-١-
يكتب ريلكة تجديفاً في حق الرب، وميلتون يعبث بتفاهات كتفاهات أليجيري، ومثل ذلك في ثقافة الشرق. الرب الذي نال اهتماماً من كارهيه أكثر من محبيه، ويضيف صديق: نال أكثر مما يستحق.
ثم يبدو حانقاً: المجد الذي يناله من لم يفعل شيئاً.
كان عليه أن يسير يومياً على قدميه مسافات طويلة ليفعل شيئاً.. ولم أشك يوماً في عطب بعقله. فمن بسير تلك المسافات ليحقق حلماً مستحيلاً لا يمكن إلا أن يكون مخبولاً. ويتأكد جنون عظمته حين يحسد الله نفسه على مجده في الأعالي..
أيها المخبول..!! اقولها في سري وأتملق أعماقه بقليل من الترهات لأستجلي ذلك الداء حينما يقطر قيحاً في لسانه وعينيه. "ستنال مجدك بعد أن تموت.. فلن تسلم الآن من حماقات الآخرين". ويختلط بريق الفرح بشحوب الخيبة، فلا يدري أيكفيه أن يتقبل بطولة دون كيشوتية ام يحظى برفعة النبوة المعيشة. ويبدو أنه يتقبل -على مضض- الخيارات الأضعف والجوائز الأقل عندما لا يكون بداً من ذلك.
وإنني أتذكر الآن عينيه الواسعتين القبيحتين، هما قبيحتان وتبدوان باهتتين كعينين في رأس ديك مقطوع. ولا يمكن حين تراهما إلا أن تنظر إليهما بعمق لأنك تغوص في تساؤلات شتى حول حماقات الآخرين. وحين أقول له هاتين الكلمتين: (حماقات الآخرين) ترف على شفتيه ابتسامة متوترة. هو يشعر حينها بأن الغلط ليس غلطه. نعم.. إنما غلط القطيع..الشماعة او فلأقل حبل الغسيل الذي تعلق عليه الأخطاء بلا مشاجب.
يا لي من شيطان.. شيطان مريد.. خبيث.. ولكنني لست كذلك.. بل هو الشيطان.. الشيطان هو كل صاحب عقل مظلم وروح مظلمة. وفي عينيه المجنونتين أرى ذلك الشيطان بقرنين مستويتين. ولكنه شيطان لا يضحك أبداً؛ بل شيطان خائف أبداً.. لذلك لا غرو إن كان يحسد الله في عليائه.
وحين أقول له:(حماقات الآخرين) تبرق عينا الشيطان، تبرقان ويتراقص أمل ما فيهما. يبدو النصر قريباً بقدر ما يبدو بعيداً.
لن تحتاج لأن تكون ريلكة أبداً..ذلك الحثالة الذي نال أكثر مما يستحق وأكثر مما فعل.
حين أقول له ذلك بصوت حماسي مرتعش، يتقطب جبينه، ينهض بعنفوان دودة، ثم يخرج ليواجه العالم، ليواجه حماقات الآخرين.
لن أكون قروياً فأردد تلك الكلمتين باستمرار لمجرد أنهما أعجبتاني، لكنني قد أرددهما كما تفعل الكتب المقدسة لتؤكد بالتكرار ما لا يمكن تأكيده بالتجربة والاختبار.
ثم عليَّ الآن.. الآن بالتحديد أن أنتقل إلى الشخصية الثانية، الشخصية الثانية التي تتوازى داخل كينونة واحدة مع الشخصية الأولى. الشخصية الجبلية.. نعم يمكنني أن أصفه بالشخصية الجبلية.. جبل من الشيكولاتة الهشة والرائحة اللطيفة. ذلك الشيء الذي يبدو شيئاً ولكنه لا شيء أبداً.. هل فهمتم ما أعنيه؟ إنها قفزة فوق أخطاء الآخرين عبر محو الآخرين تماماً وإخراجهم من المعادلة الوجودية..إنها "جنون العَظَمة" وحق الله.
شخصيتان في كينونة واحدة أم لا، فهذا ليس مهماً في قصتي المتعبة هذي. والتي يمكن أن نصفها بأي وصف. فهذا ليس بذي أهمية. بل المهم أن نستمع لما يقوله لي:
" هناك قوة ما.. نظام ما.."..
ويبدو ذلك متناقضاً مع ما كان يقوله في ساعات تأجج العظمة.. فالنظام هنا "يفعل" فوق أنه موجود.. وأرى في كلماته تلك ارتداداً خجولاً بحثاً عن ومضة أمل..و.. أو.. وهذا أيضا محتمل: حبل غسيل آخر بلا مشاجب.
اسأله: نظام حي؟
فيدق الأمر عليه حتى أرى الحيرة في عينيه الواسعتين. حينها أواسيه:
- ألا ترَ أن الصوت يصعد إلى أعلى أكثر مما يسقط إلى أسفل.
تبدو جملتي عميقة بالنسبة له فيسود وجهه وتصبح عيناه صغيرتين كخرزتين أفريقيتين، وهكذا يرواحه الأمل والقنوط كالمعتاد..
...
-٢-
إنه صباح السبت، لم أكن أعلم ذلك إلا حين قرأت ذلك في الهاتف. لأننا هنا في دولة فقيرة، حيث لا تتباين فيها الأيام كثيراً. كل ما عليك كإفريقي هو أن تستيقظ، ثم تقوم بطقوسك الصباحية المعتادة، وهي أن تشرب القهوة، أو الشاي، أو أن تدخن سجارة، أو أن تبقى مفتوح العينين فوق سريرك محدقاً في السقف أو السماء دون أن تفعل شيئاً ولكنك في نفس الوقت تنتظر المجد.
إنه يوم السبت بالفعل، وأنا متأكد من ذلك.. صبيحة السبت، لأن البارحة كانت صبيحة الجمعة.. أي هراء هذا؟ وبما أن اليوم السبت فقد قال عظيم الحاخامات الطبيب موسى ابن ميمون: لا يجوز في السبت قتل حشرة.
وهكذا كان صباح وكان ذلك حسن.
قال ملازمي: ولكن بلا امرأة.
قلت: مع ذلك فهو حسن.
كان عليه البحث عن بطولة داخل كومة خيباته الوجودية. وهكذا تحرك خلال ساعات امتدت من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساء، بحثاً عن فريسة، في الواقع كان قد امضى كل تلك الساعات في بحث عن مخرج من مخزن للعلف حين حاصره شابان. لقد خانته الفتاة، أو أعدت له مصيدة. وباستماتة خرج بجرح غائر في يافوخ الجمجمة. وحين خرج إلى الشارع كان طوق من المتظاهرين قد حاصر الدوار الرئيسي ووضع الحواجز الحجارية، فأضطر حينها إلى الهرولة بين الأزقة تجنباً لملاحقة البوليس للمتظاهرين. لقد قضى كل تلك الساعات ورأسه ينزف. حتى وصل إلى المنزل فارتمى في سريره ودخل في إغماءة طويلة.
لا أحد يفهم شيئاً في الدول الإفريقية، إن كل شيء يبدو متناقضاً، الشوارع الفقيرة المتربة والسيارات الفاخرة، وسيارات الدفع الرباعي المحملة بالأسلحة والقتلة المتجهمين، هناك مليشيات وهناك أيضاً رقص يتبع غناءً بإيقاعات سريعة، هناك موت وزواج. هناك فقر مدقع ومليارديرات، هناك مغفلون نافعون وهناك تجار دين وتجار سياسة وتجار حب وتجار سلام وتجار أدوية،ووتجار مرض..الخ، هناك خُطب وطنية حماسية وفساد يجاورها. هناك أبطال بلا بطولات تقريباً كصديقي هذا.
إنه صباح السبت، حيث تمرق سيارة النقل بالفقراء المتسخين بين شوارع مغطاة بالأتربة والقاذورات، وتصطف المنازل القصيرة القبيحة وفجأة يمكنك أن ترى برجاً جديداً. إن الشعب بأسره أمين جداً ولص جداً. لذلك لا بأس بضربة في النافوخ. ضربة واحدة بعصا خشبية مكورة الطرف، طوح بها الشاب فوق رأس صديقي، ولكن الصديق قفز وعبر بين الشابين بآخر نفس في صدره وهو يطلق صرخة الفزع الكبرى. أخبرني بعدها بأنه سيقدم بلاغاً للشرطة فقلت له بأنه سبق وأرسل للفتاة رسائل جنسية وهذا سيجعل موقفه سيئ من الناحية القانونية، ومن ناحية أهم؛ فإن سمعته كبطل مستقبلي ستتعرض للتشويه. وكان هذا السبب الأخير كافياً لعظمته.
لن تحتاج لأن تكون ريلكة أبداً.. ذلك الحثالة الذي نال أكثر مما يستحق وأكثر مما فعل. إنك بطل.
(٣)
حماقات الآخرين تخبرني بأنه ليس هكذا تكتب القصة. هذا صحيح. إنني أعترف بأن الناس يمكنها أن تأكل الأرز بالملعقة وأيضا بالعصا الصينية، ولا يمنع ذلك من أن تأكلها بخرطوم مجوف. أليس كذلك؟ ولذلك وعن طريق التجريب يحدث التطور. أقول له ذلك، ليقتنع بأنه على الطريق السليم. فيهمس: "ليس بالضرورة أن أنال مجدي بعد أن أموت..أليس كذلك؟"
لا.. فالله لا يلعب النرد كما قال اينشتاين.
ثم أقول: إنك على الطريق السليم..صدقني..
وحين أرخي أجفاني لأنام أرى خلاطاً ضخماً يخلط العالم كله حين يدور حول نفسه..ثم يدور عكس دورته الأولى فيعيد خلط العالم من جديد بعد أن يقلب الأجزاء التي لم تتمزق ناحية المروحة المسننة، أرى دماء، وعظاماً ولحماً، وبولاً وغائطاً، وأفكاراً، وشاشات تلفزيونية تتكسر ومع ذلك لا زالت كل شريحة زجاجية فيها تنقل جزءً من الصورة الكاملة. فأستيقظ وجسدي متحمم بالعرق.
إنه لم يكن أبداً في وضع يسمح له بالغرور والعجرفة، ليس العالم، ولكن ذلك الصديق، كان دائماً محروماً من أسلحة تتيح له قهر الآخرين، لكنه رغم ذلك كان يقاوم بشراسة، وكان يَعِد نفسه بالخيال ليمارس قهراً تصورياً لأعدائه. فالعالم داخل خلاط، يدور مرة من اليمين إلى اليسار ومرة من اليسار إلى اليمين وبالتالي فهو لا ينزع لفوضى مطلقة، بل فوضى منظمة، تخلق معاييرَ تتغير ببطء شديد. "وعليك أن تتبع تلك المعايير بحذافيرها كإنسان طبيعي، أما أنت كعبقري، فعليك أن تعاني من مقاومة ما رسخه ذلك الخلاط الفولاذي من معايير".
- أُفَضِّل..
يهمس ويستمر:
- أفضل أن أقاوم حتى النهاية.. إن المشاريع الوجودية هي التي تبقى وتظل خالدة..
إن هذا صحيح وغير صحيح في نفس الوقت. لكنني لا أشرح له بأن الصحيح هو نفسه ما تحدده المؤسسات وفقاً لاختلاف الظروف. إن المسألة تشبه إلى حد كبير فتح مخبز في قرية لم يكن فيها من قبل مخبزاً واحداً.. المنافسة ومنع الاحتكار يخفضان الأسعار، وهكذا فإن مشروعك الوجودي نفسه ليس بذي أهمية بقدر ما تجعله تلك المؤسسات ذا أهمية..لذلك عليك أن تختصر الزمن وتتبع المعايير.
- كن إنساناً طبيعياً..
ولم يغضب من كلامي هذا، بل دخل في نوبة قنوط واكتآب عظيم حتى خشيت أن يهجرني. لكنه لم يفعل، لم يكن يملك بديلاً.. حين يقول: أنا أحبك، أقول له: اسمع يا صديقي: أن تحب شخصاً يعني أنه يشبع لك نقصاً داخلك أنت..أنت في الواقع تحبه كما تحب الطعام اي تحبه لأنك تحب نفسك...وغالباً عندما تُشبع ذلك النقص سوف تتغوطه كما تتغوط الطعام... الحياة شديدة الفردانية ، كل مافي الأمر أننا لا نرغب في الاعتراف بذلك..
فيزداد قنوطه..
- ألا يمكن أن تسخدم مفردات أقل عفونة من تلك؟
وكأنه لم يسمع بأدب التعفن؛ الأدب الذي يفرضه الواقع، كما فرضت الحرب ترهات الدادية، وفرضت الثورة الصناعية مثالية الماركسية. إن الأشياء موجودة مسبقاً، كل ما يفعله المتحذلقون هو أنهم يضعونها داخل تصنيف، ثم يغلفون التصنيف بمصطلح من السلوفان. لكن كل نظرية هي موجودة بعناصرها مسبقاً.
(٤)
"إنني حين أرى فتيات مؤدبات وخجولات أشعر بأن موتاً ما يحيط بي".
يبدو لي ذلك قديماً جداً.. وصديقي لا يؤمن بذلك، بل هو يؤمن -إيماناً وليس اقتناعاً- بأن النساء عاهرات كلهن. إن عجزه وحرمانه من المرأة جعله يتخذ منهن موقفاً نفسياً حقوداً، وحبل غسيله الذي بلا مشجب جاهز دائماً.
وأنا أنفخ -كعادتي- في الجمر. إنني أحقن نخاعه العظمي بالسم. إنني طبيب بلا أخلاق، طبيب يستخدم أحقر الوسائل للحصول على أفضل فهم ليس لإيجاد علاج بل لمجرد أن يكتب بحثاً وينشره في دورية علمية محكمة.
- نحن لسنا مسؤولين عن العالم، بل عن أنفسنا فقط. أما العالم فليذهب إلى الجحيم.. وتلك الحفلات الماجنة لماركيز دو ساد وأمير مياكفيللي، وعميان سارماغو وكُتَّاب التاريخ الكذبة الضالين، يعرفون ما أعنيه تماماً. لذلك يا صديقي لا تنتظر مني سوى ضخ السم في عظامك..
- لكنك تقول الحقيقة..
- وهل هناك ما هو أكثر سمية من الحقيقة..
اتأمل وجهه القبيح، خاصة حين يسقط على عينيه ضوء القمر. العينان الواسعتان الباهتتان. وأنتظر رد فعله كما ينتظر الفحيص قراءة ميزان الضغط. أشعر بالخدر يسري في وجهه الشاحب، يهبط الدم من مخه إلى أخمص قدميه. ولكنه لا يتبول على نفسه. ما الذي يدفع الكلب إلى النباح عندما يكون قريباً من سيده سوى قربه من سيده؟.. الأمان.. الكلب يملك وعياً بالأمان وبالتالي يملك وعياً بالذعر. إن المفتاح معي.. في يدي.. بين أصابعي.. اللعبة التي تمنحني القدرة على السيطرة كلما مضى بنا الوقت، والسيطرة تمنحني إحساساً عظيماً بتنامي القوة، وتنامي القوة هو مربض السعادة كما قال نيتشه.
وحينما مضى بنا العمر، انتقل الخوف إلى نفسي، بت أخشى أن أخسر تلك السيطرة. كان هناك تمردٌ يلوح في حركاته وسكناته.
- لستُ امرأتك..
لم يقلها صراحة، بل ضمناً، وبخزعبلات النسويات والمنهممين بالنقد الثقافي يستل البعض من تلك الجملة مفهوماً شديد العمومية، بنزق لا يمكن تجاهله. ولكننا لن نخشاهم أبداً، وسنصف ما نريد وصفه كما نريد أن نصف. نعم.. كانت حركاته وسكناته تقول:
- لستُ امرأتك..
من ذاك الذي يحفر لي النهاية؟
إن عبدي لن يأبق..
لكن الوعي بالحياة والعالم المظلم يسلبنا متعة الحياة، متعة المغامرة، إن خلاصة الوعي عدمية مطبقة على الروح الإنسانية كما يطبق الفضاء الأسود على الكواكب والنجوم. لذلك كان لا بد له أن يتمرد.. لقد أفرغته من عظَمته طوال سنين، حولته لي تماماً.. كان نسخة محايثة ومتعرية مني. هذا ما ظننته، وهذا ما توقعت -رغم ضعف قدراته- أن يكون. وقد كان.
لقد اختفى تماماً.. اختفى وحظر كل أرقامي في هاتفه، وبريدي الإلكتروني، مزق صورنا معاً، ارتحل إلى منزل آخر في حي آخر في بلد آخر..
لكن بعد فوات الأوان..
وحين تأكدت من استحالة عودته حملت القلم ودونت الفصل الأول من البحث.. كانت كل البيانات قد اكتملت ولم يبق سوى وصفها وتحليلها..
(تمت)
يكتب ريلكة تجديفاً في حق الرب، وميلتون يعبث بتفاهات كتفاهات أليجيري، ومثل ذلك في ثقافة الشرق. الرب الذي نال اهتماماً من كارهيه أكثر من محبيه، ويضيف صديق: نال أكثر مما يستحق.
ثم يبدو حانقاً: المجد الذي يناله من لم يفعل شيئاً.
كان عليه أن يسير يومياً على قدميه مسافات طويلة ليفعل شيئاً.. ولم أشك يوماً في عطب بعقله. فمن بسير تلك المسافات ليحقق حلماً مستحيلاً لا يمكن إلا أن يكون مخبولاً. ويتأكد جنون عظمته حين يحسد الله نفسه على مجده في الأعالي..
أيها المخبول..!! اقولها في سري وأتملق أعماقه بقليل من الترهات لأستجلي ذلك الداء حينما يقطر قيحاً في لسانه وعينيه. "ستنال مجدك بعد أن تموت.. فلن تسلم الآن من حماقات الآخرين". ويختلط بريق الفرح بشحوب الخيبة، فلا يدري أيكفيه أن يتقبل بطولة دون كيشوتية ام يحظى برفعة النبوة المعيشة. ويبدو أنه يتقبل -على مضض- الخيارات الأضعف والجوائز الأقل عندما لا يكون بداً من ذلك.
وإنني أتذكر الآن عينيه الواسعتين القبيحتين، هما قبيحتان وتبدوان باهتتين كعينين في رأس ديك مقطوع. ولا يمكن حين تراهما إلا أن تنظر إليهما بعمق لأنك تغوص في تساؤلات شتى حول حماقات الآخرين. وحين أقول له هاتين الكلمتين: (حماقات الآخرين) ترف على شفتيه ابتسامة متوترة. هو يشعر حينها بأن الغلط ليس غلطه. نعم.. إنما غلط القطيع..الشماعة او فلأقل حبل الغسيل الذي تعلق عليه الأخطاء بلا مشاجب.
يا لي من شيطان.. شيطان مريد.. خبيث.. ولكنني لست كذلك.. بل هو الشيطان.. الشيطان هو كل صاحب عقل مظلم وروح مظلمة. وفي عينيه المجنونتين أرى ذلك الشيطان بقرنين مستويتين. ولكنه شيطان لا يضحك أبداً؛ بل شيطان خائف أبداً.. لذلك لا غرو إن كان يحسد الله في عليائه.
وحين أقول له:(حماقات الآخرين) تبرق عينا الشيطان، تبرقان ويتراقص أمل ما فيهما. يبدو النصر قريباً بقدر ما يبدو بعيداً.
لن تحتاج لأن تكون ريلكة أبداً..ذلك الحثالة الذي نال أكثر مما يستحق وأكثر مما فعل.
حين أقول له ذلك بصوت حماسي مرتعش، يتقطب جبينه، ينهض بعنفوان دودة، ثم يخرج ليواجه العالم، ليواجه حماقات الآخرين.
لن أكون قروياً فأردد تلك الكلمتين باستمرار لمجرد أنهما أعجبتاني، لكنني قد أرددهما كما تفعل الكتب المقدسة لتؤكد بالتكرار ما لا يمكن تأكيده بالتجربة والاختبار.
ثم عليَّ الآن.. الآن بالتحديد أن أنتقل إلى الشخصية الثانية، الشخصية الثانية التي تتوازى داخل كينونة واحدة مع الشخصية الأولى. الشخصية الجبلية.. نعم يمكنني أن أصفه بالشخصية الجبلية.. جبل من الشيكولاتة الهشة والرائحة اللطيفة. ذلك الشيء الذي يبدو شيئاً ولكنه لا شيء أبداً.. هل فهمتم ما أعنيه؟ إنها قفزة فوق أخطاء الآخرين عبر محو الآخرين تماماً وإخراجهم من المعادلة الوجودية..إنها "جنون العَظَمة" وحق الله.
شخصيتان في كينونة واحدة أم لا، فهذا ليس مهماً في قصتي المتعبة هذي. والتي يمكن أن نصفها بأي وصف. فهذا ليس بذي أهمية. بل المهم أن نستمع لما يقوله لي:
" هناك قوة ما.. نظام ما.."..
ويبدو ذلك متناقضاً مع ما كان يقوله في ساعات تأجج العظمة.. فالنظام هنا "يفعل" فوق أنه موجود.. وأرى في كلماته تلك ارتداداً خجولاً بحثاً عن ومضة أمل..و.. أو.. وهذا أيضا محتمل: حبل غسيل آخر بلا مشاجب.
اسأله: نظام حي؟
فيدق الأمر عليه حتى أرى الحيرة في عينيه الواسعتين. حينها أواسيه:
- ألا ترَ أن الصوت يصعد إلى أعلى أكثر مما يسقط إلى أسفل.
تبدو جملتي عميقة بالنسبة له فيسود وجهه وتصبح عيناه صغيرتين كخرزتين أفريقيتين، وهكذا يرواحه الأمل والقنوط كالمعتاد..
...
-٢-
إنه صباح السبت، لم أكن أعلم ذلك إلا حين قرأت ذلك في الهاتف. لأننا هنا في دولة فقيرة، حيث لا تتباين فيها الأيام كثيراً. كل ما عليك كإفريقي هو أن تستيقظ، ثم تقوم بطقوسك الصباحية المعتادة، وهي أن تشرب القهوة، أو الشاي، أو أن تدخن سجارة، أو أن تبقى مفتوح العينين فوق سريرك محدقاً في السقف أو السماء دون أن تفعل شيئاً ولكنك في نفس الوقت تنتظر المجد.
إنه يوم السبت بالفعل، وأنا متأكد من ذلك.. صبيحة السبت، لأن البارحة كانت صبيحة الجمعة.. أي هراء هذا؟ وبما أن اليوم السبت فقد قال عظيم الحاخامات الطبيب موسى ابن ميمون: لا يجوز في السبت قتل حشرة.
وهكذا كان صباح وكان ذلك حسن.
قال ملازمي: ولكن بلا امرأة.
قلت: مع ذلك فهو حسن.
كان عليه البحث عن بطولة داخل كومة خيباته الوجودية. وهكذا تحرك خلال ساعات امتدت من التاسعة صباحاً وحتى الخامسة مساء، بحثاً عن فريسة، في الواقع كان قد امضى كل تلك الساعات في بحث عن مخرج من مخزن للعلف حين حاصره شابان. لقد خانته الفتاة، أو أعدت له مصيدة. وباستماتة خرج بجرح غائر في يافوخ الجمجمة. وحين خرج إلى الشارع كان طوق من المتظاهرين قد حاصر الدوار الرئيسي ووضع الحواجز الحجارية، فأضطر حينها إلى الهرولة بين الأزقة تجنباً لملاحقة البوليس للمتظاهرين. لقد قضى كل تلك الساعات ورأسه ينزف. حتى وصل إلى المنزل فارتمى في سريره ودخل في إغماءة طويلة.
لا أحد يفهم شيئاً في الدول الإفريقية، إن كل شيء يبدو متناقضاً، الشوارع الفقيرة المتربة والسيارات الفاخرة، وسيارات الدفع الرباعي المحملة بالأسلحة والقتلة المتجهمين، هناك مليشيات وهناك أيضاً رقص يتبع غناءً بإيقاعات سريعة، هناك موت وزواج. هناك فقر مدقع ومليارديرات، هناك مغفلون نافعون وهناك تجار دين وتجار سياسة وتجار حب وتجار سلام وتجار أدوية،ووتجار مرض..الخ، هناك خُطب وطنية حماسية وفساد يجاورها. هناك أبطال بلا بطولات تقريباً كصديقي هذا.
إنه صباح السبت، حيث تمرق سيارة النقل بالفقراء المتسخين بين شوارع مغطاة بالأتربة والقاذورات، وتصطف المنازل القصيرة القبيحة وفجأة يمكنك أن ترى برجاً جديداً. إن الشعب بأسره أمين جداً ولص جداً. لذلك لا بأس بضربة في النافوخ. ضربة واحدة بعصا خشبية مكورة الطرف، طوح بها الشاب فوق رأس صديقي، ولكن الصديق قفز وعبر بين الشابين بآخر نفس في صدره وهو يطلق صرخة الفزع الكبرى. أخبرني بعدها بأنه سيقدم بلاغاً للشرطة فقلت له بأنه سبق وأرسل للفتاة رسائل جنسية وهذا سيجعل موقفه سيئ من الناحية القانونية، ومن ناحية أهم؛ فإن سمعته كبطل مستقبلي ستتعرض للتشويه. وكان هذا السبب الأخير كافياً لعظمته.
لن تحتاج لأن تكون ريلكة أبداً.. ذلك الحثالة الذي نال أكثر مما يستحق وأكثر مما فعل. إنك بطل.
(٣)
حماقات الآخرين تخبرني بأنه ليس هكذا تكتب القصة. هذا صحيح. إنني أعترف بأن الناس يمكنها أن تأكل الأرز بالملعقة وأيضا بالعصا الصينية، ولا يمنع ذلك من أن تأكلها بخرطوم مجوف. أليس كذلك؟ ولذلك وعن طريق التجريب يحدث التطور. أقول له ذلك، ليقتنع بأنه على الطريق السليم. فيهمس: "ليس بالضرورة أن أنال مجدي بعد أن أموت..أليس كذلك؟"
لا.. فالله لا يلعب النرد كما قال اينشتاين.
ثم أقول: إنك على الطريق السليم..صدقني..
وحين أرخي أجفاني لأنام أرى خلاطاً ضخماً يخلط العالم كله حين يدور حول نفسه..ثم يدور عكس دورته الأولى فيعيد خلط العالم من جديد بعد أن يقلب الأجزاء التي لم تتمزق ناحية المروحة المسننة، أرى دماء، وعظاماً ولحماً، وبولاً وغائطاً، وأفكاراً، وشاشات تلفزيونية تتكسر ومع ذلك لا زالت كل شريحة زجاجية فيها تنقل جزءً من الصورة الكاملة. فأستيقظ وجسدي متحمم بالعرق.
إنه لم يكن أبداً في وضع يسمح له بالغرور والعجرفة، ليس العالم، ولكن ذلك الصديق، كان دائماً محروماً من أسلحة تتيح له قهر الآخرين، لكنه رغم ذلك كان يقاوم بشراسة، وكان يَعِد نفسه بالخيال ليمارس قهراً تصورياً لأعدائه. فالعالم داخل خلاط، يدور مرة من اليمين إلى اليسار ومرة من اليسار إلى اليمين وبالتالي فهو لا ينزع لفوضى مطلقة، بل فوضى منظمة، تخلق معاييرَ تتغير ببطء شديد. "وعليك أن تتبع تلك المعايير بحذافيرها كإنسان طبيعي، أما أنت كعبقري، فعليك أن تعاني من مقاومة ما رسخه ذلك الخلاط الفولاذي من معايير".
- أُفَضِّل..
يهمس ويستمر:
- أفضل أن أقاوم حتى النهاية.. إن المشاريع الوجودية هي التي تبقى وتظل خالدة..
إن هذا صحيح وغير صحيح في نفس الوقت. لكنني لا أشرح له بأن الصحيح هو نفسه ما تحدده المؤسسات وفقاً لاختلاف الظروف. إن المسألة تشبه إلى حد كبير فتح مخبز في قرية لم يكن فيها من قبل مخبزاً واحداً.. المنافسة ومنع الاحتكار يخفضان الأسعار، وهكذا فإن مشروعك الوجودي نفسه ليس بذي أهمية بقدر ما تجعله تلك المؤسسات ذا أهمية..لذلك عليك أن تختصر الزمن وتتبع المعايير.
- كن إنساناً طبيعياً..
ولم يغضب من كلامي هذا، بل دخل في نوبة قنوط واكتآب عظيم حتى خشيت أن يهجرني. لكنه لم يفعل، لم يكن يملك بديلاً.. حين يقول: أنا أحبك، أقول له: اسمع يا صديقي: أن تحب شخصاً يعني أنه يشبع لك نقصاً داخلك أنت..أنت في الواقع تحبه كما تحب الطعام اي تحبه لأنك تحب نفسك...وغالباً عندما تُشبع ذلك النقص سوف تتغوطه كما تتغوط الطعام... الحياة شديدة الفردانية ، كل مافي الأمر أننا لا نرغب في الاعتراف بذلك..
فيزداد قنوطه..
- ألا يمكن أن تسخدم مفردات أقل عفونة من تلك؟
وكأنه لم يسمع بأدب التعفن؛ الأدب الذي يفرضه الواقع، كما فرضت الحرب ترهات الدادية، وفرضت الثورة الصناعية مثالية الماركسية. إن الأشياء موجودة مسبقاً، كل ما يفعله المتحذلقون هو أنهم يضعونها داخل تصنيف، ثم يغلفون التصنيف بمصطلح من السلوفان. لكن كل نظرية هي موجودة بعناصرها مسبقاً.
(٤)
"إنني حين أرى فتيات مؤدبات وخجولات أشعر بأن موتاً ما يحيط بي".
يبدو لي ذلك قديماً جداً.. وصديقي لا يؤمن بذلك، بل هو يؤمن -إيماناً وليس اقتناعاً- بأن النساء عاهرات كلهن. إن عجزه وحرمانه من المرأة جعله يتخذ منهن موقفاً نفسياً حقوداً، وحبل غسيله الذي بلا مشجب جاهز دائماً.
وأنا أنفخ -كعادتي- في الجمر. إنني أحقن نخاعه العظمي بالسم. إنني طبيب بلا أخلاق، طبيب يستخدم أحقر الوسائل للحصول على أفضل فهم ليس لإيجاد علاج بل لمجرد أن يكتب بحثاً وينشره في دورية علمية محكمة.
- نحن لسنا مسؤولين عن العالم، بل عن أنفسنا فقط. أما العالم فليذهب إلى الجحيم.. وتلك الحفلات الماجنة لماركيز دو ساد وأمير مياكفيللي، وعميان سارماغو وكُتَّاب التاريخ الكذبة الضالين، يعرفون ما أعنيه تماماً. لذلك يا صديقي لا تنتظر مني سوى ضخ السم في عظامك..
- لكنك تقول الحقيقة..
- وهل هناك ما هو أكثر سمية من الحقيقة..
اتأمل وجهه القبيح، خاصة حين يسقط على عينيه ضوء القمر. العينان الواسعتان الباهتتان. وأنتظر رد فعله كما ينتظر الفحيص قراءة ميزان الضغط. أشعر بالخدر يسري في وجهه الشاحب، يهبط الدم من مخه إلى أخمص قدميه. ولكنه لا يتبول على نفسه. ما الذي يدفع الكلب إلى النباح عندما يكون قريباً من سيده سوى قربه من سيده؟.. الأمان.. الكلب يملك وعياً بالأمان وبالتالي يملك وعياً بالذعر. إن المفتاح معي.. في يدي.. بين أصابعي.. اللعبة التي تمنحني القدرة على السيطرة كلما مضى بنا الوقت، والسيطرة تمنحني إحساساً عظيماً بتنامي القوة، وتنامي القوة هو مربض السعادة كما قال نيتشه.
وحينما مضى بنا العمر، انتقل الخوف إلى نفسي، بت أخشى أن أخسر تلك السيطرة. كان هناك تمردٌ يلوح في حركاته وسكناته.
- لستُ امرأتك..
لم يقلها صراحة، بل ضمناً، وبخزعبلات النسويات والمنهممين بالنقد الثقافي يستل البعض من تلك الجملة مفهوماً شديد العمومية، بنزق لا يمكن تجاهله. ولكننا لن نخشاهم أبداً، وسنصف ما نريد وصفه كما نريد أن نصف. نعم.. كانت حركاته وسكناته تقول:
- لستُ امرأتك..
من ذاك الذي يحفر لي النهاية؟
إن عبدي لن يأبق..
لكن الوعي بالحياة والعالم المظلم يسلبنا متعة الحياة، متعة المغامرة، إن خلاصة الوعي عدمية مطبقة على الروح الإنسانية كما يطبق الفضاء الأسود على الكواكب والنجوم. لذلك كان لا بد له أن يتمرد.. لقد أفرغته من عظَمته طوال سنين، حولته لي تماماً.. كان نسخة محايثة ومتعرية مني. هذا ما ظننته، وهذا ما توقعت -رغم ضعف قدراته- أن يكون. وقد كان.
لقد اختفى تماماً.. اختفى وحظر كل أرقامي في هاتفه، وبريدي الإلكتروني، مزق صورنا معاً، ارتحل إلى منزل آخر في حي آخر في بلد آخر..
لكن بعد فوات الأوان..
وحين تأكدت من استحالة عودته حملت القلم ودونت الفصل الأول من البحث.. كانت كل البيانات قد اكتملت ولم يبق سوى وصفها وتحليلها..
(تمت)