كانت الهدية التي أهدتنا إياها صوفي، أنا وسليم، الجنة التي اصطحبتنا إليها مرات كثيرة. ولم أكد أنا، موسى، قد بلغت السابعة من عمري بعد، وكان سليم يكبرني بسنة واحدة أو أكثر قليلاً. كانت الجنة هي حمّام النسوان، أو الحمّام التركي، في أنقرة.
لا تزال تتراءى لي صوفي في مخيلتي وهي تنظر بطرف عينها، فيما كنا أنا وسليم مستسلمين لنشوة لذيذة – وقد رفرفت ابتسامة على شفتيها، وامتدت تحت فمها ندبة مقوسة. (وبعد سنوات، أطلقت إليفثريا، حبيبتي اليونانية – ويعني اسمها 'الحرية' –
التي كانت تتفاخر بأنها نساء عديدات في امرأة واحدة، على حالة النشوة التي كانت تعترينا 'سِحْر عشر رقصات'، وهي تورية إغريقية لفظية تعني 'الإنحلال').كانت صوفي تدللنا وتعاملنا كما لو أنها كانت قد أنجبتنا، وكنا نكّن لها ذات القدر من المحبة. بل ويمكنني أن أعترف الآن، بأننا كنا نحبّها أكثر مما كنا نحبّ أمهاتنا، وذلك لأنه لم يكن ثمة شيء يرغمها على أن تحبنا بهذا القدر، ولأنها كانت تعتبر أننا نستحق حقاً هذه المحبة والمودّة منها. لذلك، لم نصدق ما كان يقوله الآباء والجيران بأن غريزة الأمومة تحكم كلّ امرأة، بسبب قانون الطبيعة، وبما أن صوفي كان مقدراً لها أن تبقى عزباء وعاقراً، فقد كانت تحبّ كلّ طفل تصادفه وترعاه، حتى لو كانا صبيين وغدين، مثلي ومثل سليم. (ولعلي لا أزال أتذكّر عبارة طالما كانت ترددها إحدى جاراتنا: 'قد تكون عذراء، لكن أي رجل مستعد للزواج من فتاة على وجهها ندبة؟' وكان هذا الوغدان، أنا وسليم، يصرخان بصوت واحد - بتعقل، وبصوت غير مسموع - نحن! عندما نكبر)
كانت صوفي واحدة من تلك الشابات اللاتي نزحن من مناطق الأناضول النائية، ولم يكن لها أقارب ولا بيت يؤويها، فوجدت خلاصاً بالعمل في خدمة البيوت في المدن. ولم يكن أجر هذا العمل، في معظم الأحيان، يزيد على السماح للخادمة بأن تقيم في البيت وأن تنام على سرير جاثم في ركن من البهو في المنزل؛ وكان الأجر، إن كان هناك أجر، قلما يتجاوز ليرة تعيسة أو ليرتين في الشهر. إلا أنه في أوائل الأربعينات من القرن العشرين، عندما أدت سياسة الحياد التي اتخذتها تركيا في الحرب العالمية الثانية، إلى بروز مشاكل اقتصادية شديدة، كان يتعذر إيجاد حتى مثل هذا النوع من العمل أيضاً؛ وكانت المدن الكبيرة مثل استنبول وإزمير وأضنة، والعاصمة الجديدة، أنقرة، تزخر بالقصص المرعبة عن المصائب التي لحقت بالكثير من الخادمات اللاتي قدمن من الريف، واللاتي لم يجدن عملاً كخادمة.
أما أبواي، ويسرني أن أقول هذا، فكانا يدفعان لها أجراً لائقاً، رغم الصراع الدائم من أجل لقمة العيش. وكانت صوفي أرمنية، تنتمي إلى شعب شهد مصاعب ومشاق أكثر مما كان يستحق. وكانت صوفي نفسها واحدة من اللاتي نجون من الآلام التي عانى منها الأرمن على يد النظام العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، وما يشهد على ذلك شعرها الذي ابيّض قبل أوانه، وندبتها العميقة تحت شفتها السفلى.
أما أنا وسليم، فلم نكن نقبل على الإطلاق التمييز بأنّ صوفي خادمة. وبحكمة عقلينا الصغيرين، كنا نعتبر أن هذه التسمية تزدري وتنتقص من قدرها ومكانتها. فكنا ندعوها "أبلة"، أي 'الأخت الكبرى'. في البداية – بما أن سليم لم يكن أخي، بل صديقي الذي يقيم في البيت المجاور لنا – ألححت على أن يعرف أنه
* موريس فارحي كاتب تركي بريطاني
.
لا تزال تتراءى لي صوفي في مخيلتي وهي تنظر بطرف عينها، فيما كنا أنا وسليم مستسلمين لنشوة لذيذة – وقد رفرفت ابتسامة على شفتيها، وامتدت تحت فمها ندبة مقوسة. (وبعد سنوات، أطلقت إليفثريا، حبيبتي اليونانية – ويعني اسمها 'الحرية' –
التي كانت تتفاخر بأنها نساء عديدات في امرأة واحدة، على حالة النشوة التي كانت تعترينا 'سِحْر عشر رقصات'، وهي تورية إغريقية لفظية تعني 'الإنحلال').كانت صوفي تدللنا وتعاملنا كما لو أنها كانت قد أنجبتنا، وكنا نكّن لها ذات القدر من المحبة. بل ويمكنني أن أعترف الآن، بأننا كنا نحبّها أكثر مما كنا نحبّ أمهاتنا، وذلك لأنه لم يكن ثمة شيء يرغمها على أن تحبنا بهذا القدر، ولأنها كانت تعتبر أننا نستحق حقاً هذه المحبة والمودّة منها. لذلك، لم نصدق ما كان يقوله الآباء والجيران بأن غريزة الأمومة تحكم كلّ امرأة، بسبب قانون الطبيعة، وبما أن صوفي كان مقدراً لها أن تبقى عزباء وعاقراً، فقد كانت تحبّ كلّ طفل تصادفه وترعاه، حتى لو كانا صبيين وغدين، مثلي ومثل سليم. (ولعلي لا أزال أتذكّر عبارة طالما كانت ترددها إحدى جاراتنا: 'قد تكون عذراء، لكن أي رجل مستعد للزواج من فتاة على وجهها ندبة؟' وكان هذا الوغدان، أنا وسليم، يصرخان بصوت واحد - بتعقل، وبصوت غير مسموع - نحن! عندما نكبر)
كانت صوفي واحدة من تلك الشابات اللاتي نزحن من مناطق الأناضول النائية، ولم يكن لها أقارب ولا بيت يؤويها، فوجدت خلاصاً بالعمل في خدمة البيوت في المدن. ولم يكن أجر هذا العمل، في معظم الأحيان، يزيد على السماح للخادمة بأن تقيم في البيت وأن تنام على سرير جاثم في ركن من البهو في المنزل؛ وكان الأجر، إن كان هناك أجر، قلما يتجاوز ليرة تعيسة أو ليرتين في الشهر. إلا أنه في أوائل الأربعينات من القرن العشرين، عندما أدت سياسة الحياد التي اتخذتها تركيا في الحرب العالمية الثانية، إلى بروز مشاكل اقتصادية شديدة، كان يتعذر إيجاد حتى مثل هذا النوع من العمل أيضاً؛ وكانت المدن الكبيرة مثل استنبول وإزمير وأضنة، والعاصمة الجديدة، أنقرة، تزخر بالقصص المرعبة عن المصائب التي لحقت بالكثير من الخادمات اللاتي قدمن من الريف، واللاتي لم يجدن عملاً كخادمة.
أما أبواي، ويسرني أن أقول هذا، فكانا يدفعان لها أجراً لائقاً، رغم الصراع الدائم من أجل لقمة العيش. وكانت صوفي أرمنية، تنتمي إلى شعب شهد مصاعب ومشاق أكثر مما كان يستحق. وكانت صوفي نفسها واحدة من اللاتي نجون من الآلام التي عانى منها الأرمن على يد النظام العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، وما يشهد على ذلك شعرها الذي ابيّض قبل أوانه، وندبتها العميقة تحت شفتها السفلى.
أما أنا وسليم، فلم نكن نقبل على الإطلاق التمييز بأنّ صوفي خادمة. وبحكمة عقلينا الصغيرين، كنا نعتبر أن هذه التسمية تزدري وتنتقص من قدرها ومكانتها. فكنا ندعوها "أبلة"، أي 'الأخت الكبرى'. في البداية – بما أن سليم لم يكن أخي، بل صديقي الذي يقيم في البيت المجاور لنا – ألححت على أن يعرف أنه
* موريس فارحي كاتب تركي بريطاني
.