لم يبقَ إلّا أيامٌ قلائل ويكون لزامًا عليَّ أنْ أُنتزع من جذوري وعالمي، ذلك الوحيد الذي أعرفه، مبنى دار الأيتام العتيق ذي السّور الحجري الآيلِ للسّقوط، واللافتة التي اختفتْ أغلبُ حروفها تحت غبار السنين العجاف.
آنَ الأوان أنْ أنْفتح على العالم، ذلك الغريب، الذي أخشاه.
لطالما حدّقت بفضول وعجبٍ بشاشةِ التّلفاز القديم المعلق في الصالة الزّرقاء الضيّقة بالدّار. شاشة بلا ألوان، لكنّ خيالي طالما جمح بعيدًا ليلوّن بفرشاته جدرانَ القصور وموائدَ الطعام العامرة بكلّ ما لا أعرفه، فكنتُ أقضم بأسناني الصّغيرة قضمات سريّة، محاولًا تخيّل الطعم المجهول في حلقي الجاف.
أمّا حين تحمل لي وجوه أناس مساكين، ابتساماتهم تشبه ابتساماتي، الزّيف نفسه، المرارة نفسها، التّناقض نفسه، مع لوعةٍ ما بالعيون، فكنت أتخيّلهم يسيرون مثلي بحذرٍ كالبهلوانات، على هامش الحياة، فالطريق في ذلك العالم لا يتّسع حتمًا للجميع.
الشّيء الوحيد الذي عجزتُ عن تخيّل طعمه، كان حضن الأمّ، لكن الأمر بدا لي كما لو كان لذلك الحضن سحرٌ ما، يأخذك أخذًا، يغمسُك في نهرٍ من نور، ثمّ يعيدك طفلًا.
لا بأس، فكثيرون عاشوا وماتوا مثلي دونَ أن يذوقوا- قطّ- ذلك الطعم.
إنّي أخاف العالم كثيرًا، لكنّ معضلتي الكبرى ليست كلّ ما ذكرت، بل هي أذني اليسرى.
فقد أكلَها الكلب.
نعم، هذا ما حدثَ بالضّبط. ألقتني المرأةُ التي حملت بي في كومٍ من القمامة يومَ ميلادي، وفرّت هاربة، فكنت لقمةً سائغة بين فكّي كلب ضالّ.
كلّ ذلك مقيّد في ملفّي بالدار، فقد بدأ تاريخي بعضّة كلب.
ليتَه أكل قلبي كيْلا أضطرّ إلى خوض تلك الحياة البائسة، أسيرُ خائفًا خجلًا، وجنبي الأيسر يلازم جدرانَ المدينة على الدوام.
لا أعرف ماذا سأقول حين أخرجُ من هنا، إذا سألني أحدُهم عن أذني، فماذا أقول؟ هل تراهم يصدّقونني لو ادّعيت أنها قطعت بسكّين أثناء شجارٍ قديم؟ لا أظنّ هذا، فبقاياها غيرُ المنتظمة والنّدبات العشوائية لا تنبئ بتاتًا عن جرحٍ قطعي، ستقفزُ صورة الكلب إلى أذهانهم حتمًا، ستفضح العضّةُ تاريخي.
ربّما أمْكنني تحمّل فقري وبؤسي ويتمي، فكلّ شيء قابل للتحمّل أو التّجاهل أو التغيير، إلّا أذني، تلك هي المشكلة.
وضعتُ جنبي المنهك على فراشي الجامد وأنا أحاول تجاهلَ الأمر، حتى غرقتُ في نوم عميق.
حلمتُ أنّني تائه في صحراء حمراءَ قانية، تنتشر فيها شجيْرات شوكٍ سوداء قصيرة، وتزحف بها أفاعٍ سوداء نحيلة، فحيحُها عال.
من بعيد، لاح شبحُ شمسٍ باهتة تختفي بين سحبٍ كثيفة، وعلا عواءُ كلب ما، فرُحْت أوسّع الخطى لأبتعد وجلًا، وكلّما ابتعدت علا الصوت أكثر، فأظنّ أنني أسيرُ بالاتّجاه الخاطئ، فأجري بسرعةٍ بالاتّجاه المعاكس، فيعلو الصوتُ أكثر، فأتوقّف، ثمّ أختار اتجاهًا جديدًا فيعلو الصوت أكثر، فأجري كاتمًا صراخي في حلقي.
هببتُ من فراشي فزعًا, وحبّات العرق الباردة تتفصّد على جبيني.
كانت السّاعة تشير إلى الخامسة صباحًا، مازال الكلّ نيامًا بالدار، لا أحدَ غيري الآن على قيْد اليقظة.
نزلتُ بهدوءٍ من فراشي وتسلّلت إلى الحمّام، وقفت أمام ما بقيَ من المرآة القديمة، وحدّقت بجانب وجهي الأيسر، قفز في عمق المرآة كلبٌ أسود، أغمضتُ عينيَّ بقوّة, وقفزت إلى الخلف بتلقائيّة وأنا ألوّح بذراعي، التقطتُ أنفاسي المتلاحقة وأنا أسندُ ظهري إلى الحائط, ومازالت عيناي معلّقة بالمرآة، وفجأة دهمتني فكرة، إذا سألني أحدُهم عن أذني اليسرى، سأخبره أنّها.... عضّة أمّ.
د. شادن شاهين
آنَ الأوان أنْ أنْفتح على العالم، ذلك الغريب، الذي أخشاه.
لطالما حدّقت بفضول وعجبٍ بشاشةِ التّلفاز القديم المعلق في الصالة الزّرقاء الضيّقة بالدّار. شاشة بلا ألوان، لكنّ خيالي طالما جمح بعيدًا ليلوّن بفرشاته جدرانَ القصور وموائدَ الطعام العامرة بكلّ ما لا أعرفه، فكنتُ أقضم بأسناني الصّغيرة قضمات سريّة، محاولًا تخيّل الطعم المجهول في حلقي الجاف.
أمّا حين تحمل لي وجوه أناس مساكين، ابتساماتهم تشبه ابتساماتي، الزّيف نفسه، المرارة نفسها، التّناقض نفسه، مع لوعةٍ ما بالعيون، فكنت أتخيّلهم يسيرون مثلي بحذرٍ كالبهلوانات، على هامش الحياة، فالطريق في ذلك العالم لا يتّسع حتمًا للجميع.
الشّيء الوحيد الذي عجزتُ عن تخيّل طعمه، كان حضن الأمّ، لكن الأمر بدا لي كما لو كان لذلك الحضن سحرٌ ما، يأخذك أخذًا، يغمسُك في نهرٍ من نور، ثمّ يعيدك طفلًا.
لا بأس، فكثيرون عاشوا وماتوا مثلي دونَ أن يذوقوا- قطّ- ذلك الطعم.
إنّي أخاف العالم كثيرًا، لكنّ معضلتي الكبرى ليست كلّ ما ذكرت، بل هي أذني اليسرى.
فقد أكلَها الكلب.
نعم، هذا ما حدثَ بالضّبط. ألقتني المرأةُ التي حملت بي في كومٍ من القمامة يومَ ميلادي، وفرّت هاربة، فكنت لقمةً سائغة بين فكّي كلب ضالّ.
كلّ ذلك مقيّد في ملفّي بالدار، فقد بدأ تاريخي بعضّة كلب.
ليتَه أكل قلبي كيْلا أضطرّ إلى خوض تلك الحياة البائسة، أسيرُ خائفًا خجلًا، وجنبي الأيسر يلازم جدرانَ المدينة على الدوام.
لا أعرف ماذا سأقول حين أخرجُ من هنا، إذا سألني أحدُهم عن أذني، فماذا أقول؟ هل تراهم يصدّقونني لو ادّعيت أنها قطعت بسكّين أثناء شجارٍ قديم؟ لا أظنّ هذا، فبقاياها غيرُ المنتظمة والنّدبات العشوائية لا تنبئ بتاتًا عن جرحٍ قطعي، ستقفزُ صورة الكلب إلى أذهانهم حتمًا، ستفضح العضّةُ تاريخي.
ربّما أمْكنني تحمّل فقري وبؤسي ويتمي، فكلّ شيء قابل للتحمّل أو التّجاهل أو التغيير، إلّا أذني، تلك هي المشكلة.
وضعتُ جنبي المنهك على فراشي الجامد وأنا أحاول تجاهلَ الأمر، حتى غرقتُ في نوم عميق.
حلمتُ أنّني تائه في صحراء حمراءَ قانية، تنتشر فيها شجيْرات شوكٍ سوداء قصيرة، وتزحف بها أفاعٍ سوداء نحيلة، فحيحُها عال.
من بعيد، لاح شبحُ شمسٍ باهتة تختفي بين سحبٍ كثيفة، وعلا عواءُ كلب ما، فرُحْت أوسّع الخطى لأبتعد وجلًا، وكلّما ابتعدت علا الصوت أكثر، فأظنّ أنني أسيرُ بالاتّجاه الخاطئ، فأجري بسرعةٍ بالاتّجاه المعاكس، فيعلو الصوتُ أكثر، فأتوقّف، ثمّ أختار اتجاهًا جديدًا فيعلو الصوت أكثر، فأجري كاتمًا صراخي في حلقي.
هببتُ من فراشي فزعًا, وحبّات العرق الباردة تتفصّد على جبيني.
كانت السّاعة تشير إلى الخامسة صباحًا، مازال الكلّ نيامًا بالدار، لا أحدَ غيري الآن على قيْد اليقظة.
نزلتُ بهدوءٍ من فراشي وتسلّلت إلى الحمّام، وقفت أمام ما بقيَ من المرآة القديمة، وحدّقت بجانب وجهي الأيسر، قفز في عمق المرآة كلبٌ أسود، أغمضتُ عينيَّ بقوّة, وقفزت إلى الخلف بتلقائيّة وأنا ألوّح بذراعي، التقطتُ أنفاسي المتلاحقة وأنا أسندُ ظهري إلى الحائط, ومازالت عيناي معلّقة بالمرآة، وفجأة دهمتني فكرة، إذا سألني أحدُهم عن أذني اليسرى، سأخبره أنّها.... عضّة أمّ.
د. شادن شاهين