د. المختار حسني - السرقة الشعرية المفهوم وآليات الاشتغال.. - 2- ابن طَباطَبا

2- ابن طَباطَبا:

وإذا كان ابن سلام قد ركز، في التفاتته هذه، على وضع الحدود الأولى لمصطلح السرقة، وعلى تبرير ما يقوم به الشعراء من أخذ لمعاني سابقيهم، فإن الأمر تطور مع "ابن طباطبا" في دعوته إلى وجوب الاعتراف بفضل الشاعر الذي يتناول المعاني التي سبق إليها من قبل غيره فيبرزها بطريقة أجمل مما كانت عليه( ). ومن أجل تحقيق أي شاعر لهذا الهدف يشترط عليه ابن طباطبا بأن لا يعيد نفس المعنى الذي أخذه وبنفس الطريقة «فالشاعر الحاذق...يتوقى الاختصار على ذكر المعاني التي يغير عليها دون الإبداع فيها، والتلطيف لها؛ لئلا يكون كالشيء المعاد المملول». وسبيل الإبداع والتلطيف عنده يتحقق عبر:
ا- الزيادة في المعنى المأخوذ أو الحذف منه مع مراعاة الوزن الملائم لهذه العملية وبشرط:
«أن تكون الزيادة والنقصان يسيرين غيرَ مُخدجين لما يستعان فيه بهما وتكون الألفاظ المزيدة غير خارجة من جنس ما يقتضيه بل تكون مؤيدة له وزائدة في رونقه وحسنه»( ).
ب- إخفاء أو تلبيس المعاني المستعارة على نقادها والبصراء بها حتى يُظن بأن آخذها هو صاحبها وأبو عذرتها السابقُ المنفرد بشهرتها.
ج- تحويل المعنى المأخوذ؛ بأخذه من حقل دلالي معين ودمجه في حقل آخر مغاير أو مضاد وهو نوع من الإخفاء: «فإذا وجد الشاعر معنى لطيفا في تشبيب أو غزل استعمله في المديح ، وإن وجده في المديح استعمله في الهجاء، وإن وجده في وصف ناقة أو فرس استعمله في وصف بهيمة...فإن عكْس المعاني على اختلاف وجوهها غير متعذر على من أحسن عكسها واستعمالها في الأبواب التي تحتاج إليها»( ). ويدخل في هذا الباب من "التحويل" بالمفهوم الطَّباطَبائي ما يعرف بالعقد والحل ونظم المنثور ونثر المنظوم «فالشعر رسائل معقودة والرسائل شعر محلول»( ) وعلى الشاعر أن يعمد إلى المنثور من الكلام في الخطب والرسائل والأمثال فيعيد صياغته شعرا: «ويكون ذلك كالصائغ الذي يذيب الذهب والفضة المصوغين فيعيد صياغتهما بأحسن مما كانا عليه»( ). ومن ذلك ما قاله أرسطاطاليس حين ندب الإسكندر بعد موته: «طالما كان هذا الشخص واعظا بليغا وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من وعظتِه بسكوته ... أخذه أبو العتاهية فقال راثيا أخاه عليَّ بنَ أبي ثابت الأنصاري:[الوافر]
وَكَانَتْ فِي حَيَاتِكَ لِي عِظَاتٌ فَأَنْتَ الْيَوْمَ أَوْعَظُ مِنْكَ حَيَّا( )
د- أخذ الشاعر لمعنى من معانيه السابقة وهو ما يعرف ب "التناص الذاتي" وإعادة صياغته لمرات عديدة «في شعره على عبارات مختلفة وإذا انقلبت الحالة التي يصف فيها ما يصف قلب ذلك المعنى ولم يخرج عن حد الإصابة»( ).
وكل هذه الصور من التناص وغيرها الغايةُ من ذكرها والتمثيلِ لها من قِبل ابن طباطبا هي توجيه الشاعر إلى سبل الإبداع بالدرجة الأولى، أما وظيفة التناص فلا تكون مكتملة إلا بتدخل المتلقي ووعيه بما يحمله النص اللاحق من نصوص سابقة عليه وإلا فإن جهله سيؤدي به لا إلى الصعوبة في فهم النص فحسب، بل وإلى إمكان إصدار أحكام جائرة عليه؛ فلربما كانت الأبيات من الشعر «تعرض في حالات غامضة، إذا لم تكن المعرفة بها متقدمة عَسُر استنباط معانيها واستُبرِد المسموعُ منها كقول أبي تمام :[البسيط]:
تِسعون أَلفا كآسَاد الشَّرى نَضِجَتْ جُلُودُهُم قَــبْل نُــضْجِ الـــتِّيـنِ وَالعِنَبِ( )
وكان القوم الذين وصفهم يتواعدون الجيش الذي كان بإزائهم بالقتال وأنَّ ميعادَ فنائهم وقتُ نضج التين والعنب، وكانت مدة ذلك قريبة في ذلك الوقت فلما ظفر بهم حكى الطائي قولهم على جهة التقريع والشماتة، ولولا ما ذهب إليه في هذا المعنى لكان ما أورده من أبرد الكلام وأغثه»( ). فالتناص يكون سببا في الغموض وسوء الفهم، ولكنه غموض لابد منه لأن مقصدية الشاعر لا تتحقق بالعمق المتوخى إلا به، فلولا استغلال أبي تمام لأقوال المنجمين في الحادثة السابقة لمـَا حقق التأثير البليغ في نفوس الأعداء بالتقريع والشماتة، ولَـما حقق ما يسميه ابن طباطبا ب"الابتهاج" في نفسية المتلقي. ذلك أن المتلقي في حال معرفته السابقة بالنص الغائب، سيغمره هذا الابتهاج: «فليست تخلو الأشعار من أن يُقْتَصَّ فيها أشياءُ قائمة في النفوس والعقول فتحسن العبارة عنها وإظهارها ما يكمن في الضمائر منها، فيبتهج السامع لِـما يَرِد عليه مما قد عرفه طبعه، وقَبِله فهمه فيثار بذلك ما كان دفينا ويبرز به ما كان مكنونا فينكشف للفهم غطاؤه، فيتمكن من وُجدانه بعد العناء في نُشدانه»( ). ومع ذلك فإن الناقد ينصح الشاعر بأن لا يغرق في الغموض. و«أن يجتنب الإشارات البعيدة والحكايات الغَلِقَةَ والإيماءَ المُشْكِل( ) حفاظا على التواصل وتجنبا لما قد يحيل الشعر إلى مجرد ألغاز وعمليات ذهنية صرف، وعليه، بدلا من ذلك، أن يعمد إلى ما هو مستقر في الخيال العام ومركوز في النفوس، بغرض تحسين القول وتأكيده وإقناع المتلقي به؛ كأن يشير مثلا إلى شخصيات أعلام مشهورة في التاريخ بصفة أو خصلة ما من الخصال( ) ، فالأعلام كما تقول كريستيفا تكثيف لخطاب كامل تقوم مقام السياق الذي أخذت منه( ).
يمكن القول، إذن، إن التناص، باعتباره مفهوما، لدى ابن طباطبا هو إدخال الشاعر لنصوص ما، قد تكون له أو لغيره، من شعر أو نثر، أو خبر أو حكاية أو عَلَمٍ تاريخي في نصه (الجديد) عبر تغييرها (بالزيادة والنقص) وتحويلها (بقلب المعاني) مع مراعاة انسجامها مع السياق الجديد والعمل على إخفائها للكد في طلبها، وذلك كله بغرض التأثير الجمالي وتعميق المعنى وتغيير المواقف. ويبقى أن ننبه إلى أن ابن طباطبا، في كل ما سبق، يتحاشى استخدام مصطلح "السرقة" أو أي مصطلح أخر يشتم منه هذا المفهوم. وهذا بخلاف القاضي الجرجاني الذي عقد فصلا كاملا للسرقات( ) يعتبر بمثابة مدخل لدراسة سرقات المتنبي.



1646558550752.png

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى