د. علي خليفة - ابن دانيال الكحَّال وخيال الظل

ابن دانيال الكَحَّال هو شمس الدين محمد بن يوسف بن معتوق الخُزاعي الموصلي، وقد لُقِّبَ بالشيخ الحكيم، ولُقِّب أيضًا بالكحال؛ لكونه كان يعمل فترة طويلة من حياته في كحالة العيون.
وقد ولد ابن دانيال في الموصل بالعراق سنة 647هـ، وسافر إلى مصر بعد أن غزا التتار بغداد، ودمروا فيها حضارة عظيمة، وكان سفره إلى مصر سنة 665 هـ، وسنه آنذاك تسعة عشر عامًا.
وفتح ابن دانيال في باب الفتوح بالقاهرة دكانًا لعلاج مرضى العيون، ومن الواضح أنه لم يكن يربح كثيرًا من وراء هذه المهنة، كما
أنه لم يكن في هذا الوقت المبكر الذي وفد فيه على مصر مشهورًا بشعره، وقد عبر ابن دانيال في بعض شعره عن صعوبة عيشه في ذلك الوقت، وضيق حاله، كقوله:
يا سائلي عن حرفتي في الورى
وا ضيعتي فيهم وإفلاسي
ما حال من درهم إنفاقه
يأخذُهُ من أعين الناسِ
وأيضًا يقول في هذا الشأن معبرًا عن شدة حاجته وإفلاسه:
ما عاينت عيناي في عطلتي
أدبر من حظي ومن بختي
قد بعتُ عبدي وحماري وقد
أصبحتُ لا فوقي ولا تحتي
ويقول أيضًا:
قد عقلنا والعقل أي وثاق
وصبرنا والصبر مُرُّ المذاقِ
كل من كان فاضلًا كان مثلي
فاضلًا عند قسمة الأرزاقِ
ومن الواضح أن ابن دانيال قد حَسُنَ حاله بعد ذلك، حين انتشر أمره كشاعر، فصار يمدح بعض الأعيان وكبار رجال الدولة، ويحصل على عطاياهم، وفي هذا الصدد يُذْكَرُ أن ابن دانيال قد ألف ديوان شعر كبيرًا، ولكن لم يصل إلينا منه غير قصائد ومقطعات وأبيات قليلة،
وقد وصف بعض القدماء شعره بالجودة.
وكانت النقلة الأهم في حياة ابن دانيال حين احترف خيال الظل، وصار يكتب بعض التمثيليات الظلية، ويقوم هو نفسه بتأليف الأغاني والموسيقى لها، وكذلك كان يقوم بتصميم عرائسها الظلية، وأيضًا كان يقوم بعرض هذه المسرحيات بنفسه، وأحيانًا بمساعدة آخرين له في ذلك الأمر.
واشتهر ابن دانيال بجودة عروضه الظلية، وما بها من تمثيل وغناء وهزل، فأُعجب بها أبناء الشعب المصري، ومن كان يعيش معهم من أفراد من جاليات من بلاد عربية أخرى، وكذلك رغب كثير من كبار رجال الدولة والسراة في مشاهدة عروض ابن دانيال الظلية، وكان ابن دانيال يذهب إليهم في قصورهم حاملًا معه مكونات مسرحه الظلي، وكان يقدم بعض هذه التمثيليات في قصورهم، وأغلب الظن أنه صار له مساعدون في ذلك الوقت يساعدونه في تقديم هذه التمثيليات الظلية.
وحين اشتهر ابن دانيال كشاعر كبير، ومقدم لعروض خيال الظل حَسُنَ حاله جدًّا، وأغلق محل الكحالة، واكتفى بالتعيش على مواهبه كشاعر ومبدع وعارض لتمثيليات خيال الظل.
وقد ألف ابن دانيال عددًا كبيرًا من البابات - وهي التمثيليات
الظلية - ولكن لم يصل إلينا غير ثلاث بابات منها، وهي بابة "طيف الخيال" أو "الأمير وصال"، وبابة "عجيب وغريب"، وبابة "المُتَيَّمِ".
ونرى ابن دانيال في باباته يصور المجتمع المصري خير تصوير
في القرن السابع الهجري، ويهتم فيها - على وجه الخصوص - بعرض أصحاب الحرف والصناع، وغيرهم من بسطاء الناس، ويصور جوانب من حياتهم، وبعض معاناتهم، بلغة فصيحة ممتزجة ببعض الألفاظ العامية، وكان أحيانًا يكثر من نقل بعض الألفاظ العامية في بعض باباته بغرض نقل الواقع، ومن أجل إضحاك مشاهدي هذه البابات.
وحرصًا من ابن دانيال على نقل واقع مجتمعه وإضحاك مشاهدي باباته كان أيضًا يعرض بعض الأسماء الطريفة لبعض الشخصيات فيها، وهي بلا شك منقولة من واقعه، كما كان يستعين في إضحاك الناس الذين يشاهدون باباته الظلية على عناصر كوميدية أخرى، ومنها التورية، و"القافية"،والرسم الكاريكاتوري لبعض الشخصيات، كالخاطبة المدلسة في بابة "طيف الخيال"، والعروسة الشديدة القبح في تلك البابة نفسها.
وكان ابن دانيال يمزج في باباته بين الشعر والنثر، وكان نثره يغلب عليه السجع، مثل أسلوب المقامة.
وأما عن أسلوب البابة- كما صاغها ابن دانيال الكحَّال - فإننا نراها تبدأ على لسان الحازق - وهو من يقوم بتلوين صوته بما يتناسب مع كل شخصية من شخصيات البابة - أو الريس - وهو المشرف على عرض خيال الظل، ويشبه المخرج في عصرنا - بحمد الله والصلاة على النبي ، ثم نستمع للحازق - أو الريس - يتكلم باسم مؤلف البابة، ويمتدح نفسه، وبراعته في تأليف التمثيليات الظلية- وهذا يشبه ما كان يقوم به أرسطوفان في مسرحياته الكوميدية، وبعض كتاب الكوميديا الرومانيين في مسرحياتهم، مثل: بلاوتوس وتيرانس - وبعد ذلك يبدأ الحدث أو تصوير المواقف التي قد يصعب أن يجمعها حدث واحد، كما نرى هذا في بابة "عجيب وغريب"، وغالبًا ما تنتهي البابة بتعبير بطلها - أو أبطالها - بالرغبة في التوبة، والشعور بالندم على المعاصي، واستغفار الله منها.
وبابة "طيف الخيال" أو "الأمير وصال" هي أشهر بابات ابن دانيال، وفيها يعرض ابن دانيال للأمير وصال الذي أصابه فقر شديد، واقترحت عليه خاطبة مدلسة أن يتزوج ليحسن حاله، وأغرته بمعسول كلامها أنها ستزوجه من فتاة جميلة، فوافق على الزواج من تلك العروس التي وصفتها له، ويفاجأ الأمير وصال في ليلة زفافه من هذه العروس أنها شديدة القبح، وهنا كال لها السباب وللخاطبة التي دلست عليه وأغرته بالزواج منها.
وفي نهاية هذه البابة يعتري الأمير وصال شعور شديد بالرغبة
في التوبة، فيستغفر الله من ذنوبه، ويعزم على حج بيت الله العتيق.
وبابة "عجيب وغريب" هي عبارة عن مجموعة من المواقف يعرض فيها ابن دانيال كثيرًا من أصحاب الحرف البسيطة في عصره، وأكثرهم ممن كانوا يتجولون في شوارع مصر، ويحاولون الحصول على الرزق البسيط من الناس من وراء أعمالهم هذه، ومنهم القرداتي، والمنجم، والمشعوذ، واللاعب بالديوك، وغيرهم.
ومَنْ تحدث عنهم ابن دانيال في بابة "عجيب وغريب" من أصحاب الحرف المختلفة - يصل عددهم لسبعة وعشرين شخصًا، وهم يعدون من بني ساسان الذين كتب بديع الزمان الهمذاني عنهم بعض مقاماته، وأظهر طائفة كبيرة منهم في المقامة "الرُّصافية".
ولا شك أن هذه البابة تعد وثيقة حية على حال بعض أصحاب الحرف البسيطة الذين كانوا يتجولون في شوارع مصر، وكان أكثرهم يقدم حرفته، ويحاول أن يغري الناس بها، وهي تدخل ضمن فنون الفرجة عند العرب.
وتتشابه هذه البابة أيضًا مع مسرحية "سوق بارثليميو" للكاتب الإنجليزي بن جونسون، فهذه المسرحية تعرض هي أيضًا عدةشخصيات من أصحاب الحرف البسيطة الذين يقدم أكثرهم جوانب من الفرجة لمن يشاهدهم.
وأما بابة "المتيم" فإنها تختلف عن البابتين الأخريين بكثرة ذكر المجون والتهتك فيها، كما أن فيها شعرًا ضعيفًا لا يتناسب مع شاعرية ابن دانيال الكحال الكبيرة؛ ولهذا فقد شك بعض الباحثين والنقاد
في صحة نسبة هذه البابة لابن دانيال.
وقد تكون هذه البابة بالفعل مدسوسة على ابن دانيال، ولكن الاحتمال الأكبر هو أن تكون هذه البابة قد تدخل بعمل تعديلات كثيرة بها كثير من المهتمين بفن خيال الظل حين تقديمهم لها بعد وفاة ابن دانيال، فظهرت بهذه الصورة الغريبة من وجود شعر ركيك بها، ومجون كثير فيها.
ولا بد هنا أن نقول: إن كثرة المجون في بابات ابن دانيال كانتتناسب ذلك العصر الذي كُتِبَتْ فيه تلك البابات، فكان الناس يضحكون كثيرًا من تلك العروض الظلية التي يكثر فيها الحديث عن المجون وأمور الجنس، ولم يكن كاتب المسرحيات الظلية يجد حرجًا
في ذلك؛ لأن حضور هذه العروض الظلية كان مقصورًا على الرجال، فقد كانت المرأة قلما تخرج من بيتها في ذلك العصر.
وملاحظة أخرى أذكرها هنا أن النصوص الظلية التي وصلتنا عن ابن دانيال لا تعبر تعبيرًا دقيقًا عن حالها حينما كانت تقدم في عروض، فقد كان من يقدمها يتوسع في الارتجال حين تقديمها، ويضيف إليها كثيرًا حسب موهبته، واستحسان الجمهور لإضافاته فيها.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى