دقائق معدودة تفضّل بها رغم مشاغله، لم أتوقع أن أحظى بها...
- في بيته فقط تبدو الأشياء على حقيقتها
ذلك ما أخبرني به الحاج صالح الفرّاش...
- وماذا أيضا؟
ابتسم..
- عليك أن تكتشف الأمر بنفسك.
ساعتان من المشي السريع، في أزقّة موحشة وطرق غير معبّده، والطقس شديد الحرارة كثيف الرطوبة، ورغم ذلك كنت مستعدا للمشي أكثر، طالما أن فرصة النجاح، أكبر من سابقاتها.
رأيت الرجل يتقدم نحوي، طويلا شديد السمرة، يمسك بيده سبحة، تتحرّك حبّاتها بتؤدة، بينما تنطق شفتاه بكلمات لا أكاد أسمعها...
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
- أخالك تبحث عن منزل الشيخ؟
- نعم
- أجئت مغتسلا؟
- نعم
- راجلا دون سيارة؟
- نعم
- كم قطعت من وقت؟
- قرابة الساعتين
- هل ردّدت ما علّمك الحاج صالح؟
- نعم
- اتبعني بارك الله فيك
كم من الوقت يلزمني للتعرّف على البئر؟ هل أنا مضطر للنزول، أم يكتفي الشيخ بقطرات دون البحر؟!
صغيرة، بسيطة، بطلاء أبيض، ولا أحد بالقرب منها، أدهشني ذلك، توقّعت أن لا أجد موضع قدم، لا أحد سوى رجال جالسين على مقعد خشبي بين نخلتين، يلوحون من بعيد، تطلّعا لي لبرهة وعاودوا حديثهم...
- من هنا بني؟
صحوت على صوت الرجل، تقدّمت إلى الباب، كفّ خشنة على كتفي...
- المرة الأولى هي الأصعب، تحلّى بالعزيمة، ستجد سلّما يفضي إليه...
فتحت الباب فسرى تيّار هوائي مفعم بشذى عجيب. وضعت قدمي على أولى درجات السلّم، وصلني صوته: "سبّوح قدّوس ربّ الملآئكة والروح، رحيم الدنيا ورحيمهما ورحماني".
كم من الوقت استغرقت حتى عبرت درجات السلّم؟ صحوت على وجه أشبه بالمصباح نورا، وعلى عينين مهيبتين تطالعاني بمودّة، وعلى يدين قويّتين ترفعاني عن الأرض.
دخلت الغرفة، كانت صغيرة، في الجدار المقابل للباب، نافذة تنفتح على مشهد جميل، نخلات طوال ثلاث يتشابك سعفهن، وراءهن البحر أزرق هائل، أما في الداخل فلا شيء سوى سجّادة للصلاة، والقرآن الكريم، وكتاب أدعية.
حسبته عملاقا، يعيش في قصر فخم، يحوطه الحرّاس، يكدّس النساء بالعشرات، لماذا لم يخبرني الحاج صالح بشيء عنه؟!
- إنه أقرب إليك ممّا تتصور
- دلّني عليه
- الحرص واجب
- أتخشى أن لا أصون السر؟
- سبحانه وتعالى هو الأعلم بما في الصدور
- امنحني عطفك
- قرأت لك المكتوب أمامي
- لكنك شفيت صدور الكثيرين؟!
- وحده تعالى من يشفي الصدور
- أتيتك باحثا عن حلّ للغز
- وقد أعطيتك مفتاح حلّه
- ولماذا لا تشفي غليلي وتعطيني الإجابة؟
- أنا لا أهب إجابات
- امنحني فرصة ثانية
- حتى يأذن مولاي...
خرجت من الدار، كما دخلت؛ رأسي مثل مرجل يغلي، كان الرجل شديد السمرة، واقفا وراء الباب، أخذ بيدي، كأنني مريض ينتظر زوال أثر المخدّر...
- لم يقل شيئا
- لست مخوّلا الحديث معك
- لكنك تحدّثت...
- ليس بعد دخولك إليه
قطعت الطريق نفسه، بخطوات ثقيلة، تكاد لا تقوى قدماي على حملي. كنت محبطا، أشبه بفلاح خاب أمله في سحابة. لعنت نفسي والناس، وكل شيء قابلته.
نازعتني نفسي إلى الكأس، أمسكت بالجوال وأمرتها بالحضور!. قضيت بقية اليوم وليلته معها ومع المجموعة، كان سعيد ضمنها. يأس، خواء، انصهار حتى الذوبان، والأبواب جميعها موصدة أمامي، ولا بصيص ضوء ينير لي الطريق.
شربت حتى الثمالة، تقيّأت ما شربت، ضحكت حتى امتلأت عينيّ دموعا، عاودتني نوبة السعال، قوية ألقتني إلى الأرض.
كانت تجلس قرب فراشي، حين طلب منها أن تتركنا لوحدنا...
- لماذا تصرّ على تعذيب نفسك؟
- وما شأنك أنت؟
- ألست ابن عمك؟
- وماذا فعلت من أجلي؟!
- عدنا إلى أحاديثك الكريهة؟
- أنت تأكل وتشرب و...
- وتنام وتلعب دون أن تدفع فلسا واحدا!
- أليست هذه هي الحقيقة؟
- أبدا
- ماذا إذن؟
- الحقيقة أنك لا تطاق، أعمى لا تبصر، ولا تفقه حديثا
- ماذا تقول؟
- لو كنت تبصر، لأدركت أنك لا شيء من دوني، أنظر حواليك، ستجد أنني من يدير كل شيء، فيما أنت عاجز عن تغيير ملابسك.
واقع صعب، لكنه حقيقة لا أستطيع مواجهتها، لا أزال بحاجة إلى عكّاز أتوكأ عليه! نسر أعمى، لا يمكنه ترك عشّه، مهيض الجناح.
أيتها العزيمة، هبيني خيطا من ردائك، أنسج منه ثوبا يقيني التوهان، لا تتركيني أدفع لوحدي ثمن ماض لست سوى ظل فيه. تتبدّى أمامي أشكال شتى، ملامح وجهه بعيدة بعد قلبي عن الراحة، لكنها تدفع بي لاقتحام باب لا رتاج له. عيناه تلتقطان كل شاردة وواردة، لم يحدث يوما أن غفل عن شيء، كان يدير شركات عدّة باقتدار، وأملاكا يجهد في زيادتها، لكنه كان بائسا، أنا الذي أشبه خيال المآتة، خرجت إلى الدنيا ضعيف الجسم والعقل والإرادة لا أصلح لشيء. هو من زرع هذه الشجرة الملعونة وتعهدها بالسقي، حتى أثمرت الحنظل.
بعيد بعد المشرق عن المغرب، أن يتراءى لي، ما كان ينكشف له، كما كان يزعم. كان يوقظني في جوف الليل، ويأخذ بيدي إلى المزرعة، شتاء وصيفا، تتّجه نظراته إلى السماء، يتناوب عليه البكاء والضحك، فيما أنا واقف بين النوم واليقظة...
طرقات على الباب، أيقظتني، تجاهلتها، خمّنت أنه سعيد، يتزلّف كعادته، لكنها عادت يصحبها صوت خادمي أنس:
- المعذرة.. هناك من يلحّ على لقائك؟
- لا رغبة لي بلقاء أحد
- آسف.. لكنه هنا خلف الباب
انفتح الباب بقوة...
- حاولت أن أمنعه، لكنه...
- إذهب
خرج أنس، ووقف أمامي الحاج صالح، كان لا يزال بلباس العمل، دعوته إلى الجلوس، فجلس فوق الرخام...
- إسمع... لقد استدعاني الشيخ
تنبهت حواسي بشكل أشعرني بالألم...
- وما كان يريد؟
- حمّلني رسالة عاجله لك
- ما هي؟
- يقول إن فرصتك الأخيرة ستأتيك بعد يومين
- فرصتي الأخيرة؟!
- نعم.. ويحذرك ضياعها
- ماذا يعني؟
- لا علم لي.. إنه يوصيك بانتهازها، والسير حتى نهاية الطريق
- كنت بحضرته أمس...
- أنت لا تعرف الشيخ، إنه لا يتحدث من تلقاء نفسه
أمضيت اليومين أفكّر في رسالة الشيخ، امتنعت عن الخمر والنساء، واكتفيت بالتدخين، كانت أفكاري أشبه بالسير وسط الضباب، كثيفة موغلة في القدم، مليئة بالأعشاب الضارّة، والروائح النتنة.
بكيت؛ عزّت علي نفسي، واقتفائها شيئا لا أثر له، لماذا أنا بالذات أحمل وزره؟ قرّ عزمي على خوض التجربة كأمل أخير، لن أتوانى عن فعل أي شيء، لكن إن فشلت هذه الفرصة أيضا، فاليذهب كل شيء إلى الجحيم، علي بعدها أن أقتطع من جسمي ليأكل كلبي!...
استيقظت صباحا على صوتها، كانت في أبهى حللها، جميلة مثل صورة زيتية، لا أخالني انبهرت بها يوما كما أنا الآن، لكن شيئا لامس قلبي، أدار رأسي عنها. لم يحدث يوما أن أدرت برأسي عنها، تطلّعت إلى المرآة بطرف خفي، فوجدتها تطالعني مشدوهة، سارعت بترك المكان.
انفتح الباب ثانية، دون استئذان، كان الحاج صالح يقف عنده مرتديا ثوبا ناصع البياض، بيده سبحة. إنطلقت بنا سيارة أجرة... سأحظى برؤية الشيح مجددا، فأيّ قدر بانتظاري؟ لقد ألقيت بدلوي في البئر في المرات السابقة، ولم يعد لديّ ما ألقيه، اللهم إلا نفسي...
- إنزل بني
- ألن تذهب معي؟
- لن ترى الشيخ
- ماذا إذن؟
- لا تخشى شيئا، أستودعك الله
بداية الطريق أم نهايته؟ غير أن ما يسلّيني أنني لم أقف ساكنا، بحثت طوال سنوات خمس، عن معنى لم يزل يموج في قلبي. أنا لست خيال مآتة! ما أزال أبحث عن بئر أخرى، والسحابة إما أن تهطل فأرتاح، أو تمتنع، وعندها سأركن إلى الظل!.
كان الرجل شديد السمرة نفسه، واقفا في ظلّ النخلة، يحمل طفلا رضيعا، يرفعه حينا، وحينا يداعب وجهه، ويشمّه. أشار إلي، وما أن كنت إلى جانبه، حتى ناولني الرضيع، أمسكت به فكأنني فتحت جرحا غائرا في قلبي؛ هاتان عينان تشبهان لؤلؤتين مخبّأتين في الجانب الأيسر من الصدر، تطرفان فأشعر وكأنّي في بحر لجّي، يلوح لي شطّ على البعد، لكن ذراعيّ لا تسعفاني.
أخرج من جيبه مفتاحا ناولني إياه، وهو يستلم الرضيع. وأشار إلى بيت صغير دون سور...
- ستقيم هناك في تلك الدار
بن الجاه والمال، يرفل في ثياب العز، ويغيّر سيّارته كل شهر، لم يشاهد سوى القصور والفلل الفخمة، والنساء المتبرّجات، قدّر له الدخول في تجربة جديدة وعالم مختلف، فيه بيوت من طين، ورجال يخرجون من البحر بأيديهم الأسماك، ونساء لا يبدو منهنّ سوى أعينهن، وأطفال حفاة يتسلّقون النخيل، يتطلعون إليه بفضول.
- في بيته فقط تبدو الأشياء على حقيقتها
ذلك ما أخبرني به الحاج صالح الفرّاش...
- وماذا أيضا؟
ابتسم..
- عليك أن تكتشف الأمر بنفسك.
ساعتان من المشي السريع، في أزقّة موحشة وطرق غير معبّده، والطقس شديد الحرارة كثيف الرطوبة، ورغم ذلك كنت مستعدا للمشي أكثر، طالما أن فرصة النجاح، أكبر من سابقاتها.
رأيت الرجل يتقدم نحوي، طويلا شديد السمرة، يمسك بيده سبحة، تتحرّك حبّاتها بتؤدة، بينما تنطق شفتاه بكلمات لا أكاد أسمعها...
- السلام عليكم
- وعليكم السلام
- أخالك تبحث عن منزل الشيخ؟
- نعم
- أجئت مغتسلا؟
- نعم
- راجلا دون سيارة؟
- نعم
- كم قطعت من وقت؟
- قرابة الساعتين
- هل ردّدت ما علّمك الحاج صالح؟
- نعم
- اتبعني بارك الله فيك
كم من الوقت يلزمني للتعرّف على البئر؟ هل أنا مضطر للنزول، أم يكتفي الشيخ بقطرات دون البحر؟!
صغيرة، بسيطة، بطلاء أبيض، ولا أحد بالقرب منها، أدهشني ذلك، توقّعت أن لا أجد موضع قدم، لا أحد سوى رجال جالسين على مقعد خشبي بين نخلتين، يلوحون من بعيد، تطلّعا لي لبرهة وعاودوا حديثهم...
- من هنا بني؟
صحوت على صوت الرجل، تقدّمت إلى الباب، كفّ خشنة على كتفي...
- المرة الأولى هي الأصعب، تحلّى بالعزيمة، ستجد سلّما يفضي إليه...
فتحت الباب فسرى تيّار هوائي مفعم بشذى عجيب. وضعت قدمي على أولى درجات السلّم، وصلني صوته: "سبّوح قدّوس ربّ الملآئكة والروح، رحيم الدنيا ورحيمهما ورحماني".
كم من الوقت استغرقت حتى عبرت درجات السلّم؟ صحوت على وجه أشبه بالمصباح نورا، وعلى عينين مهيبتين تطالعاني بمودّة، وعلى يدين قويّتين ترفعاني عن الأرض.
دخلت الغرفة، كانت صغيرة، في الجدار المقابل للباب، نافذة تنفتح على مشهد جميل، نخلات طوال ثلاث يتشابك سعفهن، وراءهن البحر أزرق هائل، أما في الداخل فلا شيء سوى سجّادة للصلاة، والقرآن الكريم، وكتاب أدعية.
حسبته عملاقا، يعيش في قصر فخم، يحوطه الحرّاس، يكدّس النساء بالعشرات، لماذا لم يخبرني الحاج صالح بشيء عنه؟!
- إنه أقرب إليك ممّا تتصور
- دلّني عليه
- الحرص واجب
- أتخشى أن لا أصون السر؟
- سبحانه وتعالى هو الأعلم بما في الصدور
- امنحني عطفك
- قرأت لك المكتوب أمامي
- لكنك شفيت صدور الكثيرين؟!
- وحده تعالى من يشفي الصدور
- أتيتك باحثا عن حلّ للغز
- وقد أعطيتك مفتاح حلّه
- ولماذا لا تشفي غليلي وتعطيني الإجابة؟
- أنا لا أهب إجابات
- امنحني فرصة ثانية
- حتى يأذن مولاي...
خرجت من الدار، كما دخلت؛ رأسي مثل مرجل يغلي، كان الرجل شديد السمرة، واقفا وراء الباب، أخذ بيدي، كأنني مريض ينتظر زوال أثر المخدّر...
- لم يقل شيئا
- لست مخوّلا الحديث معك
- لكنك تحدّثت...
- ليس بعد دخولك إليه
قطعت الطريق نفسه، بخطوات ثقيلة، تكاد لا تقوى قدماي على حملي. كنت محبطا، أشبه بفلاح خاب أمله في سحابة. لعنت نفسي والناس، وكل شيء قابلته.
نازعتني نفسي إلى الكأس، أمسكت بالجوال وأمرتها بالحضور!. قضيت بقية اليوم وليلته معها ومع المجموعة، كان سعيد ضمنها. يأس، خواء، انصهار حتى الذوبان، والأبواب جميعها موصدة أمامي، ولا بصيص ضوء ينير لي الطريق.
شربت حتى الثمالة، تقيّأت ما شربت، ضحكت حتى امتلأت عينيّ دموعا، عاودتني نوبة السعال، قوية ألقتني إلى الأرض.
كانت تجلس قرب فراشي، حين طلب منها أن تتركنا لوحدنا...
- لماذا تصرّ على تعذيب نفسك؟
- وما شأنك أنت؟
- ألست ابن عمك؟
- وماذا فعلت من أجلي؟!
- عدنا إلى أحاديثك الكريهة؟
- أنت تأكل وتشرب و...
- وتنام وتلعب دون أن تدفع فلسا واحدا!
- أليست هذه هي الحقيقة؟
- أبدا
- ماذا إذن؟
- الحقيقة أنك لا تطاق، أعمى لا تبصر، ولا تفقه حديثا
- ماذا تقول؟
- لو كنت تبصر، لأدركت أنك لا شيء من دوني، أنظر حواليك، ستجد أنني من يدير كل شيء، فيما أنت عاجز عن تغيير ملابسك.
واقع صعب، لكنه حقيقة لا أستطيع مواجهتها، لا أزال بحاجة إلى عكّاز أتوكأ عليه! نسر أعمى، لا يمكنه ترك عشّه، مهيض الجناح.
أيتها العزيمة، هبيني خيطا من ردائك، أنسج منه ثوبا يقيني التوهان، لا تتركيني أدفع لوحدي ثمن ماض لست سوى ظل فيه. تتبدّى أمامي أشكال شتى، ملامح وجهه بعيدة بعد قلبي عن الراحة، لكنها تدفع بي لاقتحام باب لا رتاج له. عيناه تلتقطان كل شاردة وواردة، لم يحدث يوما أن غفل عن شيء، كان يدير شركات عدّة باقتدار، وأملاكا يجهد في زيادتها، لكنه كان بائسا، أنا الذي أشبه خيال المآتة، خرجت إلى الدنيا ضعيف الجسم والعقل والإرادة لا أصلح لشيء. هو من زرع هذه الشجرة الملعونة وتعهدها بالسقي، حتى أثمرت الحنظل.
بعيد بعد المشرق عن المغرب، أن يتراءى لي، ما كان ينكشف له، كما كان يزعم. كان يوقظني في جوف الليل، ويأخذ بيدي إلى المزرعة، شتاء وصيفا، تتّجه نظراته إلى السماء، يتناوب عليه البكاء والضحك، فيما أنا واقف بين النوم واليقظة...
طرقات على الباب، أيقظتني، تجاهلتها، خمّنت أنه سعيد، يتزلّف كعادته، لكنها عادت يصحبها صوت خادمي أنس:
- المعذرة.. هناك من يلحّ على لقائك؟
- لا رغبة لي بلقاء أحد
- آسف.. لكنه هنا خلف الباب
انفتح الباب بقوة...
- حاولت أن أمنعه، لكنه...
- إذهب
خرج أنس، ووقف أمامي الحاج صالح، كان لا يزال بلباس العمل، دعوته إلى الجلوس، فجلس فوق الرخام...
- إسمع... لقد استدعاني الشيخ
تنبهت حواسي بشكل أشعرني بالألم...
- وما كان يريد؟
- حمّلني رسالة عاجله لك
- ما هي؟
- يقول إن فرصتك الأخيرة ستأتيك بعد يومين
- فرصتي الأخيرة؟!
- نعم.. ويحذرك ضياعها
- ماذا يعني؟
- لا علم لي.. إنه يوصيك بانتهازها، والسير حتى نهاية الطريق
- كنت بحضرته أمس...
- أنت لا تعرف الشيخ، إنه لا يتحدث من تلقاء نفسه
أمضيت اليومين أفكّر في رسالة الشيخ، امتنعت عن الخمر والنساء، واكتفيت بالتدخين، كانت أفكاري أشبه بالسير وسط الضباب، كثيفة موغلة في القدم، مليئة بالأعشاب الضارّة، والروائح النتنة.
بكيت؛ عزّت علي نفسي، واقتفائها شيئا لا أثر له، لماذا أنا بالذات أحمل وزره؟ قرّ عزمي على خوض التجربة كأمل أخير، لن أتوانى عن فعل أي شيء، لكن إن فشلت هذه الفرصة أيضا، فاليذهب كل شيء إلى الجحيم، علي بعدها أن أقتطع من جسمي ليأكل كلبي!...
استيقظت صباحا على صوتها، كانت في أبهى حللها، جميلة مثل صورة زيتية، لا أخالني انبهرت بها يوما كما أنا الآن، لكن شيئا لامس قلبي، أدار رأسي عنها. لم يحدث يوما أن أدرت برأسي عنها، تطلّعت إلى المرآة بطرف خفي، فوجدتها تطالعني مشدوهة، سارعت بترك المكان.
انفتح الباب ثانية، دون استئذان، كان الحاج صالح يقف عنده مرتديا ثوبا ناصع البياض، بيده سبحة. إنطلقت بنا سيارة أجرة... سأحظى برؤية الشيح مجددا، فأيّ قدر بانتظاري؟ لقد ألقيت بدلوي في البئر في المرات السابقة، ولم يعد لديّ ما ألقيه، اللهم إلا نفسي...
- إنزل بني
- ألن تذهب معي؟
- لن ترى الشيخ
- ماذا إذن؟
- لا تخشى شيئا، أستودعك الله
بداية الطريق أم نهايته؟ غير أن ما يسلّيني أنني لم أقف ساكنا، بحثت طوال سنوات خمس، عن معنى لم يزل يموج في قلبي. أنا لست خيال مآتة! ما أزال أبحث عن بئر أخرى، والسحابة إما أن تهطل فأرتاح، أو تمتنع، وعندها سأركن إلى الظل!.
كان الرجل شديد السمرة نفسه، واقفا في ظلّ النخلة، يحمل طفلا رضيعا، يرفعه حينا، وحينا يداعب وجهه، ويشمّه. أشار إلي، وما أن كنت إلى جانبه، حتى ناولني الرضيع، أمسكت به فكأنني فتحت جرحا غائرا في قلبي؛ هاتان عينان تشبهان لؤلؤتين مخبّأتين في الجانب الأيسر من الصدر، تطرفان فأشعر وكأنّي في بحر لجّي، يلوح لي شطّ على البعد، لكن ذراعيّ لا تسعفاني.
أخرج من جيبه مفتاحا ناولني إياه، وهو يستلم الرضيع. وأشار إلى بيت صغير دون سور...
- ستقيم هناك في تلك الدار
بن الجاه والمال، يرفل في ثياب العز، ويغيّر سيّارته كل شهر، لم يشاهد سوى القصور والفلل الفخمة، والنساء المتبرّجات، قدّر له الدخول في تجربة جديدة وعالم مختلف، فيه بيوت من طين، ورجال يخرجون من البحر بأيديهم الأسماك، ونساء لا يبدو منهنّ سوى أعينهن، وأطفال حفاة يتسلّقون النخيل، يتطلعون إليه بفضول.