلالة على ما قلته آنفا، عن تشبع الشاعر بما ومن حوله في محيطه الإبداعي، ما قاله عبر إهدائه الذي تصدر ديوانه "لحظة ميلاد الموت": (إلى كل من يقرأ لي حرفًا اختلط بدمي، وإلى كل من قرأتُ له واستنفر شعري، وإلى كل من تسبب في نصٍ بهذا الديوان)، وإهدائه الذي جاء في مقدمة ديوانه "نبات فطري": (إلى كل كتاب قرأتَهُ فأثَّرَ فيِّ، وإلى كاتبه، وإلى كل قارئ يستشعر نصًا، إلى كل شاعر يرهق ذاته ليكتب حرفًا، إلى كل ناقد يغوص ليخرج بجديد، إلى كل عاشق حكى ودونته هنا)..

يلفت انتباه القارئ لنصوص الشاعر علاء الدين علي العتبات النصية التي وضعها على رأس كل ديوان وكل قصيدة، وهي عناوين دالة لم يأتِ بها الشاعر إلا عن وعي، وإدراك، للغتها، وأبعادها، ودلالتها، وعلاقتها بالقصيدة التي تبرز دقته، وإبرازه لمنحاهِ الفكري، وواقعه الإنساني، أو كما تقول الدكتورة نادية هناوي سعدون عن سيميائية العنوان في السرد الروائي الثيمة والبنية: "غدا الوقوف علي نوعية التعالق بين العناوين بوصفها مدخلا وعتبة، وبين النص بوصفه متنًا وأصلاً، مسلكًا يمنح القارئ القدرة على فك شفرات البناء الداخلي التشكيلي والدلالي للنص الأدبي المقروء".

وحين أتناول الوعي في قصائد علاء الدين علي تنثال على الذهن أسئلة ومفاهيم ومضامين كثيرة تدور حول "الوعي" وعلاقته بتيار الوعي، أو الوعي وعلاقته باللغة، أو بالشعر أو بالذات أو بالنص، والوعي النصي أُريدَ به وعي الناقد بالنص الذي يقترب منه، وقد ينسحب على القارئ ووعيه بالنص الذي قد يجره إلى مسارات ومتاهات بعيدة عن مضمونه، ووعي الشاعر بشعره ـ عند البعض ـ في إخلاصه له، فالوعي بالذات من قبل الشاعر ـ هو في صميمه رؤية مصغرة لمحيط وجوده الخارجى؛ إنه مركز هذا المحيط الكبير، وإحدى لبناته، التى تعمل على تشكيل رؤيته، وإعادة قراءته من وجهة نظر خاصة، كما يقول لطفي فكري محمد في دراسته "الوعي بالذات وأثره في تشکيل النص الشعري ـ تجربة أبي کبير الهُذلي أنموذجًا".

غير أن الوعي ـ الذي أقصده ـ عند علاء الدين يكمن في فهمه لأهمية انتظام الكلمات في تراكيب، حتى تعطى معناها ودلالتها تلك الأهمية التي أدركها الإمام عبد القاهر الجرجاني، في قوله: “معلوم أنَّ ليس النظم سوى تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب بعض"، وقوله: “الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولامن حيث هي كلم مفردة، وأنَّ الفضيلة وخلافها، في ملائمة معنى اللفظة التي تليها" أي أن "اللفظ تبع للمعنى في النظم"، و"الكلم تترتب في النطق بسبب ترتب معانيها في النفس"، وهو ما يحيلنا إلى الانزياح في بعض قصائد الشاعر علاء الدين علي.

والانزياح في دلالته اللغوية يعني خروج عن المألوف، وتجاوز لكل ما هو شائع وعادي، لذا فهو يمثل إضافة جمالية تخالف العبارات المنمطة قفزا لأسلوب جديد على أذن وعين المتلقي وعقله وخياله، عن طريق استثمار أقصى الممكن من اللغة ووظائفها الكامنة، وعلى الرغم من أن الانزياح يندرج تحت الأسلوبية، إلا أن العرب تطرقوا إليه وإن لم يكن بنفس المسمى، ولعل الإمام عبدالقاهر الجُرجاني كان من أبرز الذين تطرقوا إليه وأسماه بالعُدُول، وعند ابن جني "الانحراف"، وفي الغرب تبناه "جاكبسون" بمسمى "خيبة الانتظار"، و"التغريب" عند الشكلانيون الروس.

ويبدأ الانزياح عند علاء الدين علي في استدعاء المفردات الفصيحة التي تأتيه طيعة تتهادى حتى تجاور المفردات العامية في قصائده دون إقحام أو ادعاء، بل تشكل الجارتان تنافرا دلاليا يخلق انزياحا لغويا قشيبا جديدا، غير متجاوز لقواعد العربية أو أدبياتها أو ذوقها البلاغي أو قواعدها، فالشاعر يعلم أن الانزياح ليس غاية في ذاته وإنما هو وسيلة تندرج تحت الصورة الشعرية التي تخلق من الانزياح الدلالي أو التركيبي ما يثير التساؤل في ذهن القارئ، ويلفت انتباهه نحو لغة غريبة تصدمه بميلها عن المألوف المرصوف في ذهنيته التي اعتادت أن تستقبل التراكيب الباهتة، والكلاسيكية، وهو ما نجده في بعض قصائد علاء الدين بل وفي أغلب عناوينه، ومنها:

"لحظة ميلاد الموت"، "محروم بيجود"، "دراويش وعايشين الحياة"، "اتنفسيني لما أضيع"، "وأد القلوب"، "تروس مهجتي"، "حاضنة البخار"، "مسموم فرح"، "نبش القلوب"، "بريق الصدا").

لا يمل الشاعر علاء الدين علي من ركوب صهوات جياد التجديد للبحث عن عوالم جديدة يثري بها قصيدة العامية، بل يعمل على أن تتأنق بالألفاظ القادرة على اقتحام بعض العلوم واستيرادها وإيرادها في ثنايا القصيدة بلا وجل، وهو من طول ارتياده لتلك المحاولات صارت من عاداته، ولم تفلت منه عصا التوازن بين الجدة والوعي والسقوط من فوق حبل الشعرية الذي يمارسه بيقظة ووعي ومعنى، وموسيقى عذبة لا تسرق عقل القارئ إلا والقلب معه، فيستولي على مشاعره دون أن يفلته، لأن كل هذه المغامرة تُقدَّم في وجبة لا ينقصها أية تابل من توابل القصيدة التي تفسد مذاقها، وهو ما نراه عبر كثير من القصائد التي سأورد مقاطع منها لكثرتها، وحسبي أني أقف على درب الإرشاد لا باب التفسير للقصيدة، ومنها:

ريختر وفولت وأوم

بقوا نبض جوايا

لو هبتدي من عين

فيها الهوى حكاية ... قصيدة "الكارثة لو حبيت" من ديوان: "نبات فطري"..

ولو اكتفيت بقصيدة "دكتوراه" من ديوان "اتنفسيني لما أضيع" لكفتني وحدها في الدلالة على مهارة سبك اللفظة العلمية وانزياحها الواعي داخل مفردات القصيدة بلا إقحام وبكل ارتياح، يتلقاها القارئ بسعادة ودهشة وسباحة جديدة يشارك فيها قائلها بكل اطمئنان:

اكتبيني في الروشتة للوقاية والعلاج

قلب أخضر "كبسولات"

غلفيها بفيض حنانك

للمريض اللي اشتكى نقص المودَّة

عين وفيها الدمع لامع

مش بُكا محض اشتياق

لما عيني تناجي عينك

وقت صمت لقاها يبقى

حبها أحلى الكلام

واعمليها "قطرة" منها

صعب نظرة عين تخيب

يدمنوها العاشقين

أما دمي اللي ف وريدي

ليكي وحدك كورس علمي

تاخدي منه الدكتوراه

وهو يعني ويدري ما الكورس العلمي والدكتوراه التي يقصدها انزياحا في القصيدة لا من حيث وروده لفظا على الإجمال، ولكن يبدو الانزياح في التفاصيل، حين يقول:

كل ساعة تاخدي حقنة

والتخرج لما دمك يبقى دمي

واسكن الوجدان في قلبك

وان ف يوم هتحاضري عني

قولي عنك خلتيني

علم نافع للبرية

نبع عينه سلسبيل

نهر حبه ليا جاري فرع واحد

متعة القلب اللي عاش لي

التقاها ف قربه ليا..

أما في "التشريح" يا عمري

دربيهم ع القصيدة

أصل أنا في الكلمة عايش

محتواها..

سيتبين للقارئ أن الدكتوراه كانت في الشاعر الذي تجسَّد القصيدة التي ستمثل أمام طلاب العلم ساجية، متحركة في آن، ينبض فيها الموت حياة، الموت الملازم للجسد، والحياة الملازمة للشاعر الذي يتجسد قصيدته، ومنحها الشاعر الدكتوراه التي صاغ حيثياتها من عشقها له، ونجاحها في دراسته للواعج هواه..

كما سيتبين ذلك الانزياح التركيبي عبر المفردات الشعرية التي تشكل عدولا عن اللغة المعيارية والمألوفة التي أضفت نوعا من الدلالات الجديدة للنص عبر القراءات المتعددة له والتي تشهد للشاعر بالتميز في البناء الشعري الخلاق الذي استولى على المتلقي، ونجح في جذب انتباهه وهو ما يدل على إصراره اللغوي الجديد في بلورة رؤيته التجديدية في إطار اللغة من حيث الإتيان باستخدامات لغوية جديدة تكسو مفرداته المتناغمة مع العنوان، وواقعية استخدامها، وإضفاء البعد الفني الذي يكمن وراء مثل هذه الاستخدامات التي تَعْبر جغرافية المألوف إلى آفاق بعيدة.

وهذا المسلك من الشاعر يتناوله عبر بعض قصائده ومنها قصيدته "يارب خير" من ديوان "لحظة ميلاد الموت"، من حيث استخدامه لمفردات تخص الهندسة الإنشائية ولكنه ينثرها نثرا جديدا على أذن المتلقي، كما في هذا المقطع: (من دم مجلوط بالهموم/ خرسانة من أسمنت غم/متسقسقة دمع الألم/ متحوطة برخام جرانيت الشقا)..

إن الفكر ليس هو العامل الأولىَ في الشعر حينما ننظر إلى تجربة الشاعر نفسه لا إلى تجربة القارئ.. لِمَ يستخدم الشاعر هذه الألفاظ بالذات دون غيرها؟ إنه لا يستخدمها لأنها تمثل سلسلة من أفكار يهتم بتوصيلها هي في ذاتها، فليس ما تقوله لنا القصيدة هو الذي يهمنا في الواقع، وإنما الذي يهمنا هو "ماهية" القصيدة ذاتها.. فالشاعر لا يكتب باعتباره عالِمًا، وإنما هو يستخدم هذه الألفاظ لأن النزعات التي يثيرها الوضع الذي يوجد فيه الشاعر تتآلف على إيجاد هذه الصورة دون غيرها في وعيه كوسيلة لتنظيم التجربة التي يعبر عنها بأسرها وللسيطرة عليها، أي أمواج الدوافع التي يعبر عنها بأسرها وللسيطرة عليها؛ فالتجربة ذاتها، أي أمواج الدوافع التي تندفع خلال العقل، هي التي تأتي بهذه الألفاظ وتعتمدها. وكأن الناقد "أ.أ. ريتشاردز في كتابه "العلم والشعر" قد قرأ قصائد علاء الدين علي وتكفل هو بمهمة ما كنت أنوي قوله في التأكيد على هذا النهج الذي يرى فيه الشاعر تأكيدًا لموهبته، ومدى امتلاكه لزمام أدواته، واحترافه ركوب الصعبمن أجل قنص اللفظة الجديدة والمعنى العميق.

قبل أن يتعرض أي ناقد أو باحث لأي عمل فني أدبي لابد أن يقف عند درجة الخيال التي تتحكم في هذا العمل باغتبار أن الخيال هو المرآة الوحيدة التي يظهر على سمتها جمال العمل أو دمامته .. فمن حيث يكون الخيال يكون جمال العمل واكتماله الفني ويكون عندها وضوح الموقف الفكري لصاحب العمل والدرجة الحقيقية للحكم على خصوبته الفنية وثقافته التي استقاها على مر سنوات عمره الفكري، وكذا يصبح العمل تفريغا منتظما للذبذبات الداخلية أو الحديث النفسي في أعماق المبدع، هذا ما يقوله أحمد مرتضى عبده في كتابه "قراءات في الشعر المعاصر"، وهو عين ما أفعله، وما يصنعه الشاعر علاء الدين علي من خيال تزدان به قصائده وتتخللها، ليس من أجل استعراض ثقافته أو فكره وإنما لسعة في خياله الذي يستطيع ترويضه، ونفث روح الخلود في أبياته التي تلبي سعادة غامرة في نفسه حين يقود القصيدة.

لا تتوقف فقط قصائد علاء الدين علي على الانزياح في اللغة والدلالة والتركيب، بل في قنص مواقف إنسانية ينجح في صياغتها دراميا، وإنسانيا ويُصِب بها كبد الحقيقة، وهي وحدها كفيلة من خلال التراكيب التعبيرية، والصور الشعرية النابضة، والمنحوتة من جبال ووديان الحياة ومن هضاب حكمتها، وسفوح خبرتها، تجد في صدر المتلقي ووعيه صدًا لانعكاس صادق في أوتار الشطرات التي عزف عليها الشاعر بصدق، وانفعال، واحتراق الحشا، ويتنقل بكل إنسانيته التلقائية عبر مناطق يستخدم فيها تعبيرا صبيانيا ينم عن المصالحة في البيئة المصرية بل والعربية دليلا على السلام، فيكون عنوان قصيدته "صالوحة" تلك التي تبدو فيها نفس الشاعر المرحة عبر الانطلاق العفوي التلقائي، غير أنه لا ينسى عادته في دس التعابير التي يرى فيها الجدة وإن بدت منها الصدمة على وجه ووعي القارئ فور سماعها أو قراءتها: (مواسير دموعك فجَّرِتْ يومها السيول)، كما لا ينسى أن يختتم قصيدته ـ كعادته في بعض قصائده أو أغلبها ـ بأبياتٍ تأتي بإيجاز ما سرده شعرا .. أو يصلح ليكون قصيدة جديدة صغيرة نبتت على تخوم قصيدته الأم أو أن تكون حكمة أو تذهبُ مثلا،: (دا الصمت لو شر العتاب/ البُعد موت الغلطانيين).

حسبي أني استخلصتُ من قصائد الدواوين ما أردت أن أشير على براعة وصدق وجدية وجديد شاعر يُخلِص لدولة الشعر بوقته وجهده وحبات عقله وقلبه من أجل استخلاص لفظا فريدا أو معنىٍ جديدا، أو قصبا لسبق يفوز به فيجعله بمحاذاة السابقين، ولم أقل في القصائد كل ما يجب القول، ولكن لكل ناقد رؤيته، وقصائد الشاعر علاء الدين علي صالحة ومرحبة بكل نقد جديد من زاوية أخرى، وهو ما عانيته في اختيار زاوية ما لقابليتها ومطاوعتها، وحسبي أيضا أن أشرتُ إلى شاعر يستحق أن يلمس قلم النقد هامات قصائده تحيةً لإبداعه، ومطالبته بالجديد والجديد منه؛ فنفسه الشعري طويل، ويسمح له دوما بالركض في مضمار ديوان العرب الذي لا يعرف الأفول ولا الذبول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى