حسين الصدر - الخباز البلدي.. الشاعر الأمي المدهش

الشعراء الأميوّن ،قليلون ،ولكنهم يُثيرون الاعجاب والدهشة لما يملكونه من قدرات هائله في التعبير والتصوير ..!!
والغريب أنهم يفوقون أقرانهم المتعمقين في علوم اللغة العربية وآدابها .
والسؤال الآن :
كيف يتفوق الأميّ على الضليع بآداب اللغه وعلومها ؟
وكيف يبلغ تلك الدرجة العليا من البلاغة ؟
والجواب :
انها الموهبة الخارقة للعادة ، تقوده الى مرافئ الإبداع والإمتاع ، وتجعله يملأ العيون والأسماع ،والموهبة لاتأتي عبر الدراسة المنتظمه ، ولا تؤخذ من الاساتذة العمالقة ، وانما هي طفرة – بحسب مصطلحات قوانين الوراثة – تفعل الأعاجيب ..!!
والموهوب له قدراتُه الخاصة ، في اقتناص الألفاظ والمعاني والتقاط الصور على نحوٍ يفضي به الى ولوج واحات الفن والجمال، والعطاء الباهر ....
أبرز اولئك الشعراء الأميين هو الخبز أرزي .
ومنهم أيضا الخباز البلدي (محمد بن حمدان بن حمدان ) الذي قال عنه الثعالبي في يتيمة الدهر (ج2/201) :
(ومن عجيب شأنه انه كان أميّاً ، وشعره كلُه مُلَحٌ وتُحَفٌ ، وغُرر وطُرف ، ولا تخلو مقطوعة له من معنى حسن أو مَثَلٍ سائر )
وانّ من المحزن حقاً ، أننا قَلَّ ان نتلمس البراعات الفنيّة والأدبيه ، في نتاج من عكفوا على دراسة اللغة العربية وآدابها ،فكيف بمن لم يكابدوا تلك الشؤون ؟!
ان الأجواء والمناخات قد اختلفت كثيراً عما كانت عليه أيام الرواد الاوائل ، ولابد ان تنعكس آثار هذا الجَدْبِ على المحصلة النهائيه للأعمال الأدبيه المعاصرة .
نماذج مختارة من شعر الخباز البلدي :
قال يرد على شاتِمِه :
بالغتَ في شتمي وفي ذميّ
وما خشيتَ الشاعرَ الأميّ
جرّبْتَ في نفسِك سُماً فما
أحمدتَ تجريبكَ للســــــمّ
ويبدو انه كان يستملح ان يوصف ب (الشاعر الأميّ ) .
انّ الأميه صفة سلبية ، ولكنها حين تقترنُ بشاعرية فذّة ، تصبح شيئاً آخر يمكّن صاحبها من استملاح تلك الصفة ..!!
ثقافته القرآنيه :
ولننظر اليه كيف يوظف ثقافته القرآنيه ، بالرغم من أمّيته ، في شعره فيخاطب الذين خاب ظنه فيهم من الاخوان قائلاً :

ألا ان اخواني الذين عهدتهم
أفاعي رمالٍ لاتُقصرُ في لَسْعي
ظننتُ بهم خيراً فلمّا بلوتهم
" نَزَلْتُ بوادٍ منهم غيرِ ذي زرْعِ "
ويقول ، وقد سافر بعض أصحابه بسفينة :
سار الحبيبُ وخلّف القلبا
يُبدي العزاء ويُضمر الكربا
قد قلتُ اذ سار السفين بهم
والشوقُ ينهب مهجتي نهبا
لو أنَّ لي عزاً أصولُ به
"لأخذتُ كلَّ سفينةٍ غصبا "
هويته العقائديه
وهو لا يُخفي في شعره هويته العقائديه ، فهو إماميّ ، شديد الولاء للعتره الطاهرة من أهل البيت (عليهم السلام)
اسمعه يخاطب حبيبَه قائلاً :
تظن بأنني أهوى حبيباً
سواكَ على القطيعةِ والبعادِ
جحدتُ اذن موالاتي عليّا
وقلتُ بأنني مولى زِياد
واين الولاء للوصي من الولاء للدعيّ ؟
وهو بعد ذلك ، صاحب تجربة حياتيه ترشحه لتلقين الناس دروساً للتخلص مما يكرهون ، كل ذلك بفضل ذكائه وفطنته
يقول :
اذا استثقلتَ أو أبغْضَتَ خَلْقَاَ
وسرّك بُعْدُه حتى التنادي
فشرِّدْهُ بِقَرْضِ دُرَيْهِمات
فانَّ القرضَ داعيةُ البِعادِ
انك تستطيع ان تتخلص من الثقيل، بان تقرضه شيئاً من الدراهم ، فانك لن تعود تراه بعد ذلك ، لأنه يتحاشى لقاءك خشية المطالبة بتسديد الدين ، وبهذا يبتعد عنك ، وتستريح منه ..!!
وقد ترجمه الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات ج1 ص 330 ولكنه سمّاه (محمد بن أحمد بن حمدان ) بعد ان سمّاه الثعالبي (محمد بن حمدان بن حمدان ) – كما تقدّم –
واعتمد على صاحب اليتيمه اعتماداً كبيراً
والملاحظ أنَّ الترجمتيْن جاءتا خاليتيْن من سنة ولادة الشاعر ووفاته ، وقد ذهبت أتعابُنا سدىً ، حين بحثنا عنهما في العديد من المصادر ،ولكن دون ان نصل الى شئ محدد .
وليكن ختام المقاله قول الشاعر البلدي :
ليلُ المحبين مطويٌّ جوانِبُه
مُشمَّرُ الذيلِ منسوبٌ الى القِصَرِ
ما ذاك إلا لأنَّ الصبح نَمَّ بنا
فأطلع الشمسَ من غيظٍ على القَمَرِ
وهما يشهدان له بعلّو الكعب ، وامتلاك الأدوات الفنيه التي ترتفع بِشِعْرِه الى ذروة سامقه ،
ولا أدري هل هي صدفة عابرة ان يكون الشاعران الاميّان (الخبز أُرزي والخباز البلدي ) من مهنة واحدة أم انّ هـــذه المهنــــة تُنضج المواهــــب وتنتج الغــــرائب ؟



* الصباح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى