عندما قرّرتُ أن أرسم تلك الليلة، لم أكن أعرف بالضبط، ما الذي أريد رسمه، لكنّني كنت قنبلة حبٍّ موقوتة، اختارت أن تنفجر على ورقة بريستول.
رفعتُ شعْري لأعلى بمشبكي الذّهبي، وتلفّعتُ بتلك العباءة البدوية الواسعة زاهيةِ الألوان، فحملتْني من فوْرها إلى قلب الصحراء، حتى استشعرتُ رياحَها الباردة الجافّة تلطمني بوحشية، هكذا كان مِزاجي، ولهُ استسلمت.
لمستُ زرّ إضاءة مرسمي الصّغير، فغشى عيني الضوء الباهر، وكأنني مررتُ عبر أنْبوب فجأةً إلى عالم آخر.
شَرعتُ نافذتي على مصْراعيها، نظرتُ، فخرّتْ عيناي خاشعتين أمام هيبةِ الظلام، ونجمةٍ وحيدة شامخة تبتسم في غموض، وترسل جدائلها الفضيّة بدلال لتطوّق بقعةً من الكون، تحويني وحدي.
شمّرتُ عن ساعدي، والتقطتُ فرشاتي كمجرمٍ على بُعد خطوة من اقتراف جرمِه الأوّل.
ألفيتُ الفرشاةَ ترتعد بين أصابعي، لم أحاول أبدًا السّيطرةَ على تلك الرّعدة، بل بدأتُ أمدّ خطوطي المهتزّة بإصرار، فلا ضيرَ إنْ ظهرتِ الوجوه في لوحتي مزدوجة، ولا ضيْرَ إنْ ظهر الطّريق اثنين.
لا ضيرَ إنْ شبّ على سطح البحيرة حريق، ولا ضيْرَ إن تداخلت مساحاتُ الألوان الصّريحة، فوُلدت بينها مساحاتٌ غامضة، مجهولة النّسب، شائكة المعنى... وهل عالمي إلّا ذا؟!
ورسمتْ رعْداتُ أصابعي إعصارًا، وبلا استئذانٍ انسلّت روحي المتعَبة لتلفّ معه، كان يلفّ ببطء، بطء شديد، يحبسني داخلَه ويدور، لم يبدُ أنّ مشكلتي أنْ أنفكّ من براثن الإعصار؛ إنّما مشكلتي أنه يدور ببطء، فأنتظرُ النهاية ببطء، وذلك فظيعٌ جدًّا في الحقيقة، ليته يدور بسرعة شديدة حتى أفقدَ الوعي، أو أحترقَ داخله، أيّ نهاية ترضيني، المهمّ أن تأتي النهاية... وبسرعة.
هكذا شعرت، ولم تجدْ مشاعري أيَّ صدًى لدى القدر، فبقيتُ أنزف روحي ببطء على ورقةِ بريستول، قطرةً قطرة، ولكلّ قطرة سقوط، له دويّ كالرّعد، أسمعه وحدي.
ودارتْ ساقيةُ اللّيل، ومازلت أمدّ فرشاتي لأرسم وجهَ الحياة، ذلك الذي نعرفه ولا نعرفه، نسلّم له أرواحنا طواعية، ونقنع أنفسنا في كلّ مرّة أنّ هذه قصّة مختلفة، لا تشبه سابقيها، ونتوقّع نهاية مختلفة، ونستمتع- بسذاجةٍ- بكلّ تفصيلةٍ وكأنّنا أوّل مَن فعلناها، وكأنّنا لسنا دمًى ولا نسخًا مكرّرة على مسرح الحياة.
لا أحدَ يصدّق النهاية المحفوظة، وهذا هو سرُّ استمرار العرض المذْهل، بلا ملل.
مدّ الفجرُ شعاعه الهزيل بين سحبِ الليل، فوضعت فرشاتي.
لم تكنْ لوحتي اكتملت، لكنْ ها هنا اكتفيت. قرّرت أن أترك تلك المساحاتِ البيضاء لتتحدّث عن نفسها، حتّى لو كذبًا، فحتى الزّيف وجهٌ من وجوه الحياة، وعلى كلّ حال، على العرض أن يستمرّ.
شقّ سكونَ العرض الخاصّ رنينُ الهاتف، رفعته إلى أذني..
ألو.
أهلًا.
كيف حالك؟
بخير.
هل تحتاجين شيئًا؟
لا.
حسنًا، أراكِ لاحقًا.
وأغلق الهاتف.
لقد قام بالواجب، أطلقتُ ضحكةً طويلة تحمل مرارةَ عمرٍ كامل.
وفي الصّباح، نسيت اللّوحة، وأصابعي المرتَعِشة، ومكالمة الفجر، وانطلقتُ إلى عملي.
لم يكنْ شيء هناك، مجرّدُ أرضٍ خالية من أيّ ملمح من ملامح الحياة، ليس بها سوى بضعِ مئاتٍ من البشر، وبعضِ الجدران المزينة، والكثير من الضّوضاء المثيرة للجنون، وآلاف الملفّات.
وهناكَ امتلأ رأسي بحروفٍ تراكبت في أحاديثَ عن تصاعد سعر العُملة، وتعليمات المدير الجديدة، وتفتيش الأسبوع القادم، وانتخابات النّقابة، وفيلم الموسم، وأسعار المانجو، وقانون المرور الجديد.
ليس لديْك الخيارُ حين تهبّ عليك رياح الواقع بعنف، فتستسلم لها، وتهبط هبوطًا اضطراريًّا، ربّما على أرضٍ لا تصلح أبدًا للهبوط، لكنّك ستهبطُ بأيّ شكل في النهاية.
وانتهى اليومُ ككلّ يوم، وعدتُ لمنزلي في المساء، وكان أوّلُ ما فعلته أنْ أضأت زرَّ مرْسمي، وألقيت نظرةً على لوحتي، أبحثُ عن نفسي بها، ربّما أنا هناك، ربّما أنا ذلك الخطّ، أو ظلّه، ربّما لون، أو مساحة بيضاء، أو ما جرَفَه الإعصار، أو الإعصار نفسه.
لا أعرف بالضّبط، ربّما أنا هناك، وربّما أنا لا شيء، فلا شيء هناك.
د. شادن شاهين
رفعتُ شعْري لأعلى بمشبكي الذّهبي، وتلفّعتُ بتلك العباءة البدوية الواسعة زاهيةِ الألوان، فحملتْني من فوْرها إلى قلب الصحراء، حتى استشعرتُ رياحَها الباردة الجافّة تلطمني بوحشية، هكذا كان مِزاجي، ولهُ استسلمت.
لمستُ زرّ إضاءة مرسمي الصّغير، فغشى عيني الضوء الباهر، وكأنني مررتُ عبر أنْبوب فجأةً إلى عالم آخر.
شَرعتُ نافذتي على مصْراعيها، نظرتُ، فخرّتْ عيناي خاشعتين أمام هيبةِ الظلام، ونجمةٍ وحيدة شامخة تبتسم في غموض، وترسل جدائلها الفضيّة بدلال لتطوّق بقعةً من الكون، تحويني وحدي.
شمّرتُ عن ساعدي، والتقطتُ فرشاتي كمجرمٍ على بُعد خطوة من اقتراف جرمِه الأوّل.
ألفيتُ الفرشاةَ ترتعد بين أصابعي، لم أحاول أبدًا السّيطرةَ على تلك الرّعدة، بل بدأتُ أمدّ خطوطي المهتزّة بإصرار، فلا ضيرَ إنْ ظهرتِ الوجوه في لوحتي مزدوجة، ولا ضيْرَ إنْ ظهر الطّريق اثنين.
لا ضيرَ إنْ شبّ على سطح البحيرة حريق، ولا ضيْرَ إن تداخلت مساحاتُ الألوان الصّريحة، فوُلدت بينها مساحاتٌ غامضة، مجهولة النّسب، شائكة المعنى... وهل عالمي إلّا ذا؟!
ورسمتْ رعْداتُ أصابعي إعصارًا، وبلا استئذانٍ انسلّت روحي المتعَبة لتلفّ معه، كان يلفّ ببطء، بطء شديد، يحبسني داخلَه ويدور، لم يبدُ أنّ مشكلتي أنْ أنفكّ من براثن الإعصار؛ إنّما مشكلتي أنه يدور ببطء، فأنتظرُ النهاية ببطء، وذلك فظيعٌ جدًّا في الحقيقة، ليته يدور بسرعة شديدة حتى أفقدَ الوعي، أو أحترقَ داخله، أيّ نهاية ترضيني، المهمّ أن تأتي النهاية... وبسرعة.
هكذا شعرت، ولم تجدْ مشاعري أيَّ صدًى لدى القدر، فبقيتُ أنزف روحي ببطء على ورقةِ بريستول، قطرةً قطرة، ولكلّ قطرة سقوط، له دويّ كالرّعد، أسمعه وحدي.
ودارتْ ساقيةُ اللّيل، ومازلت أمدّ فرشاتي لأرسم وجهَ الحياة، ذلك الذي نعرفه ولا نعرفه، نسلّم له أرواحنا طواعية، ونقنع أنفسنا في كلّ مرّة أنّ هذه قصّة مختلفة، لا تشبه سابقيها، ونتوقّع نهاية مختلفة، ونستمتع- بسذاجةٍ- بكلّ تفصيلةٍ وكأنّنا أوّل مَن فعلناها، وكأنّنا لسنا دمًى ولا نسخًا مكرّرة على مسرح الحياة.
لا أحدَ يصدّق النهاية المحفوظة، وهذا هو سرُّ استمرار العرض المذْهل، بلا ملل.
مدّ الفجرُ شعاعه الهزيل بين سحبِ الليل، فوضعت فرشاتي.
لم تكنْ لوحتي اكتملت، لكنْ ها هنا اكتفيت. قرّرت أن أترك تلك المساحاتِ البيضاء لتتحدّث عن نفسها، حتّى لو كذبًا، فحتى الزّيف وجهٌ من وجوه الحياة، وعلى كلّ حال، على العرض أن يستمرّ.
شقّ سكونَ العرض الخاصّ رنينُ الهاتف، رفعته إلى أذني..
ألو.
أهلًا.
كيف حالك؟
بخير.
هل تحتاجين شيئًا؟
لا.
حسنًا، أراكِ لاحقًا.
وأغلق الهاتف.
لقد قام بالواجب، أطلقتُ ضحكةً طويلة تحمل مرارةَ عمرٍ كامل.
وفي الصّباح، نسيت اللّوحة، وأصابعي المرتَعِشة، ومكالمة الفجر، وانطلقتُ إلى عملي.
لم يكنْ شيء هناك، مجرّدُ أرضٍ خالية من أيّ ملمح من ملامح الحياة، ليس بها سوى بضعِ مئاتٍ من البشر، وبعضِ الجدران المزينة، والكثير من الضّوضاء المثيرة للجنون، وآلاف الملفّات.
وهناكَ امتلأ رأسي بحروفٍ تراكبت في أحاديثَ عن تصاعد سعر العُملة، وتعليمات المدير الجديدة، وتفتيش الأسبوع القادم، وانتخابات النّقابة، وفيلم الموسم، وأسعار المانجو، وقانون المرور الجديد.
ليس لديْك الخيارُ حين تهبّ عليك رياح الواقع بعنف، فتستسلم لها، وتهبط هبوطًا اضطراريًّا، ربّما على أرضٍ لا تصلح أبدًا للهبوط، لكنّك ستهبطُ بأيّ شكل في النهاية.
وانتهى اليومُ ككلّ يوم، وعدتُ لمنزلي في المساء، وكان أوّلُ ما فعلته أنْ أضأت زرَّ مرْسمي، وألقيت نظرةً على لوحتي، أبحثُ عن نفسي بها، ربّما أنا هناك، ربّما أنا ذلك الخطّ، أو ظلّه، ربّما لون، أو مساحة بيضاء، أو ما جرَفَه الإعصار، أو الإعصار نفسه.
لا أعرف بالضّبط، ربّما أنا هناك، وربّما أنا لا شيء، فلا شيء هناك.
د. شادن شاهين