إبراهيم العميم - أنا والقِطُّ الأسَودُ

أنا والقطُّ وحيدانِ هاهنا
نبذَهُ سوادُه ونبذتُ نفسي
يطالعني وهوَ خائفٌ متوحِّشٌ
لم يروّضهُ بعضُ اللحمِ
تسَاكنَّا منذ سنةٍ ولا أدري
أذكرًا كانَ أمْ أنثى؟
له السُّورُ والفناءُ والسَّطحُ
ولي غرفةٌ وصالةٌ ومطبخٌ
كأني بهِ يقولُ: يا بنَ الروميِّ،
ماذا فعلتَ بأبي العلاء؟
حبيسٌ وما بي عمىً ولا علةٌ
ولكنَّ النفسَ تهوى وبكَ تهوي
تغيَّرتْ سننُ الناسِ،
فبدَّلوا معاشَ النهارِ لباسًا، ولباسَ الليلِ معاشًا،
لم أغيّر سننَ الكونِ، فصرتُ غريبًا رغمَ قربِ الدارِ
في عالم الإنترنتِ وهواتفِهِ
جالَ الناسُ في ذكائِهِ غباءً،
فصارَ يسوسُهُم منْ كانَ منْ سقطِ المتاعِ،
شبكاتُ هواتفِهَا سلطةٌ صيّرتْ
كلَّ غبيٍّ ذا ذكاءٍ، وكلَّ ذي عقلٍ شقيًّا
كأهلِ المنى هممُهُم إلى العلا
وكلُّ سقوطٍ منْ علٍّ أنكى وأمرُّ،
قطٌّ وإنْ كانتْ مملكتُهُ أسوارَ بيتي
على صغرِ حجمِهِ منْ سلالتِهْ تنحدرُ
ملوكٌ غاباتٌ وسهولٌ تخشاهمُ الطبيعةُ وهم أُسودُ،
صيادونَ يسابقونَ الرِّيحَ رشاقةً وخفةً وهم فُهودُ،
تَسمَّى بهم ملوكُ دولٍ فخرًا واعتزازًا
ذاكَ الأسدُ والفهدُ، وهذا العباسُ والهيثمُ
عادتْ (باستيت)¹ فلا تسمعُ إلا مواءَهَا،
قلَّ الصيدُ ولم يعدْ في البرميلِ لحمٌ.
يفزعُ الزائرُ عندَ رؤيتِهَا ويصرخُ
أُمّاه ، أرى الجنَّ في عينيهَا يتراقصونَ
اطردها؛ كي لا يهجرَ الملائكةُ منزلَكَ،
ويسكنُ في زواياهُ جيشُ (الجنانيّةِ).²
أنا الضيفُ لا هيَ أو هوَ
الحكمُ لمنْ يملكُ السورَ وأبوابَهُ
لا لمنْ دولتُهُ غرفةٌ ومطبخٌ
الجنُ صَحْبُ الدارَ، مَرْحىً بهم
هم الأهلُ وقتَ الضيقِ والمسغبةِ
لهمْ بينَ جنباتِ الكتابِ سورةٌ،
في القرآنِ هم الأوّلونَ وبعدَهمُ يأتي الناسُ،
في الذارياتِ هم الأوّلونَ عبادةً، وجاءَ بعدَهُم الإنسُ
لهم السبقُ إلى السماءِ تجسُّسًا
هذا زمنٌ نحنُ فيه الجواسيسُ
أُسمِّي مسكني بيتَ عبقر
لعلَّ منْ معاشرتِهم أصيرُ قرينًا
أنادمهم ويسكبونَ لي كأسَ الشعرِ
نشوةً
أصبحُ ثملًا وقد ألبسوني تاجَ الأشعرِ
أطوي عبابَ الدولِ بدونِ طائرةٍ
ولا تأشيرةٍ،
أو جوازٍ يحمّلني أعباءه.
تقول أُخيتي: قطةٌ سوداءُ! فالُ شؤمٍ يسكنُ في لونِها الشيطانُ،
وهلْ رأيتِهِ في زقاقِ الشؤمِ جالسًا متربعًا على عتبةِ جارتِكِ
يحملُ سيفًا أو مسدسًا
تقولُ - والأختُ قبلَ الكلامِ يشرقُ في محياها ابتسامُ حنوٍ-: كيفَ ذلكَ؟!
الجانُ أرواحٌ لا تُرَى.
الأساطيرُ حتى بالألوانِ تتحكّم، توزِّعُ أوهامَهَا، لونٌ يعلو على لونٍ،
رغمَ اختلافِ الوجوهِ والسحناتِ، وتباعدِ الأماكنِ والأزمانِ، وتصارعِ الطقوسِ والأديانِ، تجمعُهُم وتوحّدُهم مملكةُ الأساطيرِ والخوارقِ.
طرتُ على سعفةِ عُمانِ إلى شوافةِ المغربِ، تقرأُ لي الكتابَ،
وهبطتْ في عواصمَ،
الفاشلُ فيهم أصابتْهُ ضربةُ عينٍ
والناجحُ منهم تجاوزتْ عنهُ العينُ!
على ظهرِ (الفودو)³ يلعقُ السحرةُ جيوبَ المهووسينَ باكتشافِ الغيبِ
قد تقتلُ الرغبةُ أحبابَهم أو يربحونَ والي الجنِّ
الكفُّ وإن كان كتابًا تُقرأُ خطوطُه
لا يفتحُ مخازنَ الحظِّ ولا يسطرُ اللوحَ
النورُ في السوادِ لو ما هو لما عادَ لبصرِك شمسٌ ولا غسقٌ.
فيه نزهةُ الأنفِ بينَ العوالي والعود، وبينَ المسكِ والعنبرِ.
إذا اكتسى السحابُ بلونِهِ أنبتَتِ الأرضُ وردًا وزهرًا وفلًّا.
حاكتْ رمالُه من سلسالِ قطراتِهِ بساطًا أخضرَ فوقَهُ بنفسجُ
سرُّ الحياةِ من غيومها تسقي
بيضَ العيونِ فيشرقُ لهم بصرُ
ما الألوانُ إلا قطراتٌ من إنشائِها
ذاكَ البياضُ ظلُّ أطيافِها.
ما السوادُ إلا كائنٌ ولِدَ منْ
تمازجِ سبعة ألوانٍ،
لونُ امتصاصٍ يدفىء ضلوعَ المتكببِ الخَلِيّ،
من حلماتِ سوداءَ رشفنا الحنانَ، وسالَ ماءُ الحياةِ بينَ العِرق والدمِ.
ما منْ نبيلٍ إلا توشَّحُ بسوادِهِ
القهوةُ السمراءُ منزلُ الكرامِ
امرؤ القيسِ يضفي على السوادِ بعضًا منْ قداسةِ النخلِ:
( وفرعٍ يزينُ المتنَ أسودَ فاحمٍ
أثيثٍ كقنوِ النخلةِ المتعثكلِ)٤
في حالكِ الليالي يُعمل الحكيمُ عقلَهُ،
ترى حكمتَه في الصبحِ منثورةً
على قارعةِ الكتبِ يتلقّفُهَا
الحاذقُ الفَطِنُ
خباءُ العشقِ ومخزنُ الأسرارِ
أرخى سدولها فماجَ منْ كلِّ ذي خالٍ شبقٍ.
ودِّع هريرة إنَّ الأعشى مرتحلُ
فصفاءُ سوادها أنقى من بياضِ الثلجِ
واسمعْ لعاشقٍ واحكمْ بعينِهِ
فالعينُ لا يعبثُ بها وَهْمُ الألوان:
( وقالوا عنكِ سوداءُ حبشيّةٌ
ولولا سوادُ المسكِ ما انباعَ غاليًا
وفي السُمْرِ معنىً لو علمتَ بيانَهُ
لما نظرتَ عيناكَ بيضًا ولا حمرا)٥
يكفي هذا اللونُ سيادةً
في مركزِ الحرمِ تجلَّى إشراقًا
كستْ أسدالُهُ كعبةَ الربِّ
وقبَّلَ هامةَ السوادِ
جُلُّ عبادِهِ.


-------------------------

١ـ آلهة قدماء المصريين، عبدت على هيئة القطة الوديعة.
٢ـ كلمة عامية، جمع جن.
٣ـ ديانة، ونوع من أنواع السحر الأسود.
٤- امرؤ القيس.
٥- أبيات لقيس بن الملوح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى