لا سماء خارج النافذة، ينبئ الضوء الشحيح عن قمر عليل لا يبين، إن أفلت من السحب تخفيه تلك الجدران العالية الصماء التي تسد الأفق، وتبتلع ظلالها في غبشة الفجر.
عيناي تغادران النافذة التي تعلو سريري، تبحثان عن أبي، سمعته يناديني مرارا دون أن أتمكن من تلبية النداء، لعله في قمة غضبه مني الآن، ينفث غيظه مع دخان سيجارته _ كعادته قبل أن يغادرنا_ لم يطق تأخري عنه فانصرف وحده، عيناي لم تستطيعا اللحاق به، رأيا الشارع معتما يخلو من المارة، ارتدتا إلي، توقفتا عند أنبوبين موصولين بالذراعين، أحدهما يحاول تعويضي عن بعض ما نزفت من دم، والثاني يمد جسدي المنهك بخليط المحاليل، العبوتان أوشكتا على النفاد، الممرضة التي بدلتهما قبل ساعات حقنت قارورة المحاليل بأدوية ثم انصرفت إلى غرفتها، لعلها نائمة لم تزل، ليتها تصحو لتبدل العبوتين أو تحرر الذراعين فأنام.
منذ صباح الأمس وأنا مقيد في فراشي، أخرجوا الدم النازف من جوفي، قبل أن يغرسوا الأنبوبين، لأجد نفسي في حال وسط بين الجلوس والرقاد، قضيت ليلتي بين غفو وإفاقة متعاقبين، وكلما غفوت أرى أبي، إما ينظر لي بأسي وإما في لحظة انصرافه يأمرني بأن ألحق به.
يأتيني صوت المؤذن خافتا، يتهادى من بعيد، وسرعان ما ينتهي فيستعيد الكون غفوته ويغط في سكون عميق، يتيح لي أن أستسلم لغفوة جديدة.
للفجر هنا آذان وحيد بينما هناك في قريتنا يتعدد الآذان ويتكرر، المساجد كثيرة ومتقاربة، والمؤذنون لا يبدأون معا، فتتوالى أصواتهم وتتداخل، متشابكة مع صياحات الديكة، في لحن ممتع بهيج ينهضني منشرح الصدر.
ينصرف أبي غاضبا بعدما لكزني وأمرني باللحاق به، لكن شيئا ما يقيدني ويجعلني لا أتبعه، فأظل في موضعي حتى تفيقني جلبة، بتثاقل أفتح عيناي، أرى الحجرة وقد امتلأت ناسا، الطبيبة وممرضات وعاملات ورجال الإسعاف، أراهم يخرجون حاملين جثمان أحدنا، وجوه العاملات تفيض أسى والممرضات يتحركن بآلية كشغالات النحل، والطبيبة ساهمة، تولي ظهرها للسرير الذي شغر، أتذكر نداءات أبي فأتوقع أن يشغر سريري قريبا، تتجه الطبيبة نحوي مشهرة السماعة، ممرضة تساعدني على رفع الجلباب الأبيض، تتيح للطبيبة أن تنقل السماعة بين مواضع شتى في ظهري وبطني، مستسلما أتابع حركات يديها، تتلمس نبضي بيدها، تباعد ما بين جفوني لتمعن النظر في حدقتي، تشير للمرضة بأن تسحب عينة من دمي، تطالبها بأن تسرع بها إلى المعمل، تتابع ممرضة أخرى وهي تحاول تثبيت كيس دم إضافي إلى الحامل، تحقن قارورة المحلول بعقار ما.
أغفو قبل أن تضع السماعة على صدر زميلي، وبعد حين أفيق على أثر لمس الطبيبة لجبهتي، تلتقي أعيننا، أخفض عيني تلقائيا، تسألني:
_ حاسس بإيه؟
_ الحمد لله
تهز رأسها، لا أفهم مغزى ذلك، تأتيها الممرضة بنتيجة التحليل، تطالعها باهتمام، تبتسم وهي تتابع سرعة سريان الدم والمحلول في الأنبوبين، تطمئنني:
_ عروقك تمتص الدم والسائل بنهم
وحينما عاودت غفوتي رأيتني أسرع في أثر أبي، أحاول اللحاق به وهو ينهاني عن ذلك، يمطرني بشتائمه مؤكدا أنه لم يعد يريدني، يأمرني بأن أتوقف عن محاولة اللحاق به، ويقسم بأنه سيغلق الباب خلفه ولن يفتح لي مهما ألححت في الطرق.
https://scontent.faly3-1.fna.fbcdn....19IN07HJaZLY6z1cDYTN0TOeKckLluRkQ&oe=6248D28B
عيناي تغادران النافذة التي تعلو سريري، تبحثان عن أبي، سمعته يناديني مرارا دون أن أتمكن من تلبية النداء، لعله في قمة غضبه مني الآن، ينفث غيظه مع دخان سيجارته _ كعادته قبل أن يغادرنا_ لم يطق تأخري عنه فانصرف وحده، عيناي لم تستطيعا اللحاق به، رأيا الشارع معتما يخلو من المارة، ارتدتا إلي، توقفتا عند أنبوبين موصولين بالذراعين، أحدهما يحاول تعويضي عن بعض ما نزفت من دم، والثاني يمد جسدي المنهك بخليط المحاليل، العبوتان أوشكتا على النفاد، الممرضة التي بدلتهما قبل ساعات حقنت قارورة المحاليل بأدوية ثم انصرفت إلى غرفتها، لعلها نائمة لم تزل، ليتها تصحو لتبدل العبوتين أو تحرر الذراعين فأنام.
منذ صباح الأمس وأنا مقيد في فراشي، أخرجوا الدم النازف من جوفي، قبل أن يغرسوا الأنبوبين، لأجد نفسي في حال وسط بين الجلوس والرقاد، قضيت ليلتي بين غفو وإفاقة متعاقبين، وكلما غفوت أرى أبي، إما ينظر لي بأسي وإما في لحظة انصرافه يأمرني بأن ألحق به.
يأتيني صوت المؤذن خافتا، يتهادى من بعيد، وسرعان ما ينتهي فيستعيد الكون غفوته ويغط في سكون عميق، يتيح لي أن أستسلم لغفوة جديدة.
للفجر هنا آذان وحيد بينما هناك في قريتنا يتعدد الآذان ويتكرر، المساجد كثيرة ومتقاربة، والمؤذنون لا يبدأون معا، فتتوالى أصواتهم وتتداخل، متشابكة مع صياحات الديكة، في لحن ممتع بهيج ينهضني منشرح الصدر.
ينصرف أبي غاضبا بعدما لكزني وأمرني باللحاق به، لكن شيئا ما يقيدني ويجعلني لا أتبعه، فأظل في موضعي حتى تفيقني جلبة، بتثاقل أفتح عيناي، أرى الحجرة وقد امتلأت ناسا، الطبيبة وممرضات وعاملات ورجال الإسعاف، أراهم يخرجون حاملين جثمان أحدنا، وجوه العاملات تفيض أسى والممرضات يتحركن بآلية كشغالات النحل، والطبيبة ساهمة، تولي ظهرها للسرير الذي شغر، أتذكر نداءات أبي فأتوقع أن يشغر سريري قريبا، تتجه الطبيبة نحوي مشهرة السماعة، ممرضة تساعدني على رفع الجلباب الأبيض، تتيح للطبيبة أن تنقل السماعة بين مواضع شتى في ظهري وبطني، مستسلما أتابع حركات يديها، تتلمس نبضي بيدها، تباعد ما بين جفوني لتمعن النظر في حدقتي، تشير للمرضة بأن تسحب عينة من دمي، تطالبها بأن تسرع بها إلى المعمل، تتابع ممرضة أخرى وهي تحاول تثبيت كيس دم إضافي إلى الحامل، تحقن قارورة المحلول بعقار ما.
أغفو قبل أن تضع السماعة على صدر زميلي، وبعد حين أفيق على أثر لمس الطبيبة لجبهتي، تلتقي أعيننا، أخفض عيني تلقائيا، تسألني:
_ حاسس بإيه؟
_ الحمد لله
تهز رأسها، لا أفهم مغزى ذلك، تأتيها الممرضة بنتيجة التحليل، تطالعها باهتمام، تبتسم وهي تتابع سرعة سريان الدم والمحلول في الأنبوبين، تطمئنني:
_ عروقك تمتص الدم والسائل بنهم
وحينما عاودت غفوتي رأيتني أسرع في أثر أبي، أحاول اللحاق به وهو ينهاني عن ذلك، يمطرني بشتائمه مؤكدا أنه لم يعد يريدني، يأمرني بأن أتوقف عن محاولة اللحاق به، ويقسم بأنه سيغلق الباب خلفه ولن يفتح لي مهما ألححت في الطرق.
https://scontent.faly3-1.fna.fbcdn....19IN07HJaZLY6z1cDYTN0TOeKckLluRkQ&oe=6248D28B