كنتُ في الخامسة من عمري ولدّي شغف وتطلًع إلى حمل المحفظة، وأن يكون لي قلمُ حبر، وقلمُ رصاص، وأقلامٌ أخرى ملونة للرسم والتسلية. أتذكرُ يوم أوصلتني والدتي إلى المدرسة، وأنا مزهوٌ بمشيتي متحمّسٌ لهذا اليوم المنتظر وكأنه نشوة عيد من صنف جديد. ارتديتُ بدلة رسمية زرقاء اللون، سمّوها "الطالبية"، وهو تعريب مرتجل للفظ الفرنسي tablier، وحملتُ محفظة جلدية جديدة، فكنتُ منتصب القامة يمشي، وكأني أصبحتُ عضوا في العصبة الممتازة لبطولة كروية عالمية!
كانت المدرسة مجرّد خمسة أقسام أو فصول دراسية يفصلها عن طريق السيارات سياجٌ حديديٌ متهالكٌ. وعلى بعد حوالى مائتي متر إلى الجهة الأخرى فصولٌ خمسةٌ أخرى تطل على هضبة مرتفعة، وفي أعلاها أقواسٌ وسككٌ حديديةٌ وعالمٌ آخر. ولم تكن على الطريق المجاور أضواء حمراء أو علامة قف. فكان أحد الأساتذة يتطوع لتولّي دور شرطي المرور ليضمن سلامتنا أثناء عبور الطريق عند المغادرة في العاشرة صباحا والرابعة بعد الظهر.
كانت ساحة المدرسة مجرّد تراب بنّي اللون وكأن وزارة التعليم آنذاك أرتأت أن نترعرع في بيئة عضوية bio خالصة لنكون مواطنين عضويين خالصين. وانتصبتْ على يمين الساحة بضعة مكاتب تسمى "الإدارة". كان حضورنا إجباريا إلى ساحة المدرسة في السابعة والنصف صباحا لنؤدي "تحية العلم"، بل مهمة صعبة خاصة خلال فصل الشتاء القارس، وأغلبنا يتمنى لو بقينا في فراش النوم ساعة أخرى.
كان إسم المدرسة "باب الريح"، وهو سيميائية مثيرة ذات دلالة رمزية أو ذات قيمة بمنطق الأقدار، وكأن الريح سترمينا نحن التلاميذ عبر الزمن في اتجاهات متباعدة ومآلات مختلفة. وربّما كانت هذه الريح هي ما حلّقت بي للعيش في ثلاث عواصم أخرى في ثلاث قارات نائية.
على خلاف تلاميذ المدارس الأخرى، كنا محظوظين بإجازة أسبوعين إضافيين في فصل الشتاء عندما تتدفق مياه الفيضانات من ناحية الأقواس العلوية، فتغدو ساحة مدرستنا البهيجة سدّا مائيا بحكم الأمر الواقع. وعندما نستأنف الدراسة، يكون خزان المياه قد فعل فعلته الشنيعة داخل الفصول، وقد تحولت دفاتر الامتحانات التي يحفظها الأستاذ(ة) في خزانة الفصل إلى مادة رخوية بنّية اللون، وكأننا من حيث لا ندري باحثون منقّبون في فنون التنجيم وعلوم الآثار المدفونة في الوحل.
والمفارقة الأخرى أن هذه المدرسة العتيدة تقاذفتها الريح أيضا، فاندثرت من الوجود كليةً، عندما دكّتها يد العمران ودفنتها تحت طريق وجسر لمرور قطار الترام. دفنوها تحت الإسمنت، وتطاولوا على مدرسة نحبها برغم تعاسة موقعها وبينتها الأساسية البسيطة، ونرتبط بها ارتباطا عضويا في ذاكرتنا ومرجعية صبانا.
و"نحن" هنا تنوب عني وعن صديقي العزير عبد الرحيم حلمي الذي ذكّرني اليوم بقصة مدرستنا عندما بعث إلي صورة لنا وبقية التلاميذ والأستاذ أمين مدرّس اللغة العربية على اليمين والأستاذ الشندوري مدرّس الحساب والفرنسية وأتذكر أيضا سعيد عاشور. كنتُ أصغر التلاميذ عمرا بفارق عامين عن متوسط الأعمار، وظلت هذه اللازمة تلاحقني حتى تخرجي من الجامعة.
من جميل الوفاء اليوم لهذه الحقبة وهذه المدرسة التي تعلمتُ وبلورتُ فيها أحلامي الصغيرة، أسأل عما فعلته الريح برفاقي القدامى الذين مروا عبر "باب الريح". من يتعرف على وجهه(ا) في هذه الصورة، أو يتذكر صديقا أو صديقة الطفولة من هؤلاء الطيبين والطيبات.
سأكون مسرورا إذا كنتم من هؤلاء أو تساهمون في إحياء ذكرى "باب الريح"، وجيل مسارات الريح المثيرة.
كانت المدرسة مجرّد خمسة أقسام أو فصول دراسية يفصلها عن طريق السيارات سياجٌ حديديٌ متهالكٌ. وعلى بعد حوالى مائتي متر إلى الجهة الأخرى فصولٌ خمسةٌ أخرى تطل على هضبة مرتفعة، وفي أعلاها أقواسٌ وسككٌ حديديةٌ وعالمٌ آخر. ولم تكن على الطريق المجاور أضواء حمراء أو علامة قف. فكان أحد الأساتذة يتطوع لتولّي دور شرطي المرور ليضمن سلامتنا أثناء عبور الطريق عند المغادرة في العاشرة صباحا والرابعة بعد الظهر.
كانت ساحة المدرسة مجرّد تراب بنّي اللون وكأن وزارة التعليم آنذاك أرتأت أن نترعرع في بيئة عضوية bio خالصة لنكون مواطنين عضويين خالصين. وانتصبتْ على يمين الساحة بضعة مكاتب تسمى "الإدارة". كان حضورنا إجباريا إلى ساحة المدرسة في السابعة والنصف صباحا لنؤدي "تحية العلم"، بل مهمة صعبة خاصة خلال فصل الشتاء القارس، وأغلبنا يتمنى لو بقينا في فراش النوم ساعة أخرى.
كان إسم المدرسة "باب الريح"، وهو سيميائية مثيرة ذات دلالة رمزية أو ذات قيمة بمنطق الأقدار، وكأن الريح سترمينا نحن التلاميذ عبر الزمن في اتجاهات متباعدة ومآلات مختلفة. وربّما كانت هذه الريح هي ما حلّقت بي للعيش في ثلاث عواصم أخرى في ثلاث قارات نائية.
على خلاف تلاميذ المدارس الأخرى، كنا محظوظين بإجازة أسبوعين إضافيين في فصل الشتاء عندما تتدفق مياه الفيضانات من ناحية الأقواس العلوية، فتغدو ساحة مدرستنا البهيجة سدّا مائيا بحكم الأمر الواقع. وعندما نستأنف الدراسة، يكون خزان المياه قد فعل فعلته الشنيعة داخل الفصول، وقد تحولت دفاتر الامتحانات التي يحفظها الأستاذ(ة) في خزانة الفصل إلى مادة رخوية بنّية اللون، وكأننا من حيث لا ندري باحثون منقّبون في فنون التنجيم وعلوم الآثار المدفونة في الوحل.
والمفارقة الأخرى أن هذه المدرسة العتيدة تقاذفتها الريح أيضا، فاندثرت من الوجود كليةً، عندما دكّتها يد العمران ودفنتها تحت طريق وجسر لمرور قطار الترام. دفنوها تحت الإسمنت، وتطاولوا على مدرسة نحبها برغم تعاسة موقعها وبينتها الأساسية البسيطة، ونرتبط بها ارتباطا عضويا في ذاكرتنا ومرجعية صبانا.
و"نحن" هنا تنوب عني وعن صديقي العزير عبد الرحيم حلمي الذي ذكّرني اليوم بقصة مدرستنا عندما بعث إلي صورة لنا وبقية التلاميذ والأستاذ أمين مدرّس اللغة العربية على اليمين والأستاذ الشندوري مدرّس الحساب والفرنسية وأتذكر أيضا سعيد عاشور. كنتُ أصغر التلاميذ عمرا بفارق عامين عن متوسط الأعمار، وظلت هذه اللازمة تلاحقني حتى تخرجي من الجامعة.
من جميل الوفاء اليوم لهذه الحقبة وهذه المدرسة التي تعلمتُ وبلورتُ فيها أحلامي الصغيرة، أسأل عما فعلته الريح برفاقي القدامى الذين مروا عبر "باب الريح". من يتعرف على وجهه(ا) في هذه الصورة، أو يتذكر صديقا أو صديقة الطفولة من هؤلاء الطيبين والطيبات.
سأكون مسرورا إذا كنتم من هؤلاء أو تساهمون في إحياء ذكرى "باب الريح"، وجيل مسارات الريح المثيرة.
Mohammed Cherkaoui
Mohammed Cherkaoui, Washington D. C. 12,923 likes · 27 talking about this. Scholar and practitioner of conflict resolution and former member of the UN Panel of Experts
www.facebook.com