" هل تظنُّ بحبّي سوف يتقوّض إلى الأرض عندما تتخلّى؟ "
- جلال الدين الرومي
ثمّة نسمةٍ جذلى تغازل احتشاد حلمكَ القديم، في هذا الصباح الصلف، الطالع لتوّه من ضباب ليلٍ طويلٍ باردٍ داكنِ الوطأة. تخرج ممتلئاً بنسماتها المهفهفه، الشوارع خالية إلاّ من ( ود محاري ) الذي يمزّق صوته الأجش لحم السكون، ويلج بلغته المتمرّدة ذاكرة البلدة القديمة، التي تتوسّط البادوب العظيم الممتد إلى سيتيت*:
" أمّاااااااااك ما تقول لي ود محاااري! "..
يقيناً ستجده أسير شارعٍ ما، يتسربله ذلك الوهن الذي يعقب عادة سكراته الصاخبة، منكفئاً على جدارٍ متداعٍ في منطقة السوق القديم، أو ربّما وجدته يكابد إحتكاك نعليه الباليين والرمل الخشن. يداعبك حضورها الإجتياحي المكدّس باهياً في مسام الجسد، يدخلك عطرها، يجوس في باطنك، تهامسكَ، وتجمح في يبابك.. تغرسُ فيه إخضرار فصولها وألق الكلمات المحمولة على أنصال العشب. العتمة خفيفة.. صريف الرمل تحت انسرابك السادر في حميمية الأشياء ينبّه ود محاري، فيعود:
" أمّاااااااااك "
ترجعُ من حيث أتيت. تتحاشى المرور أمام كوخ سعدية المجنونة خشية أن تنبحكَ كلابها الهزيلة... تتخيّلها متقرفصة ترتّل أورادها العجيبة، بينما شعرها الأشيب الغزير الممسوح بالـ ( ودق ) الرخيص يتدلّى إلى كيس حليب الإغاثة الورقي الفارغ تحتها وخلفها. ترى أنّ مكوثك بالبيت أجدى حتّى يحين حينها، فقد وعدتك أن تأتي مع الشمس لتضيف إليها فيكَ قبلة ضاجة بالنثيثِ العطر.. سترتّب هي بيتك القابع في فوضاه.. تزيل الغبار العالق بلوحاتك، وتوزّعها على أرجاء غرفتك المرسم بذوقها، وتعدّ لك طبق الشيرو* ، ستأتي سلوى كي تطويَ إلى الأبد صفحة حبّك الموؤود ، كي تنسلّ عنك تلك التفاصيل التعيسة لعلاقتك مع نجاة. سكارى يتباولون قرب بيتك.. فألٌ سيئ!! يمكنك التعارك معهم وطردهم.. لكن لا.. لا.. عليك أن تتفادى كل ما من شأنه تعكير يومك، فسلوى قادمة، سلوى قادمة مع الشمس.
ترشُّ غرفتكَ بالنور! ، تضمّك الجدر الملوّنة.. يبتسم لك وجه نجاة المغبر.. تشيحُ عنها وتعيد إغلاق الباب بإحكام. تعود نجاة.. ماالذي أعادها؟!.. تنتبه إلى ثمة تشابه بينها وسلوى.. شيئٌ ما مشترك غير الشامة والغمازتين التين سكنتا يوماَ ما عشقك المتطاير كسرب غرغر* مذعور. تفتح كراسة الإسكتشات.. تلوّح لك سلوى بيدها اليسرى .. مشرقة، جذلة، ومن خلفها سراب ، وراءه ظلامٌ وطنين.. هل خرجتْ من السراب أم هي إليه؟.. لا يعجبكَ ذلك، فترسم نخلة سامقة وحيدة، وبحراً هادئاً فوقه سماء صافية.. تقوم إلى عدة الرسم وتشرع في رسم لوحة لها.. تهطل فيكَ نجاة!! تمسّد شعرك.. تجوس أصابعها الناحلة في صدرك العاري.. تتمسّك أنتَ بالفرشاة.. تتشبّث هي بعنقك وتزرعه بالقبلات.. تأوي الفكرة إلى أدغالها البعيدة الغامقة.. تغمس أنتَ فرشاتك في اللون الأصفر الفاقع وتلطّخ وجهها.. تتخاصمان. أنتَ بحاجة إلى أنثى، هجرتكَ نجاة (لا لشيئ!، إلاّ لحاجتها إلى التغيير!! كما أسرّت لصديقة لها) جعلتكَ تهيم على وجهكَ مكبّاً حيناً من عتماتٍ هاطلات. أنتَ بحاجة إلى أنثى تشتمّ روائحها الخفية في متاهات الرهق، فتهتدي إليكَ.. تهتدي إليها.. تسمع ضجيج عينيها، تمحو عنكَ التلف والجوع، تتحسّس موضع نبضها يستعر تحت اللبوس الناعم كي تنداح كدوائر فرحة فوق موجة هادرة، فوقها موجٌ، فوقه سحابٌ، فوقها شمسٌ لا تغيب.. أنثى تتوسّد ذراعك، فتؤول إلى حديقة لأطفالٍ في مدن الخوف. ينضب اللون البنفسجي الذي كنتُ سترسمُ به بلوزتها، غير بعيدٍ عنك، فوق الخبز الجاف المحفوظ بعناية من يدرك قيمته تستلقي علبة الألوان الجديدة التي هي هدية من سلواكَ، تشكرها، وتمدّ يدكَ إلى العلبة.. لاشك أنّها ستفرح بلوحتها. الشمس تداهم غرفتك وترسم دوائرها الذهبية على الأرضية الصارخة بالفوضى. تفتح الباب، تجعله موارباً حتى لا تطيل وقفتها إذ تجيئ. تضطجع على سريركَ، تنام.
تصحو على صوتٍ حاد مشطور كما نغمة نشاز من نايٍ قصبيّ.. تودّ أن تصفعه.. تتراجع.. ماذا؟!! فيه شبه من سلوى!!... يمدّ لك وريقة مطوية بطريقة أنثوية ذكّرتك بمنديلها ذي القلب المشطور بسهمٍ من نار: " عزيزي.. عم صباحاً.
يؤسفني أن أخبركَ بأنّي لن أتمكّن من مقابلتك بعد اليوم، فأثر عودتي إلى البيت من موعدنا السابق تمّت خطبتي إلى قريب لي مقيم بالخارج.. سأزفّ إليه قريباً. كنتُ أتمنّى! لكن أبي يرفض خروجي. لك قبلاتي. سلوى "
... يده اليسرى تشبّثت باللوحة التي لم تجف ألوانها بعد، واليمنى تدلّت وتأرجحت كبندول ساعة هرمة.. تراءى له إنقباض سُرّتها والفصود حولها.. ويدها وهي تلوّح مودّعة.. جموح نهديها في الضوء الضنين .. الإحمرار الخفيف على خدّيها اليغرق شامتها ويتاخم غمّازتيها الضاحكتين. جلس يقضم بمهارة ودربة نصف رغيف من خبزٍ جاف، بينما أخذت في ذاكرته تتشكّل لوحة لسعدية المجنونة، متقرفصة على كيس حليب الإغاثة الورقي الفارغ، ترتّل أورادها الحبيبة.. ويتدلّى شعرها الأشيب الغزير، الممسوح بالودق الرخيص.. يتدلّى إلى قاعٍ سحيقٍ، غائرٍ، مظلم.
------------------------------------------------------------------
ديسمبر ١٩٩٧ــ حلحل ــ قبي ألبو
- إشارات:
* سيتيت: إسم لنهر في إرتريا والسودان، وإثيوبيا التي يسمى بها بتكَّزي.
* شيرو: طبق إرتري إثيوبي، يتم إعداده من الحمص المطحون.
* غرغر: الدجاج الحبشي، يُعرف في السودان وبعض المناطق في إرتريا بدجاج الوادي.
- جلال الدين الرومي
ثمّة نسمةٍ جذلى تغازل احتشاد حلمكَ القديم، في هذا الصباح الصلف، الطالع لتوّه من ضباب ليلٍ طويلٍ باردٍ داكنِ الوطأة. تخرج ممتلئاً بنسماتها المهفهفه، الشوارع خالية إلاّ من ( ود محاري ) الذي يمزّق صوته الأجش لحم السكون، ويلج بلغته المتمرّدة ذاكرة البلدة القديمة، التي تتوسّط البادوب العظيم الممتد إلى سيتيت*:
" أمّاااااااااك ما تقول لي ود محاااري! "..
يقيناً ستجده أسير شارعٍ ما، يتسربله ذلك الوهن الذي يعقب عادة سكراته الصاخبة، منكفئاً على جدارٍ متداعٍ في منطقة السوق القديم، أو ربّما وجدته يكابد إحتكاك نعليه الباليين والرمل الخشن. يداعبك حضورها الإجتياحي المكدّس باهياً في مسام الجسد، يدخلك عطرها، يجوس في باطنك، تهامسكَ، وتجمح في يبابك.. تغرسُ فيه إخضرار فصولها وألق الكلمات المحمولة على أنصال العشب. العتمة خفيفة.. صريف الرمل تحت انسرابك السادر في حميمية الأشياء ينبّه ود محاري، فيعود:
" أمّاااااااااك "
ترجعُ من حيث أتيت. تتحاشى المرور أمام كوخ سعدية المجنونة خشية أن تنبحكَ كلابها الهزيلة... تتخيّلها متقرفصة ترتّل أورادها العجيبة، بينما شعرها الأشيب الغزير الممسوح بالـ ( ودق ) الرخيص يتدلّى إلى كيس حليب الإغاثة الورقي الفارغ تحتها وخلفها. ترى أنّ مكوثك بالبيت أجدى حتّى يحين حينها، فقد وعدتك أن تأتي مع الشمس لتضيف إليها فيكَ قبلة ضاجة بالنثيثِ العطر.. سترتّب هي بيتك القابع في فوضاه.. تزيل الغبار العالق بلوحاتك، وتوزّعها على أرجاء غرفتك المرسم بذوقها، وتعدّ لك طبق الشيرو* ، ستأتي سلوى كي تطويَ إلى الأبد صفحة حبّك الموؤود ، كي تنسلّ عنك تلك التفاصيل التعيسة لعلاقتك مع نجاة. سكارى يتباولون قرب بيتك.. فألٌ سيئ!! يمكنك التعارك معهم وطردهم.. لكن لا.. لا.. عليك أن تتفادى كل ما من شأنه تعكير يومك، فسلوى قادمة، سلوى قادمة مع الشمس.
ترشُّ غرفتكَ بالنور! ، تضمّك الجدر الملوّنة.. يبتسم لك وجه نجاة المغبر.. تشيحُ عنها وتعيد إغلاق الباب بإحكام. تعود نجاة.. ماالذي أعادها؟!.. تنتبه إلى ثمة تشابه بينها وسلوى.. شيئٌ ما مشترك غير الشامة والغمازتين التين سكنتا يوماَ ما عشقك المتطاير كسرب غرغر* مذعور. تفتح كراسة الإسكتشات.. تلوّح لك سلوى بيدها اليسرى .. مشرقة، جذلة، ومن خلفها سراب ، وراءه ظلامٌ وطنين.. هل خرجتْ من السراب أم هي إليه؟.. لا يعجبكَ ذلك، فترسم نخلة سامقة وحيدة، وبحراً هادئاً فوقه سماء صافية.. تقوم إلى عدة الرسم وتشرع في رسم لوحة لها.. تهطل فيكَ نجاة!! تمسّد شعرك.. تجوس أصابعها الناحلة في صدرك العاري.. تتمسّك أنتَ بالفرشاة.. تتشبّث هي بعنقك وتزرعه بالقبلات.. تأوي الفكرة إلى أدغالها البعيدة الغامقة.. تغمس أنتَ فرشاتك في اللون الأصفر الفاقع وتلطّخ وجهها.. تتخاصمان. أنتَ بحاجة إلى أنثى، هجرتكَ نجاة (لا لشيئ!، إلاّ لحاجتها إلى التغيير!! كما أسرّت لصديقة لها) جعلتكَ تهيم على وجهكَ مكبّاً حيناً من عتماتٍ هاطلات. أنتَ بحاجة إلى أنثى تشتمّ روائحها الخفية في متاهات الرهق، فتهتدي إليكَ.. تهتدي إليها.. تسمع ضجيج عينيها، تمحو عنكَ التلف والجوع، تتحسّس موضع نبضها يستعر تحت اللبوس الناعم كي تنداح كدوائر فرحة فوق موجة هادرة، فوقها موجٌ، فوقه سحابٌ، فوقها شمسٌ لا تغيب.. أنثى تتوسّد ذراعك، فتؤول إلى حديقة لأطفالٍ في مدن الخوف. ينضب اللون البنفسجي الذي كنتُ سترسمُ به بلوزتها، غير بعيدٍ عنك، فوق الخبز الجاف المحفوظ بعناية من يدرك قيمته تستلقي علبة الألوان الجديدة التي هي هدية من سلواكَ، تشكرها، وتمدّ يدكَ إلى العلبة.. لاشك أنّها ستفرح بلوحتها. الشمس تداهم غرفتك وترسم دوائرها الذهبية على الأرضية الصارخة بالفوضى. تفتح الباب، تجعله موارباً حتى لا تطيل وقفتها إذ تجيئ. تضطجع على سريركَ، تنام.
تصحو على صوتٍ حاد مشطور كما نغمة نشاز من نايٍ قصبيّ.. تودّ أن تصفعه.. تتراجع.. ماذا؟!! فيه شبه من سلوى!!... يمدّ لك وريقة مطوية بطريقة أنثوية ذكّرتك بمنديلها ذي القلب المشطور بسهمٍ من نار: " عزيزي.. عم صباحاً.
يؤسفني أن أخبركَ بأنّي لن أتمكّن من مقابلتك بعد اليوم، فأثر عودتي إلى البيت من موعدنا السابق تمّت خطبتي إلى قريب لي مقيم بالخارج.. سأزفّ إليه قريباً. كنتُ أتمنّى! لكن أبي يرفض خروجي. لك قبلاتي. سلوى "
... يده اليسرى تشبّثت باللوحة التي لم تجف ألوانها بعد، واليمنى تدلّت وتأرجحت كبندول ساعة هرمة.. تراءى له إنقباض سُرّتها والفصود حولها.. ويدها وهي تلوّح مودّعة.. جموح نهديها في الضوء الضنين .. الإحمرار الخفيف على خدّيها اليغرق شامتها ويتاخم غمّازتيها الضاحكتين. جلس يقضم بمهارة ودربة نصف رغيف من خبزٍ جاف، بينما أخذت في ذاكرته تتشكّل لوحة لسعدية المجنونة، متقرفصة على كيس حليب الإغاثة الورقي الفارغ، ترتّل أورادها الحبيبة.. ويتدلّى شعرها الأشيب الغزير، الممسوح بالودق الرخيص.. يتدلّى إلى قاعٍ سحيقٍ، غائرٍ، مظلم.
------------------------------------------------------------------
ديسمبر ١٩٩٧ــ حلحل ــ قبي ألبو
- إشارات:
* سيتيت: إسم لنهر في إرتريا والسودان، وإثيوبيا التي يسمى بها بتكَّزي.
* شيرو: طبق إرتري إثيوبي، يتم إعداده من الحمص المطحون.
* غرغر: الدجاج الحبشي، يُعرف في السودان وبعض المناطق في إرتريا بدجاج الوادي.
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.
www.facebook.com