غابت الشمس . غاب الضوء والحرارة. حمل الناس متاعهم وفروا بعيدا عن فوهات المدافع المستعدة لاضاءة الأرض بالحرائق . حملت زينب متاعها قبل اولئك بساعات، طارت الى أقصى الجنوب. لحقتها العتمة والوباء، ومن خلفها الذعر، ومن امامها تتسمع أنين وترى أشباح قوم يعيشون فوق الأرض مثل الدود. الرعب من خطر الموت يهيمن على أسفلت الطريق، دقات قلب العجوز سائق السيارة نصف نقل الذي استأجرته لمهمتها الخاصة تضرب داخل صدره مثل ناقوس مدرسة قديم. زينب هادئة، ساكنة، مطمئنة، تحاون ان تخفف عن السائق وطئة أخبار العتمة والوباء والموت المتواترة عبر مذياع السيارة. كشافات اضاءة السيارة غير كافية لتعويض غياب الشمس المحتجبة. السائق أخبر زينب " ان النجاة مستحيلة". زينب أخبرته "ان العشرات وربما المئات من الفقراء في انتظار حمولة السيارة ليستعيدوا حياتهم". الرجل ابتسم بتعجب، التفت ناحية وجهها الذي نضح بضوء مجهول المصدر ومثير لدهشتة، اضطرب، قال بسخرية لاذعة " حياة اية اللي شايفاها لناس ماتوا فعلا، أو هايموتوا قبل ان نصل لهم". زينب ابتسمت، قسمات وجهها استعاد رونقه الشبابي على الرغم من الخمسين عاما التي تثقل كاهلها.، أخبرته بثبات مصحوب بابتسامة مشبعة بتفاؤل يغطي العالم " احنا بنهرب من الموت للحياة، ومن العتمة والوباء والحرائق الى النور والدفء، ومن الرعب والخوف الى الأمان والطمأنينة". السائق العجوز لمعت عيناه ببريق غامض كأنه مريح في حضرة وجه زينب المتبسم، وروحها العجيبة التي تكاد تقفز من صدرها، ودفء حديثها الذي احتجز داخل رأسه يفعل فيه عقله المضطرب من شدة الخوف أفاعيله. تمادت نظرات عيونه القلقة التي تفيض بما في داخله من اضطراب وخوف نحو الطريق المظلم الذي يتمدد ولاينتهي، ويتسع داخله نطاق العتمة سوى اشارت مصابيح السيارة التي توشك على الصراخ. السيارة تمضي يتيمة في الشارع لاتصاحبها سيارات أخرى، مثلما لايصاحبه سائقين آخرين على الطريق يؤنسون السيارة ويؤنسون وحشته في تلك الليلة الغريبة، وذلك الطريق، وذلك الظلام الدامس، وحالته التي تشبعت بالخوف والرعب، لايبدو انه مهتم بتلك الترهات التي تخرج من جوف تلك العجوز التي استأجرته واتفقت معه قبل يومين على موعد السفر والعودة والمبلغ الكبير من المال الذي استلمه مقابل تلك السفرية. رأى في المرأة طيبة وصفاء، وجدية ورغبة في مساعدة فقراء الجنوب. في الطريق اطفأت الشمس انوارها، تواترت الأنباء التي استلموها من مذياع السيارة عن حرب عظيمة قامت، ووباء انتشر فجأة بين الناس على كوكب الأرض. "كأنها القيامة "، هكذا اخبرها بينما غلقت عيناها في استراحة غفوة قصيرة بعدما تملكها التعب، واعتقدت انه اطمأن لكلامها. جلستها الى جواره في كرسي الكابينة لم تكن مريحة كثيرا، ازدحمت الكابينة بما لم يتيسر حمله في الصندوق من أغطية وببطاطين وكسوة شتاء وغيرها من تلك الأشياء التي لم يكن لها مكان على ظهر صندوق السيارة، والمكبوسة بقوة ومحكومة باحبال مشدودة تحفظ بقائها على السيارة مهما بلغت سرعتها أو اهتزازها، لايكشف وجه زينب عن أدنى استجابة انفعالية لاخبار الاذاعة وتعليقات السائق الذي ارتبك وطفق ينطق بالشهادتين فترة زمينة طويلة. الطريق طويل، مظم وموحش، تتراقص أمام عينيها الغافيتين أشباح واضحة الملامح لأطفالها الثلاثة الصغار الذين تركتهم في رعاية اختهم الكبرى التي غابت من مدرستها يومي سفر أمها في مهمتها الخاصة لتوزع كسوة الشتاء على الفقراء في أقصى جنوب الوادي، تراهم يتقافزون فوق بعضهم، واختهم حائرة ما بين المطبخ تجهز الطعام وفض الشجار فيما بينهم. ثم يذهب الوعي الذي انفصل تماما عن عتمة السكة والأرض، والسائق الذي لايزال يولول على طريقته مرعوبا من الخطر الذي يطارده، ووحشة الطريق المخيف، ليلتقي أشباح اولئك النسوة الموسرين الذين اعتادوا ان يدقوا بابها ليلا ونهارا، يعطونها ما تيسر لديهم من المال لكي توزعه بطريقتها على الذين طحنهم الفقر والعوز. كانت قد التقت معظمهم قبل سنوات بعيدة في أحد المساجد التي تقع في احدى المناطق الراقية لمتابعة دورس دينية تلقيها شخصية نسائية مشهورة، دأبت على الحضور بانتظام ومتابعة الدروس قبل ان تتحول لاحقا الى محاضرة في نفس المكان. رأت نفسها في اولئك النسوة الذي يتراصون أمامها وفي وجوههم لمعة خاصة تشي بالراحة والتصالح مع النفس والرضا ويسر الحال، وفي ملابسهم الغالية المتميزة جاذبية انسانية تزيد من قوة ومتانة العلاقة والتقارب والحب. هكذا رأت زينب النسوة بقدر ما رأو فيها شخصية من طراز فريد، وجه خمري صبوح ممتلئ بالطيبة والحب والتسامح، ملابس ريفية نظيفة وانيقة تكشف عن ارادة صلبة في كسب معركتها مع الواقع والحياة الصعبة، وعقل جميل يتسم بالحكمة والاتزان والرجاحة في التعامل مع المشكلات، ووفرة من العلم في دروسها تركزت في مجملها على مفاهيم التسامح والرحمة والحب والرضاء. دائما كانت تردد للنسوة من حولها ان الله خلقنا لكي يرحمنا ويسامحنا لا ان يقهرنا ويزج بنا الى آتون جهنم. هكذا دار مغناطيس "الشيخة زينب" كما اطلقوا عليها في منطقة المسجد الراقية وكذلك في محل مسكنها الفقير، وهكذا تحققت شعبية المرأة الفقيرة في الأوساط الراقية وطالت جاذبيتها المغناطيسية كل مكان تطأ فيه قدماها. اصبح منزلها الفقير داخل احدى الحارات القديمة الملتوية مثل الثعبان مزارا طيبا للموسرات من مريديها وصديقاتها وثقتهم في انها أفضل من توزع صدقاتهم على المحتاجين، دائما كانت عند حسن الظن، موضع ثقة عظيمة، ودائما ظل منزلها واطفالها وزوجها على حالهم، الرجل يعمل نقاش، ارزاقي باليومية، وهي تسعىى الى رزقها عن طريق شراء مستلزمات النسوة في المنطقة الفقيرة من ملابس وأدوات زينة وبيعها لهن بالتقسيط المريح. وهكذا سارت ايامها ودنياها، وهكذا تطايرت اشباح الماضي أمام عينيها أثناء غفوتها العفوية التي قطعها صوت فرقعة رهيب، واضطراب مريع داخل السيارة، اهتزازات عنيفة غير منتظمة، وأصوات كركبة ضربت القلب المهلوع أصلا، تزامنت مع صياح السائق بأعلى صوته، كاوتش العربية فرقع، العربية هاتتقلب"!. زينب فاقت من غفوتها، السائق فقد السيطرة على دركسيون السيارة التي مضت بسرعتها الكبيرة تترنح وسط الشارع المعتم سوى الانارة الباهتة لمصابيح السيارة الأمامية. زينب لم تنبس، دارت بعيونها حول السائق المنهار، وترقب بوجل ترنح السيارة داخل الشارع، أشارت بسبابتها نحو الشمس المحجوبة، غمغمت بعبارات غامضة لم يدركها السائق جيدا، عيونها جحظت، وجهها اعتورته زرقة غير طبيعية، السيارة مستمرة في ترنحها، والسائق مستمر في صياحه الهلع ولسانه ما توقف عن نطق الشهادتين حتى حدث الارتطام العظيم الذي ضرب السيارة بقوة في جانبها الأيسر واطاح بها الى اقصى الطرف الأيمن من الطريق. رأي السائق قبل ان يموت وقد انقلبت سيارته عدة مرات على اسفلت الشارع التي اضاءته الشمس أخيرا فور عودتها، ان السيارة التي صدمته طاحت الى الجهة الأخرى المعاكسة من الطريق وتناثرت اجزائها في الشارع. وان زينب هي من اضاءت الشمس بسببابتها، وان روحها تملكته ولم يعد بامكانه الفكاك من مغناطيسها أو من أمانتها التي تعتزم ايصالها الى اولئك المعدمين الذين كانت تراهم طوال الطريق، تتحدث معهم، تطمئنهم، وتدعو لهم. عادت الحرارة، عادت السيارات تفر في الطريق مثل المعتاد، عاد نور الشمس يلف الدنيا بألقه وبهائه، سيارات الشرطة والاسعاف ملئت الطريق الاسفلتي السريع بالصخب والاشارات الضوئية. زينب محشورة في كابينة السيارة فاقدة الوعي، البطاطين والمفارش التي كانت تسكن جوارها في كابينة السيارة احاطت جسدها الضعيف بسياج عظيم من الحنان والأمان والحب. عندما نقلوها الى المستشفى لفحضها لم يكن هناك سوى حرج سطحي بسيط في الجبين. سألت عن السائق بمجرد افاقتها من الغيبوبة التي دخلتها لمدة ساعتين اثنتين، كانوا قد نقلوه من جوارها وقد تهشمت رأسه، وتهشم صدره، لم يعد لديه نفس يربطه بالحياة، لكن بعد ان سجل العصب البصري في دماغه كافة تفاصيل كل ما جرى في نهار ذلك اليوم من احداث قبل وأثناء الحادث، وقبل ان يذهب الى غيبوبته الأبدية. سألت عن محتويات السيارة، أمانة الفقراء المربوطة في عنقها. طلبوا منها الراحة اولا ثم التريث لحين العثور على تفاصيل أكثر تتعلق بهويتها، توسلت اليهم، اشارت بسبابتها الى فوق، أخبرتهم ان الله يريد ذلك الآن، والا لما ظللت حية، ولما تمكنت من اضاءة الشمس. ابتسم الضابط الشاب، رأى في وجهها الصبوح طيبة وصدق متفرد، طمأنها على أمانتها، وطمأنها أيضا على ان كل شيء سوف يكون على ما يرام عندما يبلغنا الأطباء بامكانية تعافيكي وقدرتك على متابعة أمانتك.
د. احمد الباسوسي 2022
د. احمد الباسوسي 2022