محمد السلاموني - [واقعة الحرب الروسِيَّة الأوكرانية] مقاربة فلسفية

كان "بودريار" قد انتهى إلى أن [الواقع الآن هو الذى يُخفى عدم وجود واقع]، وكان يعنى بهذا أن الواقع يخفى موته بنفسه...
الفكرة هنا تتعلق بـ "القناع" بما هو الزيف والكذب؛ القناع حين يصبح هو الوجه نفسه.
هنا نصير إزاء وضعية غريبة، لا يعود معها الوَهم ممكنا، لأن الحقيقة لم تعد ممكنة.
"القناع" كتَظاهُر، كإيهام... :
فى المسرح والأدب والفن عامة، يقوم "الإيهام"- بما هو "الإيهام بالواقع" بوظيفة يستحيل تجاهلها، أو التغاضى عنها، ذلك أنه يوفِّر للمتلقى الشرط اللازم للإمساك بالمعنى.
والفكرة تتلخص فى أن "الإيهام بالواقع"؛ الواقع المشترك بين العمل الأدبى أو الفنى والمتلقى، هو الذى يضعنا معا "على نفس الأرض المرجعية الواحدة"، لذا ما من عمل أدبى أو فنى يستطيع أن يتخلى تماما عن العلامات الحِسِّية الواقعية، على الرغم من أنها الأكثر إعتاما من العلامات الأخرى، ومن ثم الأقل فَنِّـيَّة؛ نظرا لانطوائها على معنى واحد وحيد، نحيل ومغلق .
"الواقع" هنا، هو البَدهى، أو المشترك المجانى، أو المُعطى الأوَّلى المتَّفق عليه... أى الذى لاشك فى وجوده، ولا سبيل للإختلاف بشأنه. فهو النقطة الثابتة، المعلومة، الراسخة، التى نمسك بها بقوة ونتمحور حولها- وبدونها لا شئ ينتظرنا سوى الضياع والتيه فى ضروب المجهول.
يتحدث "بودريار" عن أن هذا "الواقع" تم اغتياله الآن، بفعل ظهور أنواع أخرى من الواقع؛ كـ "الواقع الإفتراضى والواقع المُعَزَّز"، بما هى "مصطنعات أو برمجيات"، الغرض منها- كما يقول- هو حجب "الواقع الحقيقى". فيما يذهب "جيجيك" إلى أن تلك الظاهرة تعنى أننا أمام ظاهرة جديدة هى "الواقع +"، أى ظاهرة "تعدُّد الواقع"...
ويبدو واضحا أن التصَوُّرين معا يذهبان إلى أننا نحيا الآن فى ظل "مشكلة المعنى".
ومن ناحيتى، أميل أكثر إلى "بودريار"، ذلك أن "موت الواقع الحقيقى" الذى نحياه الآن كالبكتريا على السطح الخارجى لجثته، لم يُبق لنا سوى على "أثر الواقع" فقط ؛ الذى هو "الأحاسيس المفرطة"؛ أى المشاعر الجماعية المبالغ فيها؛ التى تتمظهر بوضوح فى التعاطف والسخط والغضب... إلخ، أى ما نبديه فى تعاطينا مع الأحداث المختلفة.
تلك الأحاسيس صارت هى الواقع الجديد المشترك الذى نحياه الآن.
وكما نلاحظ ، فالصيغة "واقع +"، التى أتى بها "جيجيك" تنحدر لديه من مفهوم "الواقعى- عند لاكان؛ بعمقه الهيدجرى المتأصِّل فى فكرة أن- الواقع هو ما نمسك به بوضوح من خلال اللغة"، أى مما نعتقد بأنه "الواقع" أو بما نتواضع ثقافيا على أنه الواقع، دون أن يكون هو الواقع الحقيقى، إذ يستحيل الإمساك بهذا الأخير إلاَّ بوسائط .
أعنى أن "جيجيك" يذهب إلى أن ما يعده بودريار موتا "للواقع الحقيقى"، ليس أكثر من إحدى حالات "الواقعى"، لأن الواقع الحقيقى لا وجود له أصلا.
هى إشكالية بالغة التعقيد فى الحقيقة...
على مرجعية تلك الإشكالية، أريد الذهاب إلى مقاربة [واقعة الحرب الروسية الأوكرانية]:
"أثر الواقع"، الذى هو "الأحاسيس المفرطة" المثارة بداخلنا جميعا الآن، هو ما يتم التعامل معه بوصفه "الواقع الجديد".
هذا الواقع، بمكوِّناته العاطفية، يرتد إلى "الجسد"...
الجسد/ العقل:
يبدو أن تآكل الذات وتحلُّلها- باعتبارها أحد المفاهيم الكبرى التى تأسست عليها الحداثة- وبما استتبعه هذا التآكل من "وضع العقل الحداثى فى موضع سؤال"، هو الذى دفع بـ "ما بعد الحداثة" إلى البحث عن مرتكزات جديدة، لعل أهمها "الجسد"؛ بما هو "جذر الوجود -كما يقول نيتشه". فكرة العودة إلى "جذر الوجود" هذه تعنى الكثير الآن؛ ثم فكرة "الكونية"، كمرتكز آخر "يستبطن الطبيعة"، يتمدَّد فيها الجسد أملا فى بعث جديد .
نعرف أن الإنفتاح على العالم- بعد تحوله إلى " قرية عالمية "- بفعل الملتيميديا الجديدة، بما هى قوام العولمة، كان له بالغ الأثر فى ذلك/ ومنه انبثقت فكرة "أثر الواقع" التى نتحدث عنها هنا..
كان ميرلوبونتى يعد الجسد، جسرا للتواصل بين الأنا والآخر- تجاوزا منه "للأنا" المغلقة التى تحدث عنها سارتر وغيره. وربما كان هذا يحمل فى طياته شيئين:
الأول: "العودة إلى الواقعة المتعَيَّنة- عوضا عن الواقع الكلى الذى هو نتاج الوعى"، هذه الواقعة هى "جذر الواقع، ومن ثم التاريخ- بما هو تتابع وقائع)، تماما كما أن "الجسد" واقعة متَعَيَّنة "تتجذر فيها الأنا"، وبذا نجد أنفسنا أمام التحام [واقعانى] جديد بين "الأنا والواقع والتاريخ"؛ أعنى أن "الواقعة" صارت هى جذر تلك الأقانين الثلاثة.
الثانى: الجسد "من منظور الفلسفة الشخصانية" يرتبط بالشخص، والشخص هو الوجود الأول، الخام، الذى يتحَصَّل عليه كل منا بمجرد الميلاد، قبل أن نثقِله الأنا والفرد والذات، كحمولات إجتماعية مقابلة للنحن والجماعة والموضوع.
"الكونية" تبدأ من هنا، من كوننا أشخاصا نحظى بالوجود؛ فهى البوتقة الحاوية لنا جميعا كبشر.
هكذا، فالعودة للجسد تمثِّل محاولة لإستعادة الوجود فى العالم بامتداده الكونى الهائل بالإرتكاز على الواقعة- وهو ما يعنى أننا الآن إزاء أعادة تعريف قسرى للأنا العائدة إلى جذر الوجود- ومن هنا يتأتى الإشتغال المعاصر لماكينة الأحاسيس المفرطة.
البروباجندة الأمريكية الإحترافية الراهنة تسعى بقوة للإستحواذ على "الواقع الجديد - الذى هو الأحاسيس المفرطة"؛ تلك التى لم يتبق لنا سواها- فى أعقاب سقوط الأيديولوجيات الكبرى، ومبدأ الواقع ومبدأ التاريخانية... أعنى أن ["الأنا" المتجذِّرة فى الجسد، جذر الوجود؛ الجسد العائد بقوة إلى الكونى؛ فى إطار التَّفَشِّى الحادث الآن للفلسفات الروحانية، والغنوصية عامة بأشكالها العديدة"، تلك "الأنا" التى لم يعد لها من شئ تستند إليه سوى حائط "الأحاسيس المفرطة"، صارت أسيرة ومعتقلة فى واقع مُبَرمَج بلغة عاطفية مصطنعة تماما.]..
/ ما الذى يمكننى قوله الآن؟
يبدو أن الإنسان نفسه، الإنسان الحقيقى، قد مات... ولم يعد هنالك سوى "شبح" مكوَّن من رواسب عاطفية بدائية، غُفل...
تلك الرواسِب "البقايا"، هى الذكرى المتبقية من الإنسان...
ذكرى بلا عقل
ينوء الجسد الأعمى بحملِها، بينما يتخَبَّط وحيدا فى الأرجاء الشاسعة للملتيميديا...
ـــ أيُعقَل أن كل هذا الموت الذى صرنا بموجَبه مجرد أشباح، يحدث فقط لأن الرأسمالية الأمريكية تتشَبَّث بمقعد القُطب الأوحد ؟.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى