أ. د. عادل الأسطة - غسان كنفاني.. ملف (1-15)

1- زكريا الزبيدي وإخوانه: "قراءة غسان كنفاني في زمن مختلف"

ما جرى في أيلول الماضي من حفر سجناء ستة نفقاً في سجن «جلبوع» الإسرائيلي ونيلهم حريتهم لأيام قليلة، ثم إلقاء القبض عليهم، دفعني إلى العودة لبعض روايات غسان وبعض ما ورد فيها من عبارات، وإلى بعض قراءات النقاد لرواياته الآتية: «رجال في الشمس»، و»ما تبقى لكم»، و»العاشق»،
وجعلني أتساءل:
- ماذا لو كان غسان حياً الآن وتابع قصة السجناء الستة وما آلت إليه؟ ماذا سيكتب عنها؟ وهل سيعيد النظر في رواياته السابقة، وتحديداً فيما يخص علاقة الفلسطيني بأرض فلسطين وصحراء المنافي وعلاقتها بالمستعمرين والغزاة؟
- وماذا لو قرأ النقاد الذين كتبوا عن تلك الروايات وتوقفوا أمام الموضوع نفسه - أي علاقة أرض فلسطين بالفلسطينيين وبالغرباء، ماذا لو قرؤوا ما كتبوا وقارنوه بما جرى مع زكريا وإخوانه الخمسة والآخرين؟
ببساطة قادتني التساؤلات إلى فكرة قراءة الأدب في زمن متغير، أيْ قراءة أعمال كنفاني التي كتبت في ٦٠ القرن ٢٠ في العقد الثالث من القرن٢١.
كثيرون ممن قرؤوا «رجال في الشمس» وتابعوا، في الوقت نفسه، ما قام به المقاومون الستة، من حفر نفق والتمرد على واقع السجن، رافضين الموت بصمت في السجن، ربطوا بين حفر النفق ورواية غسان ورأوا أن الستة قرعوا جدران خزانهم/ سجنهم. لست شخصياً أول من ربط القصتين معاً: قصة الرواية وما فيها من تخييل وقصة الستة الواقعية تماماً.. فهناك من سبقني في ذلك، ولكن هؤلاء لم يتساءلوا إن كان ما قام به الستة يعد عملاً فردياً فآل مصيره إلى الفشل كما آل مصير أبطال رواية غسان إلى الموت، والتساؤل عموماً قابل للنقاش.
لكن ما لم يلتفت إليه أحد هو ما كتبه غسان في رواياته عن علاقة الفلسطيني بأرضه ومساءلته في عالم متغير، وتحديداً بعد ستين عاماً تقريباً شهدت فيها الأرض الفلسطينية الكثير من التغيرات التي توقف أمامها كتاب فلسطينيون مثل توفيق فياض في «بيت الجنون»، وغريب عسقلاني في قصة «زائر الفجر» من مجموعة «الخروج عن الصمت».
في روايات كنفاني المذكورة آنفاً فكرة، أتى عليها بكلام مباشر تارة وكتابة غير مباشرة طوراً، هي تواطؤ الأرض الفلسطينية مع الفلسطيني ضد المستعمر الإنجليزي وتعاطفها أيضاً مع الفلسطيني ضد المحتل الإسرائيلي.
في رواية «رجال في الشمس» ١٩٦٣ تكون صحراء الكويت قاتلة وشمسها حارقة، في حين لا تكون صحراء النقب في «ما تبقى لكم» كذلك للفلسطيني حامد. إنها تبدي تعاطفاً معه. هكذا ينطقها غسان:
«وددت لو أستطيع أن أقول له شيئاً إلا أن الصمت هو قدري..».
وحين يحتمي حامد بها خوفاً من أن يكتشف أمره وينبطح، ينبطح «جامداً ملتصقاً تماماً بصدري، أحس نبضه يسيل إليَّ دافئاً وثابتاً..».. وترى أنه كان «يتفوق على خصمه بأنه لم يكن ينتظر شيئاً، مثلي. بالنسبة لي كان يعني بقاء وليس عبوراً، هو الآخر، ولكن لأنه لم يكن يريد، بعد، الذهاب إلى أي مكان».
في رواية «العاشق» غير المكتملة يتعقب الضابط الإنجليزي (بلاك) المقاوم الفلسطيني عبد الكريم دون أن يتمكن من الإمساك به، ما يجعله يقول:
«فلا سائق الشاحنة كان شريكاً في الحدث، ولا النجدة وصلت في وقتها، ولا أنا عثرت على عبد الكريم... أتدري؟ كنت أقول لنفسي وأنا عائد مع الخيبة والمرارة والتعب: إن الأرض ذاتها هي المتواطئة والشريكة، وإنك كي تقبض على عبد الكريم، عليك أولاً أن تلقي القبض على الأرض».
كانت الأرض الفلسطينية في روايات كنفاني إذاً متواطئة مع الفلسطيني ومتعاطفة معه وكانت ملاذه وملجأه.
في قصة زكريا الزبيدي وإخوانه الخمسة لم تحمهم الأرض الفلسطينية، إذ سرعان ما اكتشفوا وألقي القبض عليهم ثانية. ومن المؤكد أن علاقتهم بالأرض لم تكن مثل علاقة عبد الكريم بها، وأن زمنهم مختلف اختلافاً كبيراً عن زمن عبد الكريم وزمن حامد، وعدا ما أشرت إليه من اختلاف علاقة كل منهم بالأرض، فهناك التطورات التكنولوجية الهائلة التي حدثت خلال ثمانية عقود، وهناك التغييرات الكبيرة التي أجرتها الدولة العبرية على الأرض.
مع ما سبق فقد بقي من الأرض الفلسطينية بعض شواهد على ذلك الزمن الفلسطيني. إنه نبات الصبار وثمر هذا النبات هو ما أسعف بعض السجناء الستة في البقاء على قيد الحياة.
يرى بعض أصحاب نظرية التلقي الألمانية (فولفجانج آيزر) «أن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين تؤدي إلى قراءتين مختلفتين» وأعتقد ذلك أيضاً.
الكتابة تطول والمساحة محدودة والتساؤلات مشروعة وقابلة للنقاش والاجتهاد.

2021-10-10

***

2- زمن الاشتباك «في ذكرى غسان كنفاني»

من حيث أريد أو لا أريد عشت زمن الاشتباك. كما لو أنني ذلك الطفل الفلسطيني اللاجئ الذي كتب عنه الشهيد غسان كنفاني قصته القصيرة "زمن الاشتباك " أو "الصغير يذهب إلى المخيم"، وغالبا ما يشتبه الأمر علي ويختلط في دقة العنوان.

في قصته يميز كنفاني، على لسان سارده، بين زمن الاشتباك وزمن الحرب.

في زمن الحرب ثمة هدنة يلتقط خلالها المحارب أنفاسه وليس الأمر كذلك في زمن الاشتباك، ففي هذا لا يجد المشتبك مع الحياة فرصة لالتقاط أنفاسه.

منذ وعيت على هذه الفانية وأنا أعيش في زمن الاشتباك؛ في المخيم وفي الجامعة الأردنية وفي الجامعة في ألمانيا وفي جامعة النجاح الوطنية، حيث أعمل مدرسا منذ 1982.

حتى في أثناء إقامتي في ألمانيا التي كان يجب أن ألتقط فيها أنفاسي - أقمت هناك أربع سنوات - عشت زمن الاشتباك بأقسى أشكاله، لدرجة أن ترحيلي كان قاب قوسين أو أدنى.

هل اختلف الأمر حين عدت إلى نابلس؟

دونت في نصوصي ورواياتي وخربشاتي أكثر ما حدث معي وألمّ بي.

هل كان غسان كنفاني يكتب عني وهو يكتب عن ذلك الطفل الفلسطيني اللاجئ، الذي كان عليه أن يوفر لقمة العيش لأهله حين عجز الكبار عن توفيرها، بعد أن طردهم اليهود الإسرائيليون عن أرضهم؟ (كم نسبة المبالغة في كلامي عن ذاتي؟ ).

في طفولتي لم أترك المدرسة مثل أخوي الكبيرين لأساعد أبي في الإنفاق على العائلة كثيرة العدد، ولكني أنا الثالث كان علي أن أجلب الماء من عين المخيم لأمي، وإن لم أتمكن من جلبه من عين المخيم، وجب أن أذهب إلى النبع في القرية المجاورة، وكان علي أيضا أن أخبز العجين في فرن المخيم القريب من بيتنا.

أنتظر دوري في عين المخيم وأنتظر دوري في الفرن وكان لا بد من تعلّم الانتظار. إنه الدرس الأول قبل أن نقف على الجسر وقبل أن نحيا حياة الحواجز في انتفاضة الأقصى، هذا إذا غضضت الطرف عن الانتظار أول كل شهر لاستلام مؤن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين.
في الجامعة عشت أيضا زمن الاشتباك؛ التسجيل والامتحانات والبحث الممضّ عن سكن والسفر من خلال الجسر و..و...

ومنذ تخصصت في الأدب العربي وبدأت أعوّد أصابع اليد على الكتابة، اتخذ الاشتباك شكلا جديدا. لقد بدأت أشتبك مع الأدباء والكتاب.

هل كان غسان كنفاني واحدا من الكتاب الذين اشتبكت مع نصوصهم؟

إن كان للاشتباك معنى سلبي فقط، فلعلني لم أشتبك مع نصوص غسان، ولكن ماذا إذا كان للاشتباك معنى أوسع وأبعد من معناه السلبي؟

غسان كنفاني نفسه كان مشتبكا مع الحياة، وكل نصوصه التي كتبها هي شكل من أشكال الاشتباك، وهكذا فإن قراءة أعماله تعد اشتباكا مع الحياة.

منذ أخذت أدرس في المدارس الثانوية والإعدادية والجامعة وأنا أدرس نصوصه وأشتبك معها.
اشتبكت معها قارئا ومدرسا وناقدا ومحاضرا ومشاركا في ندوات ومؤتمرات وبرامج تلفازية و...و...
وغالبا، بل ودائما ما كنت أقدّر نصوصه وأتحدث عنها حديثا إيجابيا.

هل اشتبكت معها مرة اشتباكا سلبيا؟ وهل يحق لي أن أشتبك معها اشتباكا سلبيا؟ (ماذا سيقول عني أصدقائي من رفاق الجبهة الشعبية؟).

إميل حبيبي اشتبك مع كنفاني اشتباكا سلبيا. تتبع حبيبي مسيرة بطل رواية كنفاني "عائد إلى حيفا"، واكتشف أن غسان لا يعرف المدينة وقال حبيبي بنزق: كان على غسان ألا يكتب عن حيفا. كان عليه أن يترك الكتابة عنها لي؟ هل يجوز أن تسأل إميل: لماذا لم تكتب في فترة مبكرة؟ استشهد كنفاني قبل أن يكتب إميل روايته التي أشهرته 1974.

أول اشتباك سلبي مع نصوص غسان سمعته من الشاعر والقاص الفلسطيني أحمد حسين، صاحب مجموعة "الوجه والعجيزة".

التقيت بأحمد حسين في نابلس في 1978 تقريبا وسرنا معا، وأتينا على أعمال كنفاني. قال لي أحمد: أعمال غسان كنفاني موضوعات إنشاء ليس أكثر.

وكنت يومها معجبا بغسان - وما زلت - ولم يكن لدي بالأدب إلمامٌ كاف.

هل خطر ببالي أن أسأل: كيف يهاجم أحمد حسين كنفاني؟ وكان أحمد كتب القصة القصيرة الناضجة فنيا بشهادة كتّاب كثر، حتى أن بعض محبيه يذهبون إلى أنه أفضل من كتب القصة القصيرة الفنية في فلسطين 1948، ويتفوق في هذا على "سداسية الأيام الستة" لإميل حبيبي.

فيما بعد سأرى في بعض روايات غسان روايات أفكار. إن "عائد إلى حيفا" هي رواية أفكار بالدرجة الأولى، ولكنها لا تخلو من الروح القصصية والروائية.

إنها رواية ليست صادرة عن تجربة معيشة قدر ما هي رواية تدحض الفكر الصهيوني، الذي قرأه غسان من خلال قراءته الأدب الصهيوني الذي كتب عنه.

مؤخرا كنت أقرأ في كتابي غسان عن أدب المقاومة. هل لاحظت أشياء يمكن أن تدفعني للاشتباك معه اشتباكا سلبيا؟

ولكن عليّ ألا أنسى أنه كتبها في 1966 و1968، وفوق هذا وتحته وقبله وبعده، يجب أن نحترم غسان لأنه رمز من رموزنا الوطنية.

هل ستؤثر المرحلة ذات يوم علي فأغدو مثل أبي الخيزران؟

يبدو أن أيامنا القادمة هي أيام أبي الخيزران، وإلا ما معنى هذا الإجحاف بحق رموزنا من غزة حيث تم استبدال اسم مدرسة غسان كنفاني لتغدو مدرسة مرمرة - كما سمعت - إلى مدينة جنين حيث أساؤوا لتمثال الشهيد خالد نزال.

في ذكرى غسان كنفاني لا بد من كتابة ما، ورحم الله الشاعر أحمد دحبور الذي قال لي: منذ استشهد غسان وأنا أكتب كل عام في ذكراه.

10 يوليو 2017

========

3- غسان كنفاني والأدب الفلسطيني “الآخر”

مدار نيوز : استن غسان كنفاني في دراسته أدب المقاومة سنة سار على منوالها دارسو الأدب الفلسطيني في المنفى. سنة كنفاني تمثلت في تركيزه على الأدب الفلسطيني المقاوم واستبعاده الأدب الذي كتبه موالون للأحزاب الصهيونية الحاكمة.
ما أقدم عليه غسان كان يقدم عليه الأدباء الفلسطينيون المقيمون في فلسطين ممن لم يرتبطوا بصحافة الأحزاب الصهيونية. هنا يمكن استثناء شاعر نشر في صحف حزب صهيوني أدعى أنه- أي الحزب- يدافع عن الفلسطينيين الباقين.
كانت المعارك الأدبية في فلسطين بين الشيوعيين وخصومهم لافتة ولذلك استبعد الأدباء الشيوعيون أكثر الأدباء الذين كتبوا في صحف أحزاب صهيونية و حاربوهم. التفت غسان كنفاني في دراسته أدب المقاومة إلى الشعراء اليساريين والمشتبكين مع سياسة الحكومات الاسرائيلية ولذلك درس أشعار راشد حسين الذي نشر في صحف حزب (مبام ) وكان على خلاف كبير مع إميل حبيبي.
كان غسان التفت إلى مقطوعة شعرية قالها شاعر فلسطيني ذو حس وطني في المتعاونين مع الأحزاب الصهيونية الحاكمة.
نص المقطوعة يجري على لسان رجل فلسطيني من رجال السلطة الحاكمة وهو جبر معدي:
أنا في تالي زماني صرت رمزا للهوان
ساء فعلي فغدا يهرب مني من يراني
شاربي طولته أوصلته عيني و ذاني
و لقد هندزت قمبازي على الطراز اليماني
غير أن الله قد شقلب مجدي بثواني
ولقد ولى زماني و رماني عن حصاني
هكذا ميز غسان بين فلسطيني و فلسطيني وهو يدرس الأدب الفلسطيني كما لو أنه يتكيء على المقولة الماركسية الشهيرة في دراسة الأدب: “العلاقة بين الموقع والموقف”.
لم نقرأ في كتابي غسان الاثنين عن أدب المقاومة عن شعراء وقصاصين لم تكن لهم مواقف مقاومة من الدولة الناشئة مثل مصطفى مرار ومحمود عباسي وعطاالله منصور واخرين ، وحين نقرأ في كتاب أحمد أبو مطر “الرواية في الأدب الفلسطيني ” أو في كتاب واصف أبو الشباب عن القلسطيني في الأدب الفلسطيني فسنلحظ استبعادهما أدبيات الأدباء الذين انضووا تحت جناح صحافة الأحزاب الصهيونية.
ربما كنت أول من درس الأدب الفلسطيني في مناطق 1948 والتفت إلى أسماء أدبية استبعدها دارسو المنفى أو دارسو الضفة، فدارسو الأدب الفلسطيني ممن يقيمون في فلسطين 1948 مثل محمود غنايم وفاروق مواسي ومحمود عباسي ونبيه القاسم و آخرون درسوا نتاجات أدباء اعتاد دارسو المنفى على استبعادها لأسباب وطنية و ايديولوجية بالدرجة الاولى.
كان ذلك في زمن كانت الحرب على أشدها وربما لم يختلف الأمر اختلافا واضحا لافتا إلا بعد توقيع اتفاقية أوسلو وربما قبل ذلك بقليل ، وتحديدا منذ قبل إميل حبيبي تسلم جائزة الدولة الاسرائيلية للأدب من يد رئيس الوزراء (اسحق شامير).
يومها كانت المفاجأة وكان السؤال: بم يختلف إميل حبيبي عن مصطفى مرار ومحمود عباسي وعطاالله منصور واخرين- وإن لاحظ المرء بداية تقبل أدباء الحزب الشيوعي الإسرائيلي منذ أواسط 80ق20 لنتاج أدباء حاربوهم من قبل والعمل على نشرها في صحف ومجلات الحزب الشيوعي ،وأبرز هؤلاء القاص مصطفى مرار.
وأنا أعد رسالة الدكتوراه في الأدب الفلسطيني عن صورة اليهود كان علي أن أكون أكاديميا صرفا وبالتالي فقد درست النتاج الأدبي الذي استطعت الحصول عليه الأدباء مقاومين وآخرين غير مقاومين ، وكانت طبيعة الموضوع تتطلب هذا.
ما الصورة التي يرسمها أدباء مقاومون للعدو؟ وما الصورة التي يرسمها أدباء قريبون من المؤسسة الاسرائيلية الحاكمة؟ هنا اعتمدت على المقولة الماركسية الشهيرة: “تأثير الموقع على الموقف ” وبالتالي على الصورة ،وهكذا شكلت دراستي نهجا جديدا في دراسات الدارسين من المنفى والمناطق المحتلة 1967.
لقد درست في كتابي- أطروحة الدكتوراه- نصوصا لمحمود عباسي وعطاالله منصور وعبد الله عيشان وهي نصوص غالبا ما استبعدها الدارسون العرب إن سمعوا بها. هل كان غسان كنفاني والدارسون العرب والفلسطينيون في المنفى محقين؟ طبعا على المرء ألا ينسى أمرين اثنين هما: إن بعض دراسات الدارسين لم تكن دراسات أكاديمية صرفة ، وأن نصوص الأدباء غير المقاومين لم يتح لها الانتشار في العالم العربي ، عدا أن أكثرها كانت نصوصا متواضعة من ناحية فنية.
ليس في دراسات غسان وأبو مطر وأبو الشباب أي تناول لروايات عباسي ومنصور وقصص عيشان وغيرهم ممن حسبوا على الأحزاب الصهيونية الحاكمة في اسرائيل ،بل إن الدارسين استبعدوا أعمال زكي درويش وهو أخو الشاعر محمود درويش لأنها صدرت عن مجلة “الشرق “التي صدرت عن جهة سلطوية حاكمة.
أعتقد أن الصحافة والجهة التي كانت تمولها اسهمت في تحديد هوية الأدب الفلسطيني وكذلك المواقف الأدبية والسياسية الكتاب. رحم الله غسان كنفاني.

2017/07/08

***

4- غسان كنفاني وجوخة الحارثي : توارد الأفكار

عندما استشهد غسان كنفاني لم تكن الكاتبة العمانية التي فازت من شهرين بجائزة (مان بوكر) العالمية للرواية قد ولدت، فالكاتبة ولدت في العام ١٩٧٨ كما قرأت وكنفاني استشهد في الثامن من تموز في العام ١٩٧٢، وبالتالي فالصلة بين الكاتبين هي صلة أدبية ليس أكثر.
ولا أعرف إن كانت جوخة الحارثي قرأت كنفاني ولا أعرف ما هو موقفها منه؛ قضية وأدبا، فلم أقرأ، في المقابلات التي أجريت معها وشاهدتها، شيئاً عن موقفها من الأدب الفلسطيني.
وكما ذكرت في كتابتي عنها، فإن إحدى شخصيات روايتها «سيدات القمر» أتت على ذكر محمود درويش.
لم أكن شخصيا أتابع الأدب العماني متابعة حثيثة، على الرغم من أنني تابعت مجلة «نزوى» وقرأت بعض أشعار سيف الرحبي فيها، والرواية العمانية الوحيدة التي قرأتها، كما ذكرت، في كتابة سابقة، هي رواية «سيدات القمر» ولكنها لم تشدني كثيرا، لدرجة أنني لم أخصها بمقالة في زاويتي في جريدة الأيام أو في زاويتي في موقع «رمان». ولما فازت الرواية بالجائزة خصصتها بسلسلة كتابات متعاقبة دفعت بعض المثقفين للنيل من أحد النقاد الذين لم يعجبوا بعمل أدبي ما حتى إذا ما فاز بجائزة التفتوا إليه وأبدوا إعجابهم به، وهذا موضوع آخر.
وأنا أقرأ «سيدات القمر» تذكرت كنفاني ثلاث مرات؛ مرة حين أصغيت إلى مقابلة مع الكاتبة بثتها فضائية الجزيرة في برنامج «المشاء»، وثانية حين قرأت «سيدات القمر « ولاحظت بناءها الفني، وثالثة حين توقفت أمام هجرة العمانيين إلى الكويت في خمسينات القرن الماضي بسبب الفقر والجوع في السلطنة.
في المقابلة قالت الكاتبة إنها حين تكتب لا تفكر كثيرا في القارئ، وهذا ما تختلف فيه عن كنفاني الذي التفت إلى قارئ الرواية والتواصل معه لا مع القراء النقاد فقط، وأكثر متابعيه يعرفون رأيه في هذا، فحين وجد القارئ صعوبة في قراءة « ما تبقى لكم « قرر الكاتب ألا يكتب بأسلوب تيار الوعي وتداخل الأزمنة وتعدد الأصوات وتداخلها، فهو كاتب صاحب قضية، ويهمه التواصل مع القراء بالدرجة الأولى.
في مقابلتها مع «الجزيرة» قالت جوخة الحارثي كلاماً يعبر عن موقف مغاير لموقف كنفاني، وربما وجب أن يتوقف أمام الكاتبة والجمهور الذي تكتب له.
ما سبق كنت أتيت عليه، ولكن ما لم أتوقف أمامه في الصلة بين الكاتبين هو الكتابة عن عمان في خمسينات القرن الماضي.
في قصصه القصيرة قصة قصيرة عنوانها «موت سرير رقم ١٢»، وهي تأتي على مواطن عماني سافر من قريته «أبخا» إلى الكويت بحثا عن الثروة، ولكراهيته مجتمع قريته الذي حرمه من الزواج من فتاة أعجب بها، وقصة محمد علي أكبر يتذكرها قارئها حين يقرأ «سيدات القمر» عن سنجر، فسنجر العبد يرفض أن يظل عبدا مهانا للتاجر سليمان في قرية «العوافي» الافتراضية، ويسافر هو وزوجته شنة إلى الكويت ليعمل هناك، وفي الكويت يستقر. كتب كنفاني قصته، موظفا أسلوب الرسالة، في العام ١٩٦٠، وبالتالي فإن حدث القصة غير بعيد عن زمن كتابتها، وكان الكاتب يومها يقيم في الكويت، وأرجح أن سنجر سافر إلى الكويت في تلك الفترة.
ويستطيع المرء أن يقرأ قصة كنفاني ورواية الحارثي معا فيما يخص موضوعات الفقر والهجرة والصلات الاجتماعية والحياة في المنفى، وهنا في الرواية يمكن أن يتوقف القارئ أمام قصة عيسى المهاجر الذي يقيم مع عائلته في القاهرة.
حين يصل محمد علي أكبر إلى الكويت ينتابه حنين إلى أبخا وينظر إلى الوطن من موقع آخر مختلف، وهذا ما نقرؤه في رواية الحارثي على لسان خالد ابن عيسى المهاجر، فهذا الذي أقام في القاهرة وقرر البقاء فيها يختلف موقفه حين تموت أخته، ويتخذ الوطن في لحظات العودة لدفن جثتها وبعد ذلك، مفهوما آخر ويبدأ الحنين والتفكير في العودة ويعود.
وتبقى النقطة الثانية وهي البناء الفني لـ «سيدات القمر» و «ما تبقى لكم».
كتب كنفاني «ما تبقى لكم» متأثراً بأسلوب تيار الوعي وتداخل الأزمنة والأمكنة وتعدد الأصوات، وهو ما عرفته الرواية العالمية في ثلاثينات القرن العشرين على يد ( جيمس جويس ) و ( وليم فوكنر)، وعرفته الرواية العربية في العام ١٩٦١ على يد نجيب محفوظ في روايته «اللص والكلاب».
قرأ كنفاني رواية (فوكنر) «الصخب والعنف» - التي نقلها لاحقا إلى العربية جبرا ابراهيم جبرا - وأعجب بها وتأثر تأثراً واضحاً بالفصل الثاني منها، وأقر في مقابلات أجريت معه بإعجابه بها وتأثره فيها، ولكنه بعد أن كتب روايته ونشرها لاحظ إشادة النقاد بها وعدم فهم القراء لها فآثر الكتابة بأسلوب بسيط سهل.
تداخل الأزمنة والأصوات وتعدد الساردين هو ما يغلب أيضا على رواية الحارثي، وهذا دفع بالعديد من القراء إلى عدم متابعة الرواية، وهو ما أقر به قراء مقالاتي الخمسة والأربعين التي نشرتها تباعا في أيار وحزيران وبداية تموز على صفحة الفيس بوك الخاصة بي.
إن أسلوب تداخل الأزمنة وتعدد الأصوات والساردين أسلوب عرفته الرواية العربية بعد محفوظ وكنفاني وقرأناه في رواية الطاهر وطار «الزلزال» ورواية عبد الرحمن منيف «شرق المتوسط» وروايات أخرى، وقد لفت هذا الأسلوب أنظار الدارسين.
وجوخة الحارثي أستاذة جامعية حصلت على الدكتوراه من جامعة (ادنبرة) في المملكة المتحدة، وهي لا شك على اطلاع على الرواية العربية والعالمية، فهي تقرأ باللغتين العربية والإنجليزية.
هل قرأت الكاتبة غسان كنفاني أم أن ما أراه لم يخطر ببالها؟
وأيا كان الأمر فثمة تقاطعات بين رواية «سيدات القمر» وبعض أعمال كنفاني موضوعاً وأسلوباً.
في الذكرى الحادية والخمسين لاستشهاد الأب المؤسس للرواية الفلسطينية نتذكره ونضع على قبره باقة ورد ولو مجازاً.

2019-07-07

***

5- فارس فارس لا يفهم هذا الشعر

في العام الماضي، كنت ألتفت إلى كتاب غسان كنفاني «فارس فارس» الذي أعده للنشر وكتب له مقدمة مطولة الناقد اللبناني محمد دكروب. حين عدت الى ملاحظاتي التي دونتها، وجدتها كثيرة، لعل أهمها آراء غسان الشعرية. لغسان مقال بعنوان «شعراء متهمون بالغش والتزوير» أتى فيه على ما يصدر في العراق من دوريات أدبية، ومنها مجلة «الأديب المعاصر». كتب: «ورابعة ملاحظاتنا تتعلق بقضية الشعر، ففي المجلة ٧ قصائد، جميعها من الطراز الحديث، وإنني لراغب حقاً في مصارحة شجاعة هنا، وهي باختصار: إنني لا أفهم شيئاً من هذا الشعر» (ص ١٧٨). وملاحظته لا تقتصر على القصائد السبع التي أعجب بقسم منها، فهي تشمل أكثر الشعر الذي كان يُنشر في أيامه، ويعلن غسان: «إني لا أفهم هذا الهذيان، وقد آن الأوان لنتخلى عن خشيتنا من أن نتهم بالجهل، ونبدأ بتأسيس ناد يضم بين صفوفه جميع الذين لديهم الجرأة على الإقرار بأنهم عجزوا عن فهم واستيعاب هذا الشعر» (ص١٧٨).

طبعاً يذهب غسان الى ما هو أبعد من ذلك: «وسيكون على هذا النادي أن يلقي القبض في كل مكان على الشعراء هؤلاء، ويقدمهم الى المحاكمة بتهمة الغش والتزوير، مثل الذين كانوا يضحكون على أجدادنا بكتابة أحجية غير مفهومة، وكان أجدادنا يصابون بالذهول أمام تعقيد تلك الكتابة، ليس لأنهم فهموا، ولكن لأنهم يزدادون شعوراً بالجهل» (١٧٨). وأنا أقرأ «فارس .. فارس»، قلت: لقد التُفت الى غسان روائياً وقاصاً ومسرحياً ودارساً وكاتب مقالة، ولكن لم يلتفت إليه ناقداً، ناقد شعر وناقد قصة قصيرة وناقد رواية. هل تذكرت الشاعر محمود درويش وأنا أقرأ مقالات غسان؟
لغسان كنفاني مقال بعنوان «كفى، لا تطرطشونا بلعاب الحماس». وفي مقاربة لمجموعة قصصية بعنوان «لا تشتروا خبزاً، اشتروا ديناميت» للكاتب خليل فخر الد ين، لا ينكر غسان أن كاتب القصص لا يخلو من بريق الموهبة هنا وهناك، لكن ما أخفاه ــ أي بريق الموهبة ــ الى حد بعيد هو تلك الموجة العصبية من الوطنية الساذجة، المتحمسة على حساب البناء الفني، وعلى حساب الهيكل العظمي والعضلي والعصبي والجمالي لكل قصة، فـ «كتابة قصة ناجحة عمل وطني أيضاً، ولو فعل مكسيم غوركي مثلما فعل خليل فخر الدين لتأخرت الثورة البلشفية قرناً كاملاً على الأقل» (ص93). وأنا أقرأ ما سبق لغسان، تذكرت محمود درويش وفهمه، لاحقاً لشعر المقاومة، حين ألقى كلمة في حفل توقيع ديوانه «كزهر اللوز او أبعد» قال كلاماً لا يختلف في مضمونه عن كلام غسان السابق. إنّ كتابة قصيدة جميلة وناجحة فنياً هي عمل مقاومة.
وسأتذكر درويش ثانية وأنا أقرأ مقالة غسان «نادي المنتفعين باللغة العربية» (ص١٩٦). في هذه المقالة، يناقش كنفاني تعابير أدبية لنزار قباني (كان قد أتى على نزار والجواهري في مقالة «جواهر الجواهري وقبان القباني» وردت في كتابه «عن الشعر والجنس والثورة») منها: «إنني سافرت من القاموس وأعلنت عصياني على مفرداته» و«تحولت الكلمة الى فرس رفض سرجه وفارسه وانطلق في براري الشعر»... وسيناقش كنفاني مقولات نزار وسيطالبه في النهاية بالتالي: «لكن، يا سيدي يا نزار قباني: لماذا لا تظل تكتب شعراً وتعفينا من رأيك بهذا الشعر، ومن فلسفتك لذلك الشعر، وترجمتك وحواشيك وهوامشك؟». وسيسخر كنفاني من عبارات نزار وبعض مفاهيمه بكتابة عبارات على غرار عبارات نزار، ولغة على غرار لغة نزار. لماذا تذكرت محمود درويش؟ محمود يكتب شعراً جميلاً، لكنه أحياناً يكتب نثراً على غرار نثر نزار أيضاً، وربما أكون مخطئاً.
هل تذكرت شيخي اميل حبيبي أيضاً وأنا أقرأ «فارس.. فارس»؟ بالتأكيد، فغسان في مقالاته يبدو ساخراً جارحاً حاداً، ولا أدري أيهما أسبق في كتابة المقالة النقدية الساخرة. في كتابات غسان عن الكاتب اللبناني الساخر سالم الجسر (ص٨٦) تذكرتُ اميل وتلاعبه باللغة واشتقاقاته وتحويراته، فغسان كان له ــ في مقالاته لا في رواياته ـــ باع في الأمر. كل عام وغسان كنفاني بخير.

12 تموز 2012

***

6- بين كنفاني وجورج حبش

للناقد (ميخائيل باختين) رأي نقدي مقنع، غالباً ما أستشهد به وهو: إن كل كلام غير كلام آدم، عليه السلام، لا يخلو من تناص، إذ إن كلام ابن آدم يعتمد على كلام ابيه. ولما كنت نشأت في بيئة اسلامية، وقرأت الآية (وعلم آدم الأسماء كلها) فإنني أغيّر، أمام الطلبة، كلام (باختين) وأقول: إن كل كلام غير كلام الله هو كلام لا يخلو من تناص، فالله هو الذي علم آدم، والاخير علّم، بدوره، أبناءه. وسأقول للطلبة: إن الكلام الذي أنطق به امامكم ليس كلامي أنا. إنه كلام الذين اصغيت اليهم، وتعلمت منهم، وقرأت لهم، ربما أضيف جملة هنا، وثانية هناك، ولو لم أقرأ وأثقف نفسي، لما استطعت أن أتكلم ساعة كاملة، وغالباً ما أقارن بين ما كنت عليه، وما غدوت عليه، وأطلب من الطلبة ألا يرتبكوا حين يراجعون كتاباً ما.
تذكرت كلام (باختين) وأنا أفكر في كتابة كلمة رثاء لمناسبة رحيل الحكيم جورج حبش، لم أعرف الرجل، ولم أقرأ له الكثير، سمعت عنه، وقرأت بعض مقالات كتبها، وبعض مقابلات اجريت معه، ومقالات قليلة كتبت عنه، في حياته، وبعد رحيله. ولما كنت اعرف أن هناك صلات وثيقة كانت بينه وبين الشهيد غسان كنفاني، في الكويت وفي بيروت، فقد استنجدت بنصوص الأخير القصصية والروائية، أبحث فيها عن صورة الحكيم أو صوته، فلا شك في أن كنفاني ثمن حبش عالياً، ولا شك أيضاً في أنه تأثر به أو أثمر فيه، من خلال الساعات الطويلات التي انفقاها معاً.
في أعمال كنفاني الكاملة التي بحوزتي ورقة منفصلة كتبها جورج حبش عن الشهيد كنفاني، وألقاها لمناسبة ذكرى استشهاده، أتى فيها على آراء غسان ودوره في فكر الجبهة ومشروعها، إذ كان يلح على ضرورة نقل المعركة الى داخل فلسطين، وذكر الحكيم أن كنفاني هو الذي صاغ تقرير الجبهة الذي أعد عن مؤتمرها في العام 1972، وأشار الى أن هناك اسلوبين في التقرير الاول له والثاني الذي يمتد من ص 60 الى ص 185، صاغه غسان. هكذا أقر الحكيم بتأثره بغسان وبدور الأخير في فكر الجبهة وبلورته وصياغته.
يبقى الجانب الثاني وهو أين هو الحد الفاصل بين كلام الاثنين في أعمال كنفاني الأدبية؟ أين هو كلام غسان وأين هو كلام الحكيم؟ إن ما كتبه غسان في رواياته يعكس، الى حد كبير، فكر الجبهة الذي نطق به أمينها العام في المؤتمرات والندوات والحوارات والمقابلات. لقد جسده غسان من خلال نماذج بشرية، وإلا فهل كان سؤال أبي الخيزران في رواية “رجال في الشمس” )1963( سوى سؤال غسان نفسه وضعه على لسان الشخصية؟ وهل كان كلام سعيد س. في “عائد الى حيفا” )1969( كلاماً آخر غير كلام غسان، ورؤية الجبهة الشعبية أيضاً؟ وهل كانت رواية أم سعد )1969( بعيدة عن طروحات الجبهة الشعبية أيضاً؟
في قصته القصيرة “درب الى خائن” )1957( يكتب كنفاني عن أبناء مدينة اللد، مدينة الحكيم، ويأتي على قصة مواطن لاجئ أقام في الكويت، وقرر أن يتسلل الى اللد ليقتل أخاه. ما منعه في البداية يتمثل في حبه لأمه التي كانت على قيد الحياة، وحين ماتت قرر أن ينجز المهمة: أن يقتل أخاه. لماذا؟ لأنه تعامل مع الاسرائيليين وخان أبناء عمه ووشى بهم. وعموماً فإن القصة تطرح فكر الجبهة الشعبية في تحرير فلسطين، قبل تشكل الجبهة. ليست رابطة الدم مقدسة، وإذا كان لا بد من تحرير فلسطين، فلا بد أولاً من تحرير البلدان العربية من أنظمتها التي تعيق حركة الثوار، وتضع الحواجز أمام فعلهم.
وأنا أقرأ كلمات الرثاء لجورج حبش، وأنا أقرأ أيضاً ما كتب عن حياته في الصحف وفي الكتب، ألتفت الى تجربة خروجه من اللد، والى ما شاهده على الطريق من جثث القتلى الفلسطينيين الذين أخرجوا من مدينتهم وقراهم، وقد أشار الى هذا ايضاً الكاتب الاسرائيلي (ايلان بابيه) في كتابه: “التطهير العرقي” (2006)، وذكر جورج حبش وتأثير الهجرة عليه. سيترك هذا الحادث تأثيراً عميقاً على حياة الحكيم الذي سيؤسس الجبهة الشعبية من أجل استعادة وطنه، ولن يلتفت الى حياته الخاصة، فقد كان بإمكانه أن يمارس مهنة الطب، وأن يحيا حياة مستقرة هادئة، وكان بإمكانه أن يبتعد عن السياسة ومركبها الوعر.
سأبحث في قصص غسان عن قصة تصور تشرد الحكيم في العام 1948، فلا أجد. وسأسأل نفسي: لماذا؟ فلا شك في أن حبش قص القصة على غسان غير مرة. وسأجتهد: ربما رأى غسان في تجربة الحكيم شبيهاً لتجربته هو، تجربته التي مر بها حين غادر وأهله عكا، ولقد عكس هنا التجربة في قصة “أرض البرتقال الحزين” إن لم تخني الذاكرة. فهل من ضرورة للتكرار؟
ربما تذكر المرء الحكيم، وهو يتابع فصول حياته، ربما تذكر المرء وهو يقرأ رواية غسان: “عائد الى حيفا”. وربما يكون العكس أصح، ففي سيرة الحكيم ما يذكر برواية غسان.
زار سعيد. س حيفا، بعد هزيمة حزيران 1967، وحاور ابنه خلدون الذي غدا (دوف) وأدرك سعيد أن العودة الصحيحة هي أن يعود منتصراً، لا من خلال تصاريح زيارة اسرائيلية، ولكي يتم ذلك، فلا بد من حرب ينتصر فيها الفلسطيني ليحاور الاسرائيلي من منطلق الند للند. ولم ير الحكيم في اتفاقات اوسلو ما يشجعه على العودة، العودة الناقصة. انه يريد العودة الى اللد، لا الى رام الله فقط، وربما لهذا آثر البقاء في المنفى. هل مارس الحكيم بسلوكه ما أثاره كنفاني على لسان سعيد؟ ربما، بل أكاد أجزم.

12/23/2020

***

7- بين البدايات والنهايات.. كنفاني ودرويش والقارئ

بعد أن أنجز الكاتب غسان كنفاني روايته “ما تبقى لكم” (1966) ذات الأسلوب الفني الذي يحتاج إلى قارئ مميز، وذلك لتعقد الأسلوب من حيث تداخل الأصوات المتعددة دون تحديد واضح لمصدر الصوت، تراجع عن توظيف هذا الأسلوب واستبدله بآخر أسهل وأوضح، وهو ما يلحظ في روايتيه “عائد إلى حيفا” (1969) و”أم سعد” (1969). وقد أبدى المؤلف رأيه في العودة إلى الأسلوب الذي بدأ فبه كتابته الروائية في روايته “رجال في الشمس” (1963)، وتراجعه عن الاستمرار في الكتابة بالأسلوب الذي بدا في “ما تبقى لكم”، على الرغم من أن هذا كان جديداً في الأدب العربي، حيث لم يوظفه إلا نجيب محفوظ، وعلى الرغم من أنه كان أحدث الأساليب في الرواية الغربية التي تأثر بها كنفاني.

يوضح كنفاني السبب الذي حدا به إلى عدم مواصلة الكتابة بأسلوب “ما تبقى لكم”- أي أسلوب تيار الوعي والأصوات المتعددة المتداخلة- فيقول:

“في الواقع رواية “ما تبقى لكم” هي قفزة من ناحية الشكل، ولكنها أثارت بنفس الوقت تساؤلات بالنسبة لي: “لمن أكتب أنا؟” هذه الرواية قلة يستطيعون من بين قرائنا العرب أن يفهموها. فهل أنا أكتب من أجل أن يكتب أحد النقاد في مجلة ما، إنني أكتب رواية جيدة أم أنا أكتب من أجل أن أصل إلى الناس وأن تكون هذه الرواية شكلا من أشكال الثقافة الموجودة في مجتمعنا، والتي من واجب المثقف أن يتعامل فيها مع الناس؟” (ص87).

ويرى كنفاني أنه ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة..والإنجاز الفني الحقيقي هو أن يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة” (ص87).

وتعقب رضوى عاشور في كتابها “الطريق إلى الخيمة الأخرى: دراسة في أعمال غسان كنفاني” (1977) على كلام كنفاني، وتذهب إلى أن غسان هنا “يطرح المعادلة الصعبة التي يواجه بها غالبية الكتاب التقدميين في العالم الثالث. هذه المعادلة هي كيفية التوفيق بين جودة الفن وجماهيريته” التي ينحاز إليها-أي إلى الجمهور-، دون أن يفرط الأديب بجودة فنه. وتتوقف الدارسة أمام سؤال آخر لم يخطر على بال كنفاني وهو: ما مدى مناسبة تيار الشعور كأسلوب روائي لكاتب يضطلع بمهمة تأكيد ذات الجماعة والتعبير عنها؟ أسلوب روائي برز نتيجة لإيمان الكاتب الغربي بتحطيم وحدة الوجود وعزلة الإنسان داخل العالم وفقدان الثقة في حقيقة موضوعية.

ولئن كان سؤالها الثاني مهما فإن ما يهمنا هنا هو موقف كنفاني من جمهور القراء، وانحيازه للكتابة الواضحة القادرة على الوصول إليهم، وهذا يحيلنا إلى الفكرة الأساس التي كانت الدافع لكتابة هذه المقالة، وهي علاقة محمود درويش بقرائه وبالقراء عموما وأهمية الناحية الجمالية في أشعاره.

في المقابلة التي أجراها، مع الشاعر، كل من (يعقوب بيسر) ومحمد حمزة غنايم، المقابلة التي نشرت بالعبرية وترجمت إلى العربية ونشرت في الاتحاد الحيفاوية 14/4/2000، في المقابلة هذه يُسأل درويش عما سيكتب بعد عودته وبعد حل قضية شعبه، وهل سينتهي شاعراً أم أنه تطور؟ ويجيب على ذلك بأنه يعتقد أنه، بعد عودته، تطور، وانه يحس بأنه أكثر تحرراً من المطالب القومية المعينة هذه. وحين يسأل سؤالاً ثانياً عن علاقته بالقراء واحتمال خسارة القراء نتيجة هذا التغيير يجيب:

“ثمة مفارقة في الأمر. منذ 15 عاما وأنا محط هجوم الجوقة المتحدثة باسم القراء- ولكنها لا تقرأ بنفسها- بأن قصائدي أكثر تركيباً وعسيرة على الفهم، وإن مجازيتي تتطور وإيقاعاتي تتغير وبأنني في الطريق لخسارة القراء، لكن في كل مرة أنشر فيها كتابا، يكون لي المزيد من القراء. عندما أذهب إلى أمسية شعرية، في بيروت، مثلا، كما حدث معي قبل شهرين، أتيقن أنه كلما تطورت أضيف لي المزيد من القراء. ممنوع أن نفترض بأن القارئ لا يستوعب شيئا مما يقرأ. القارئ أنا وأنت، والقاعدة الثقافية للقارئ تتسع هي الأخرى. وعموما، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور”.

وكان الشاعر، في المقابلة التي أجريت معه ونشرت في مجلة “الشعراء” (رام الله)، في ربيع وصيف 1999، في العدد المزدوج الرابع والخامس، كان الشاعر قد تحدث مطولا عن الذائقة الشعرية وضرورة تطويرها لدى الشاعر والقارئ معا، كأنه بذلك يتحدث عن دور المبدع في الخروج عن المألوف والإتيان بالجديد غير المألوف الذي يسبب للقارئ صدمة تنجم عن الفارق بين ما اعتاد عليه وما يقرأه من جديد، صدمة سببها المسافة الجمالية بين القديم والمعتاد والجديد غير المعتاد. ولعل العبارة المهمة في الفقرة المقتبسة هي تلك التي يبدي فيها الشاعر استعداده لأن يخسر جمهور القراء مقابل تفضيله أن يتطور جماليا. إنها العبارة الناصة:

“وعموما، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور”.

ومن المؤكد أن هذه العبارة هي النقيض التام لقول الشاعر في بداية حياته:

“قصائدنا، بلا لون
بلا طعم… بلا صوت!
إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت!
وإن لم يفهم “البُسَطا” معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن… للصمت!!”

أو لقوله: إنا نحب الورد/ لكنا نحب القمح أكثر، أو لقوله: أحد الشعراء يقول:/ لو سرت أشعاري خلاني/ واغاظت أعدائي/ فأنا شاعر../ وأنا سأقول!

ثمة انحيازان مختلفان؛ انحياز للقارئ مقابل التضحية، إلى حد ما، بالقيمة الجمالية، وانحياز للجمال مقابل التضحية، إلى حد ما، بالقارئ. وأكرر عبارة إلى حد ما، فدرويش في بداية حياته لم يكن يضحي كليا بالناحية الجمالية، وكان هذا يسبب له الحرج أمام رفاقه الأيديولوجيين، تماما كما أنه لم يضح، الآن، بالقارئ، وإن كانت عبارته في المقابلة توحي بذلك، وهي- أي عبارته- لا تقول ما يقوله شعره، فهذا- أي شعره- قابل، إلى حد كبير، لأن يفهم من القراء المثقفين، وأقول إلى حد كبير لأن هناك قراءً كثيرين يقرأون الشاعر ويدافعون عن شعره، والذين لا يفهمون بعض شعره هم أولئك “البسطا” الذين كان درويش يقرأ على مسامعهم الشعر، في القرى الفلسطينية، يوم كان مقيماً في فلسطين قبل عام 1970- أي قبل مغادرته الوطن إلى المنفى.

بدأ كنفاني حياته الروائية والقصصية، وهو يكتب بأسلوب واضح، ثم جارى الرواية العالمية، فأنجز “ما تبقى لكم”، وحين أصغى إلى ردود الفعل، عاد ليكتب بأسلوبه الأول، وهكذا انحاز إلى المحتوى أكثر من انحيازه إلى الشكل، وبدأ درويش حياته الشعرية، وهو يكتب القصائد الواضحة، وكان يدافع عن هذا، وآل إلى كتابة قصائد تختلف عن قصائده الأولى، ولا أقول أنه انحاز للشكل وتخلى عن المحتوى، ولكنه هو نفسه كان مرّ فيما مرّ فيه كنفاني. فدرويش الذي تأثر بالشعر العربي الحديث بعد خروجه من الأرض المحتلة،- أي بعد عام 1970-، وانجز قصائد “محاولة رقم 7” (1974)، عاد في غمرة الحرب الأهلية في لبنان إلى كتابة قصائد واضحة، وهو ما بدا في مجموعة “أعراس” (1977)، حيث كتب:

“أنا شاهد المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلمات البسيطة”

وكتب في قصيدة “نشيد إلى الأخضر” التي ظهرت في “أعراس”:

“وأنا أكتب شعراً، أي: أموت الآن. فلتذهب أصول الشعر وليتضح الخنجر ولينكشف الرمز: الجماهير هي الطائر والأنظمة الآن تسمى قتلة”.

وهو مقطع تخلى عنه الشاعر في أعماله الكاملة (ط14 الصادرة عن دار العودة 1996). وتخلي الشاعر عنه قد يعود أيضا لأسباب سياسية منها تهادن الشاعر مع النظام السياسي العربي، لأنه- أي الشاعر- كان بحاجة إلى هدنة أمام غابة السنديان.

ولا ندري ما الذي كان سيفعله كنفاني لو امتد به العمر! أكان سيعود إلى تفضيل قضية الشكل أم أنه سيظل يكتب روايات على غرار “أم سعد”؟

ترى ما العوامل التي جعلت محمود درويش يقول:

“وعموماً، فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت- كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك، أفضل أن أتطور”.

سوف أوجز هذه العوامل، ذلك أنني تطرقت إلى أكثرها بتفصيل بيِّنٍ في دراستي “محمود درويش: حذف البدايات وقصائد أخرى” (انظر مجلة مجمع اللغة العربية، العدد الثاني، صيف 2000):

أولا: كان درويش في بداية حياته الشعرية ماركسياً يتبنى الواقعية الاشتراكية، وتركز هذه على حزبية الأدب والأديب وشعبية الفن، ولهذا كتب درويش قصائد يفهمها البسطاء، عدا أنّ إمكاناته في حينه لم تكن تسمح له بكتابة أكثر مما كتب. وأما كنفاني فلم يتبنَ الماركسية إلا بعد هزيمة 1967، وعليه فقد أخذ يكتب للجماهير بوحي من الأفكار الجديدة التي اعتنقها، وهي أفكار لم يكن اقترب منها يوم كتب “ما تبقى لكم”، إذ كان، في حينه، واحداً من المثقفين العرب الذين يقرأون الأدب الوجودي والأدب العالمي ويتأثرون بأسئلته وبشكله أيضا.

ثانيا: بعد خروجه من الأرض المحتلة عاش درويش أجواء المثقفين العرب في بيروت، وتأثر بأبرز رموز الحركة الشعرية، وبخاصة أدونيس، ولم يعد الشاعر ماركسيا حزبيا، ولم يعد يقرأ أدبا ذا توجه واحد. لقد نهل من مشارب أدبية عديدة؛ شرقية وغربية، وأراد أن يرد على أولئك الذين رأوا في شعراء الأرض المحتلة شعراء رفعتهم قضيتهم، فكتب شعراً لا يكرر الشعار وحسب، وإنما يرتقي جماليا ليوازي الشعر الذي كتبه أبرز الشعراء العرب في حينه. وما من شك في أن ثقافة المرء تترك أثرها على نتاجه، وهذا ما حدث مع الشاعر الذي وجد نفسه أيضا متحرراً من خلية الحزب التابعة لخلية فخلية فقيادة تطلب منه أن يكون شاعراً جماهيريا. وخلافا له فقد التزم كنفاني بعد عام 1967 بالجبهة الشعبية، وغدا عضوا بارزا من أعضائها. لقد غدا حزبيا في الوقت الذي تحلل فيه درويش من الحزب.

ثالثا: تغير الظروف والمعطيات ما بين 1967 و2000:
لقد تراجعت في السنوات العشرين الأخيرة حركة المقاومة الفلسطينية وانهار الاتحاد السوفيتي، وخسرت الحركة القومية العربية معاركها معركة معركة. خرجت المقاومة من بيروت، وأُقصيَ الحزب الشيوعي عن الحكم، وهزمت العراق، ودخل العرب عهد الصلح مع العدو دون أن ينجزوا الحد الأدنى مما اتفقوا على ضرورة إنجازه- أعني الانسحاب من المناطق المحتلة عام 1967، وإذا كانت دولٌ بكاملها تغيرت فلماذا لا يتغير الموقف من الشعر. كان الشاعر يعتقد أنه مصلح وقائد، وأنه يستطيع من خلال شعره أن يُغيّر ويُثَوّر، ولكنه عجز عن ذلك، بل ورأى من يملكون القرار والإمكانيات أعجز من إنجاز ذلك، فلماذا إذَن لا يتخلى الشاعر عن اعتقاده السابق بدوره.

رابعا: تراجع مكانة الشعر:
لم يعد جمهور الشعر، الآن، كما كان سابقا. وليس هذا مقتصراً على الجمهور العربي، ومن يطالع ما يكتب عن دور الشعر وقرائه في العالم يعرف أن قلة قليلة من القراء هي من تحتفي بالشعر. ففي باريس مثلا لا يطبع من الديوان الواحد أكثر من ألف نسخة لأربعين مليون، وقد حدا هذا بكاتب عربي إلى أن يكتب قبل عشرين عاما مقالة عن تراجع مكانة الشعر لصالح الرواية وإلى التساؤل إن كانوا، الآن، يدقون آخر مسمار في نعش الشعر. وفي ألمانيا كتب ناقد ألماني قبل عام تقريبا – أي في 1999-، مقالة يظهر فيها أن ما يخيف الناشرين ويرعبهم هو طباعة مجموعات شعرية، ولم تشذ عن هذا سوى شاعرة ألمانية هي (أولا هان). ويمكن قول الشيء نفسه عن جمهور الشعر في العالم العربي، ومحمود درويش، بالإضافة إلى أسماء شعرية قليلة، يعد استثناءً، وحتى درويش نفسه لا يُقرأ إلا من جمهور معين، فلا الباعة ولا الفلاحون ولا صناعيو المدينة يقرأونه، وعليه فليس غريبا أن يكتب الشاعر ويطور ذائقته الشعرية، ساعيا في الوقت نفسه إلى تطوير ذائقة هذا الجمهور- أي الذين يحبون الشعر ويقرأونه.

وعلى الرغم من كل ما سبق، وهو كلام قابل لأن يناقش، تبقى عبارة محمود درويش “فإنني لا أخسر القراء، وإذا خسرت-كثمن لتطوري- فأنا مستعد لذلك. أفضل أن أتطور” تبقى عبارة خطيرة، ذلك أن الشاعر يفضل الشعر على الجمهور، أعني جمهور الشعر. وهذا يعني انحياز الشاعر للجمال، لا للإنسان، والسؤال الذي يثار هو: ما قيمة الجمال بلا إنسان يستمتع به؟، وهو سؤال يوجه للشاعر نفسه. حقا ما قيمة الجمال بلا إنسان يستمتع به، وما قيمة أجمل القصائد دون قراء، بل هل هناك من ضرورة للشعر الصافي دون أن يكون له قراء؟ ونظرية التلقي، وهي من أحدث النظريات النقدية، ترى أن لا قيمة للأدب ولا وجود له إلا من خلال قارئ يعطي الأشياء مكانتها وحضورها وقيمتها، إذ دونه ستظل الكلمات حروفا باردة ولا حياة فيها ولا نبض لها. آمل أن يفكر الشاعر الكبير بهذا، وأن يفكر أيضا بموضوع الجمهور جيدا، فجمهوره الذي يزداد، وقراؤه الذين يزدادون يشكون أيضا، أحيانا، من صعوبة شعره. ومع أنني شخصيا قد أنحاز لدرويش في بعض ما يذهب إليه، وبخاصة فيما يتعلق بضرورة تطوير القصيدة، إذ لا ضرورة لمئات القصائد المتشابهة، إلا أنني أحيانا، أرى أن من يقرأون الشعر، وهم طلاب قسم اللغة العربية في الجامعات، هم من يشكون من صعوبة استيعاب قصائد الشاعر، وأنهم لا يتذوقونها إلا بعد شرحي لها، وهذا طبيعي ومنطقي، فإذا ما تخلى درويش عن هؤلاء القراء فمن سيبقى له؟ وهل ستصبح قصائده مثل الشعار على الجدار؟ وحينئذ ما قيمتها؟

لدرويش أن يقول رأيه، ولنا أن نناقشه أيضا!! حقا ماذا تساوي شهادتي وثقافتي وأنا وحيد في قاعة الدرس؟ وما قيمة كتابتي هذه إذا لم تجد من ينشرها أولا ومن يقرأها ثانيا.

16/07/2020

***

8- غسان كنفاني وثيودور هرتسل: صراع الخطابات

هل قرأ غسان كنفاني رواية (ثيودور هرتسل): "أرض قديمة ـ جديدة" التي أشار إلى أنها ترجمت إلى العربية، وذلك في كتابه "في الأدب الصهيوني"؟
في روايته "عائد إلى حيفا" يذكر كنفاني من الروايات الصهيونية التي درسها في كتابه، وهي عديدة، يذكر رواية (آرثر كوستلر) "لصوص في الليل" فهذه هي التي قد تكون شكلت لليهودي القادم إلى فلسطين، وهو (ايفرات كوشن)، فكرة عن فلسطين: فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ولكن الواقع كان غير ذلك، فحين وصل (ايفرات) إلى فلسطين وأقام في حيفا شاهد حرباً تجري، فمع من كانت تلك الحرب إن كانت البلاد بلا سكان؟ وسواء أقرأ كنفاني "أرض قديمة ـ جديدة" أم لم يقرأها، فإن الروايات التي درسها كنفاني "اكسودس" و"لصوص في الليل" و"نجمة في الريح" وغيرها، قد خرجت من معطف رواية (هرتسل)، وهكذا يكون خطاب أبطال كنفاني الفلسطينيين في صراع مع خطاب الرواية الصهيونية بشكل عام.
هل أخطأ الدارسون الذين قالوا إن "عائد إلى حيفا" هي رواية أفكار؟ تحفل الرواية عموماً بخطابين متعارضين هما الخطاب الصهيوني والخطاب الفلسطيني الذي يدحضه. وهكذا فإن أعمال كنفاني أعمال تصلح لأن تدرس حين يدرس المرء صراع الخطابات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. إن سعيد. س بطل "عائد إلى حيفا" ـ وهو قناع لكنفاني ـ حين يرد على دوف، إنما يمثل الخطاب الفلسطيني في رده على الخطاب الصهيوني.
بل إن ما يقوله سعيد. س لزوجته صفية التي ترى حيفا بعد 1967، بعد غياب 20 سنة عنها، هو في جانب منه دحض للفكرة الصهيونية التي أظهرها (هرتسل) في روايته: فلسطين أرض خربة ومستنقعات وجزء من الشرق البائس، وحين يعود إليها اليهود ستغدو جزءاً من الغرب الحضاري. عشرون سنة تكفي لأن تتحول فلسطين إلى قطعة من أوروبا لا تقل جمالاً وتطوراً عن فرنسا وسويسرا وألمانيا. فماذا قال سعيد. س لزوجته التي أبدت اندهاشها مما رأت؟ "أنت لا ترينها، إنهم يرونها لك".
"لقد فتحوا الحدود فور أن أنهوا الاحتلال فجأة وفوراً، .... ذلك جزء من الحرب. إنهم يقولون لنا: تفضلوا انظروا كيف أننا أحسن منكم وأكثر رقياً. عليكم أن تقبلوا أن تكونا خدماً لنا، معجبين بنا.. ولكن رأيت بنفسك: لم يتغير شيء.. كان بوسعنا أن نجعلها أحسن بكثير...".
ربما بدا صراع الخطابات في الرواية أوضح أكثر حين يتجادل سعيد. س مع ابنه خلدون الذي غدا دوف، فما قاله الأخير هو ما تعلمه. إنه الفكر الصهيوني مجسداً. غداً تمر الذكرى الحادية والأربعون لاستشهاد كنفاني والصراع هو الصراع. مات (هرتسل) وجاء (نتنياهو)، فهل ثمة فرق بينهما؟ واستشهد كنفاني وما زالت كتابته تقرأ، فماذا كان سيكتب عن الفرق بين (بنيامين ثيودور هرتسل) و(بنيامين نتنياهو) لو بقي حيا؟

2 ـ بنيامين ثيودور هرتسل وبنيامين نتنياهو:
وأنا أقرأ الترجمة العربية لرواية (بنيامين ثيودور هرتسل) الوحيدة "أرض قديمة ـ جديدة (الترجمة العربية 1968، وصدور الرواية بالألمانية 1903) غالباً ما ذهبت إلى أن (هرتسل) أكثر تقدمية من (نتنياهو).
كأنني ألجأ إلى ما لجأ إليه النقاد الماركسيون حين فسروا أعمال (بلزاك) الفرنسي و(كافكا) التشيكي.
كان (بلزاك) ينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية الفرنسية (ق19)، وكان في مقالاته السياسية يدافع عنها، وحين كان يكتب رواياته كان يصور حياتها وبيوتها وبذخها وسلوكها وتصرفاتها. وحين كان النقاد الماركسيون يقرؤون رواياته كانوا يرون أنها تفضح تلك الطبقة، وهكذا كانت الروايات ذات محتوى إيجابي تقدمي، قياساً للمواقف السياسية المتخلفة ـ وفق الرؤى النقدية الماركسية.
وكان (كافكا) محبطاً ضجراً سوداوي النظرة إلى الحياة، ولم يحيَ حياة أسرية هادئة، فقد كتب رسالة إلى أبيه يفصح له فيها عن سلوكه الشائن في تعامله معه، إذ فضل أبوه الأخ عليه.
ولم يكن (كافكا) ماركسياً، أيضاً، ليكتب من منطلق ماركسي، فيرى العالم عالمين: العالم الرأسمالي المتغوّل، والعالم الاشتراكي العادل، وحين كتب (كافكا) روايته "أمريكا" وقصته الطويلة "التحول/ المسخ" وغيرها، صوّر بشاعة العلاقات الإنسانية في المجتمع الرأسمالي، دون موقف مسبق واعٍ. وقد رأى النقاد الماركسيون في أعماله فضحاً للعلاقات الإنسانية في المجتمع الرأسمالي. هل كان (كافكا) سيذهب معهم ويوافقهم على تفسيرهم لو امتد به العمر حتى مؤتمر (براغ) (1964) حيث قرؤوا أعماله فيها في حقبة الاشتراكية، هو الذي عاش في (براغ) قبل حقبتها الاشتراكية؟
(هرتسل) الذي صور في روايته حياة اليهود في المنفى، ولاحظ أنهم يختلفون فيما بينهم، فثمة يهود فقراء معدمون، وثمة يهود أثرياء، ولاحظ، أيضاً، معاناة اليهود في المجتمعات الأوروبية، حيث اعتبرت كلمة يهودي شتيمة، وحيث منعوا من ممارسة الكثير من المهن، وفضل عليهم غير اليهود، (هرتسل) قرر أن يجد حلاً لمشكلة هؤلاء اليهود في المنفى، وهكذا فكر في تأسيس الدولة اليهودية وإعادة اليهود إلى فلسطين: الأرض القديمة ـ الجديدة، وعمل على هذا. هل أراد (هرتسل) إقامة دولة يهودية؟ ثمة كتاب له عنوانه "الدولة اليهودية"، ويقول العنوان إنه يريد دولة يهودية، لكن ماذا تقول الرواية؟
في فيينا يتعرف (فردريك ليفنبرغ) إلى الطفل اليهودي الشحاذ (ديفيد لوتفيك)، ويزور عائلته في بيتها، فيرى الفقر والبؤس والعوز، وهكذا يتصدق (فردريك) على العائلة ويحسن إليها فيغدو المتبرع المفضال، ويحث العائلة، لاحقا، على الهجرة إلى فلسطين، حيث أرض الآباء والأجداد، وهناك تفيض الأرض لبناً وعسلاً، ويمكن أن تقيم العائلة في بيت صحي، وتكد وتعمل وتعيش من وراء عرقها، لا من إحسان المحسنين وتفضل المتفضلين، وهذا ما يتم، إذ تتغير أحوال هذه العائلة رأساً على قدم، وتغدو عائلة تملك منزلاً صحياً ونظيفاً، لا عائلة تقتسم الغرفة الواحدة مع ثلاث عائلات أخرى، تعاني من تهديد المؤجر بالطرد إذا لم تدفع ما عليها من إيجار.
في منافسة انتخابية بين (ديفيد لوتفيك) وصهيوني آخر هو السيد (غايار)ـ ويكون هذا متعصباً، لا يتحدث (ديفيد) عن دولة يهودية تضطهد الآخرين وتتعالى عليهم وتحتقر دياناتهم وتهدم أماكن عبادتهم. وأرجح أن كلام ديفيد هو كلام (هرتسل) نفسه الذي تأثر بالفلسفات السائدة في القرن التاسع عشر، حيث أملت جهات كثيرة بمجتمع إنساني يحترم فيه الإنسان لكونه إنساناً، لا لديانته. (ديفيد لوتفيك) يرحب بالتعايش مع الآخرين ويستقبل المسيحي (كينغر هوف/ كورت) في بيته، كما يستقبل من أحسن إليه في النمسا: (فريدريك ليفنبرغ)، وفوق هذا يقيم علاقة طيبة مع رشيد بك العربي الذي ينتمي إلى فلسطين.
وتؤكد روح الرواية احترام أماكن العبادة وتعايش الأديان، فالكنيس إلى جانب الكنيسة إلى جانب المسجد، والقطارات الكهربائية التي يجلبها وينشئها المهاجرون اليهود الأوروبيون ستصل إلى بيروت ودمشق وشرق الأردن، فلا حواجز ولا جدران ولا سياج فصل عنصري. إن ما يرمي إليه أحد المؤسسين هو إقامة شركة تعاونية تعمل لصالح الإنسان، دون النظر إلى دينه.
وأنا أقرأ الترجمة العربية للرواية تذكرت (بنيامين نتنياهو) وإصراره على إقامة دولة يهودية، ودعوته الرئيس أبو مازن للاعتراف بإسرائيل دولة يهودية، وتذكرت أننا غير قادرين على الوصول إلى حيفا ويافا والقدس، أيضاً. هل من ضرورة للإشارة إلى جدار الفصل العنصري؟ ولا أدري متى، آخر مرة، قرأ فيها (نتنياهو) الرواية ليرى أن من دعا إلى تأسيس الدولة لم يرد دولة دينية صافية. هل كان (هرتسل) ـ وما زال ـ أكثر تقدمية من رئيس الوزراء السيد بيبي؟

2013-07-07

***

9- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟

توقف دارسو غسان كنفاني أمام تأثره بأدباء عالميين مثل (وليم فولكنر) و(برتولد بريخت) وأدباء صهيونيين مثل (ليون أوريس) و(آرثر كوستلر)، و(ثيودور هرتزل). فعلى سبيل المثال، لاالحصر، قارنت رضوى عاشور بين "ما تبقى لكم" و"الصخب والعنف"، وكان كنفاني نفسه قد أقر بإعجابه برواية (فولكنر)، وقارن محمد صديق في كتابه: "الإنسان قضية" (بالانكليزية) بين "عائد إلى حيفا" و "دائرة الطباشير القوقازية" (لبرتولد بريخت)، ومثله فعل الناقد السويسري (هارتموت فيندرش) الذي نقل أكثر أعمال كنفاني إلى الألمانية. وربما أكون أول من التفت إلى تأثر كنفاني بالأدب الصهيوني، لا إعجاباً به وإنما نقضاً له، وذلك في كتابي "اليهود في الأدب الفلسطيني ما بين 13 و 7891" وكتابي "الأدب الفلسطيني والأدب الصهيوني".
ولا أعرف، في حدود ما قرأته من دراسات تناول أصحابها فيها نتاج كنفاني، إن كان هناك دارس أتى على تأثر كنفاني بالأدب العربي قديمه وحديثه، وبأدباء بعينهم مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، على سبيل المثال. وإن كنت قرأت دراسة طريفة، بالألمانية، لدارس ألماني، اهتمامه بالأدب العربي الحديث اهتماماً ضئيلاً على أية حال، هو (فولفديتسرش فيشر: Wolfdie trich Fischer)، إذ قارن هذا بين روايتي "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ، و"رجال في الشمس" لغسان كنفاني، دون أن يكون قصده إظهار تأثر الثاني بالأول، فقد رمى إلى دراسة الأسلوب والرمز والسارد وتأثير الكاتبين في الأدب العربي.
قبل خمسة أعوام تقريباً، وربما أكثر بقليل، أثار كاتب أردني هو محمد سناجلة زوبعة في فنجان، حين زعم أن كنفاني سرق (فولكنر)، وقد رد عليه، يومها، غير دارس ذاهبين إلى أن كنفاني تأثر بـ (فولكنر) ولم يسرقه، لأنه أقر بإعجابه به، ولم يخف هذا، ولم يزعم أنه لم يقرأ "الصخب والعنف"، والتأثر غير السرقة، فما من كاتب لاحق إلا وتأثر بهذه الدرجة أو تلك بالأدباء الذين قرأ لهم. وقد أخذ أدباء كثيرون يقرون بهذا، ربما اعتماداً على مقولات (ميخائيل باختين) الذي رأى أن كل كلام، عدا كلام آدم عليه السلام، هو كلام يعتمد على كلام السابقين. وسنجد دارسين وباحثين يميزون بين التناص والتلاص، وسنجد شعراء كباراً مثل محمود درويش يقولون بتواضع كبير إن قصائدهم ليست سوى فسيفساء من نصوص الآخرين، وانها إنما تحمل (تحمل) اسمهم فقط.
هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
لم أقرأ، من قبل، كتابة تأتي على هذا السؤال الذي لم يثر في حدود ما أعرف قبل الآن، وربما لم يلتفت دارس الى هذا، لأسباب عديدة أبرزها أن غسان أصدر عشرات الروايات والقصص القصيرة والمسرحيات قبل أن يغدو إميل حبيبي كاتباً أدبياً ذا شأن، ففي الوقت الذي بدأ اميل فيه يكتب "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" في العام 2791، وهي العمل الأدبي الأبرز له الذي ترك أثراً كبيراً على الرواية العربية، كان كنفاني استشهد مخلفاً آثاراً أدبية تركت آثارها في جيل من الكتاب العرب.
بناءً على ما سبق ربما يعتقد البعض أن السؤال مغلوط ومعكوس، فما دام كنفاني أنجز أكثر كتاباته حين بدأ اميل يتحول الى كاتب أدبي، وقد عرف كاتباً سياسياً بالدرجة الأولى، فالأصح أن يكون السؤال: هل تأثر اميل حبيبي كاتباً أدبياً بغسان كنفاني؟.
ما تجدر الإشارة إليه أن إميل الذي كتب المقالة السياسية منذ الأربعينيات من القرن 02، وواصل كتابتها وتألق في ذلك منذ الخمسينيات حتى التسعينيات من القرن العشرين، كتب قصصاً قصيرة قليلة جداً قبل 1948 وما بين 1948 و1967، اتبعها بعمله "سداسية الأيام الستة"1968 ( الذي اطلع عليه كنفاني، وأورد نموذجاً منه في كتابه "الأدب الفلسطيني المقاوم في فلسطين ما بين 48 و 1966"، هل تركت "السداسية" إذن أثرها على كنفاني؟ هذه السداسية التي كانت من قراءاته قبل أن يكتب "عائد إلى حيفا"، و"أم سعد" وأعمالاً أخرى لم يتمكن من انجازها لاغتياله من الموساد، أعمالاً أدرجت في أعماله الكاملة، مع أنها غير كاملة، وهي "العاشق" و"الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان"؟.
ما بين العامين 1948 و 1967 كتب اميل حبيبي قصتين قصيرتين لا غير ظهرتا، فيما بعد، مع "سداسية الأيام الستة"، هما "بوابة مندلبوم" و"النورية"، ونصاً آخر عنوانه "قدر الدنيا" وتمثيلية "قدر الدنيا"، وربما لم يلتفت إلى هذه الكتابات إلا بعد أن غدا إميل، بعد العام 7691، اسماً لامعاً في الحياة الأدبية الفلسطينية.
سوف أقرأ في بداية العام 2006 قصة "بوابة مندلبوم" وهي قصة كنت قرأتها منذ عقود ولم التفت إلى ما التفت إليه مؤخراً، وهو ما أدرجته في العنوان الذي يشير الى تأثر كنفاني بإميل. هنا سوف أتذكر ثانية مقولة أصحاب نظرية التلقي الألمانية (هانز روبرت يادس) و (فولفجانغ ايزر): "إن قراءة نص أدبي واحد في زمنين مختلفين "تؤدي الى قراءتين مختلفتين"، وهو ما حدث معي. إن قراءتي الثانية لقصة اميل قالت لي ما لم تقله لي القراءة الأولى. لقد قالت لي القراءة الثانية إن غسان متأثر بإميل.
والسؤال هو: ما هو وجه التأثر وأين؟ وسأبدأ بالجزء الثاني من السؤال لأنه لا يحتاج الى شرح، خلافاً للجزء الأول وهو الأهم.
إن من يقرأ "بوابة مندلبوم" و "عائد إلى حيفا" يلحظ تأثر كاتب الثانية بكاتب الأولى ـ أي تأثر كنفاني بإميل. أما ما هو وجه التأثر، فإن الاجابة عنه ربما تتطلب اقتباساً من القصة والرواية.
في العام 1993 كنت أنجزت بحثاً عنوانه "الوطن في شعر ابراهيم طوقان" (مجلة النجاح للأبحاث، 6991)، وكنت أتيت فيه على تعريف الشعراء والأدباء الفلسطينيين للوطن معتمداً لا على أقوالهم في المقابلات التي تجرى معهم، وانما على ما ورد في نصوصهم النثرية والشعرية التي ظهر فيها تعريف لكلمة الوطن. وتعود هذه النصوص الى سميح القاسم "الصورة الأخيرة في الألبوم" )1979( ومحمود درويش "أنا من هناك" )1986( وقبلهما غسان كفاني، في روايته المعروفة "عائد الى حيفا" )1969( وغابت "بوابة مندلبوم" عن ذهني، وربما أكون هنا مثل (امبرتو ايكو) صاحب رواية "اسم الوردة". في كتابه "التأويل بين السيميائيات والتفكيكية" )2000( يأتي على قضية مهمة تشبه هذه التي أكتب عنها. يقول (ايكو) إنه وهو يحاضر سأله قارئ عن روايته "اسم الوردة" وإن كان تأثر في أثناء كتابتها، برواية معينة. وكان جوابه انها قد تكون أثرت فيه وانها من بين الكتب التي قرأها. (انظر ص 96 وما بعدها من ترجمة سعيد بنكراد الصادرة عن المركز الثقافي العربي، 0002). ولو كان كنفاني على قيد الحياة لسألناه إن كان تأثر، وهو يكتب "عائد الى حيفا" )1969( بـ بوابة مندلبوم". ما هو وجه التأثر إذن؟.
ربما أكون أتيت عليه وهنا أوضح أكثر. في "بوابة مندلبوم" يسرد أنا المتكلم الذي يقيم في فلسطين المحتلة العام 1948 قصة أمه البالغة الخامسة والسبعين، هذه التي تنوي السفر الى القدس غير المحتلة لتقيم فيها، وتظن أنها ستموت فيها ولن تعود الى الناصرة، وحين يودعها أهلها ومعارفها تقول: "لقد عشت حتى رأيت المعزين بأم عيني"، وينتابها، وهي تغادر وطنها، شعور غامض يقبض على حبة الكبد فيفتتها، شعور يخلف فراغاً روحياً وانقباضاً في الصدر، كتأنيب الضمير، شعور الحنين الى الوطن. وهنا يخوض أنا المتكلم في معنى هذه الكلمة:
"ولو سئلت عن معنى هذه الكلمة، "الوطن"، لاختلط الأمر عليها كما اختلطت أحرف هذه الكلمة عليها حين التقتها في كتاب الصلاة: أهو البيت، اناء الغسيل وجرن الكبة الذي ورثته عن أمها (لقد ضحكوا عليها حينما أرادت أن تحمل معها في سفرها اناء الغسيل العتيق هذا، وأما جرن الكبة فلم تتجرأ على التفكير بحمله معها!)، أو هو نداء بائعة اللبن في الصباح، على لبنها، أو رنين جرس بائع الكاز، أو سعال الزوج المصدور، وليالي زفاف أولادها الذين خرجوا من هذه العتبة الى بيت الزوجية واحداً وراء الآخر وتركوها لوحدها!" "... ولو قيل لها إن هذا كله هو "الوطن" لما زيدت فهماً".
إن الكتابة عن دال الوطن وتعريفه على هذه الشاكلة سيكون له حضور واضح في "عائد الى حيفا". حقاً إن كلمة وطن تكررت مراراً في أشعار ابراهيم طوقان، وحاول تعريفها، إلا أن ما كتبه عنها كان عابراً:
تلك البلاد إذا قلت اسمها وطن
لا يفهمون، ودون الفهم أطماع.
غسان كنفاني، على لسان الشخصية المحورية في الرواية: سعيد. س، يأتي على تعريف مفردة الوطن، وربما كان "تعريفها، ابتداءً، لا يختلف عما ورد في قصة "بوابة مندلبوم"، وإن كان أضاف اليها معاني أخرى لم ترد في القصة.
يرد في "عائد الى حيفا" المقطع التالي:
"سألت: ما هو الوطن؟ وكنت أسأل نفسي ذلك السؤال قبل لحظة. أجل. ما هو الوطن؟ أهو هذان المقعدان اللذان ظلا في هذه الغرفة عشرين سنة؟ الطاولة، ريش الطاووس؟ صورة القدس على الجدار؟ المزلاج النحاسي؟ شجرة البلوط؟ الشرفة؟ ما هو الوطن؟ خلدون؟ أوهامنا عنه؟ الأبوة؟ النبوة؟ ما هو الوطن؟..".
ويكتشف سعيد. س ان الوطن هو ألا يحدث ما حدث، وأن فلسطين الحقيقية هي أكثر من ذاكرة وريشة طاووس وولد وخرابيش قلم رصاص على جدار السلم...
"لقد أخطأنا حين اعتبرنا أن الوطن هو الماضي فقط، أما خالد فالوطن عنده هو المستقبل، وهكذا كان الافتراق..".
إن الأسطر الأخيرة في ما أضافه كنفاني الى ما ورد في قصة بوابة مندلبوم، فهل كان كنفاني، وهو يكتب روايته بعد سنوات طويلة على كتابة قصة اميل حبيبي وبعد هزيمة نكراء للجيوش العربية، هل كان يضع قصة حبيبي وما ورد فيها أمامه ليقدم تعريفاً آخر لمفردة الوطن؟! ربما!، غير أني أعتقد أن اميل حبيبي ترك أثراً واضحاً على غسان، وعلى غيره من الكتاب العرب، ولعل الموضوع بحاجة الى كتابة أخرى!!.

***

10- غسان كنفاني ... ورقة من غزة

أحاول أن أتذكر أول نص قرأته لغسان كنفاني ومتى قرأته، فلا تسعفني الذاكرة.
ربما أكون قرأت "نجران تحت الصفر" ليحيى يخلف قبل أن أقرأ أي كتاب أو قصة لغسان، وإن كان ثمة سبب فهو أنني درست في الأردن، ولم تكن كتب غسان تباع في المكتبات هناك، أو أنها كانت تباع دون أن أعثر عليها أو أتعثر بها، فيما كانت رواية يحيى الصادرة حديثا عن دار الآداب - طبعا في حينه في أواسط 70 ق20 - تباع في مكتبة في الجامعة الأردنية، مكتبة تبيع الكتب الصادرة حديثاً في بيروت.
وربما عرفت غسان في العام 1977، بعد استشهاده بخمس سنوات، وتحديداً يوم أعادت دار صلاح الدين في القدس ودار الأسوار في عكا طباعة نتاجه الأدبي.
قرأته ولم أكتف بهذا، بل أخذت أعرف طلاب المدرسة الصلاحية في نابلس، وطلاب المدرسة العقربانية في الأغوار به، إذ بدأت تأسيس مكتبة صفية يسهم الطلبة فيها، هل كنت يومها متهوراً؟
أحببت غسان من خلال نتاجه، ومن خلال رثاء محمود درويش النثري له "غزال يبشر بزلزال"، ولا أعرف، حتى اللحظة، نصاً شعرياً لدرويش في رثاء غسان.
ولما كنت، في مدارس الوكالة، أسهم في النشاط الثقافي الخارجي، فقد اقترحت نص درويش لمسابقة الإلقاء، لمدارس الوكالة في منطقة شمال الضفة، وهكذا حفظه بعض الطلاب عن ظهر قلب، ومنذ غدوت محاضراً في جامعة النجاح الوطنية، في العام 1982، غدا غسان حاضراً في مساقاتي باستمرار.

كاتب متجدد :
ما من عام يمر إلاّ وكتبت مقالاً في ذكراه أو شاركت في ندوة حول أدبه أو ترجمت كتاباً صغير الحجم عنه أو دراسة حول نص من نصوصه، أو كتبت ورقة لمؤتمر حول أدبه وتأثره بالآداب العالمية، ومنها الصهيونية، أو تأثيره في الأدب الفلسطيني.
وأحياناً كثيرة تجدُّ مناسبة ما، فأرى في نصوص غسان ما يسعف في الاعتماد عليها لربط الحاضر في الماضي.
قبل أسبوعين كتب فتحي أبو مغلي في الأيام، في زاويته "طرطشات"، طرطشة عن بعض إخوتنا العائدين، إثر أوسلو، هؤلاء الذين أنهوا خدمتهم وتقاعدوا، وما عاد يربطهم بالوطن سوى راتب التقاعد، حيث حزموا حقائبهم ورحلوا.
أشار أبو مغلي في كتابته إلى محمود درويش وسطره: وطني ليس حقيبة. هذا إذا لم تخني الذاكرة، ولفت أنظار العائدين إلى أن الوطن غدا لهم حقيبة وراتبا، ليس أكثر.
طرطشة أبو مغلي أعادتني إلى قصة كنفاني "ثلاث أوراق من فلسطين" من مجموعته "أرض البرتقال الحزين" (1963)، وتحديداً الورقة الثالثة التي عنوانها "ورقة من غزة".
هكذا ذهبت إلى أن كنفاني كاتب ما زال يقرأ، وما زالت نصوصه طازجة، كأنها كتبت للتو، مع أنه مر على كتابة القصة ثمانية وخمسون عاماً تقريباً.
قبل فترة نشرت في الأيام الفلسطينية، في زاوية دفاتر، مقالة تمحورت حول سحر خليفة وعزمي بشارة (8/9/2013) وأتيت فيها على رحيل هذين والإقامة في المنفى، متتبعيْن خطى محمود درويش الذي غادر في 1970، ولم يعد إلاّ بعد (أوسلو) ليستقر في رام الله.
وكانت هجرته أثارت ضجة كبيرة، وظل هو يعبّر عن ندمه لقيامه بها: لماذا نزلت عن الكرمل؟ سحر خليفة غضبت مني، ولا أعرف رد فعل عزمي بشارة.
ملاحظة فتحي أبو مغلي هي ملاحظة قديمة جديدة، فقد ترددت على لسان بعض موظفي وزارة الثقافة، وهم يتحدثون عن أسماء أدبية بارزة عادت إلى الضفة إثر أوسلو، ولكنها سرعان ما غادرت الوطن، بعد أن حصلت على وظيفة في الوزارة، ولم تعد تتردد على الوزارة إلاّ لتسأل عن العلاوة السنوية، كأن الضفة لم ترق لهؤلاء، وكأنهم اعتادوا على العواصم الكبيرة أو.. أو.. أو....

ورقة من غزة :
فكرة الصمود على أرض الوطن وعدم مغادرته تعود إلى فترة مبكرة.
إميل حبيبي عاد إلى فلسطين، إثر نكبة 1948، متسللاً وقرر أن يظل في حيفا، وكلنا نعرف عبارته الشهيرة التي طلب من أهله وأصدقائه أن يكتبوها على شاهد قبره "باقٍ في حيفا". هل كان غسان كنفاني حين كتب قصته "ورقة من غزة" (1956) سمع بإميل حبيبي؟
كان كنفاني، يوم كتب قصته، يقيم في الكويت، ومن خلال إقامته هناك استوحى أفكاراً وشخصيات وأحداثاً مر بها الفلسطينيون المقيمون هناك. فكرة رواية "رجال في الشمس" (1963) مثلاً، وربما فكرة "ورقة من غزة" فلم يكن غسان يقيم في غزة، ولم يكن أقام فيها، وأظن أنه زارها في 60 ق20.

قصة القصة:
القصة التي اتخذت شكل الرسالة تدور حول صديقين تربيا معاً في غزة، وتعلّما، وقررا أن يعملا في الكويت ليوفرا المال، ومن ثم ليسافرا إلى كاليفورنيا، ويواصلا الدراسة هناك في جامعاتها، وبذلك يصبحان غنيين، يودعان الفقر، ويهربان من غزة، ويستمتعان بملذات الحياة، "إنني أكره غزة، ومن في غزة: كل شيء في هذا البلد المقطوع يذكرني بلوحات فاشلة رسمها بالدهان الرمادي إنسان مريض، نعم.." "ما هذا الشيء الغامض الذي كان يربطنا إلى غزة فيحد من حماسنا إلى الهروب؟" وحين يعود إليها الراوي/ كاتب الرسالة الضمني، بعد إقامة عام في الكويت، ليقضي إجازته فيها وجدها كما عهدها وصديقه مصطفى تماماً: "انغلاقاً كأنه غلاف داخلي، ملتف على نفسه، لقوقعة صدفة قذفها الموج إلى الشاطئ الرملي اللزج قرب المسلخ، غزة هذه أضيق من نفس نائم أصابه كابوس مريع، بأزقتها الضيقة، ذات الرائحة الخاصة، رائحة الهزيمة والفقر...." (ص344، أ. ك).
ومع أن مصطفى سافر إلى كاليفورنيا، ودرس في جامعتها، وأعد العدة لصديقه حتى يلتحق به، إلاّ أن الصديق يقرر البقاء في غزة وعدم العودة إلى الكويت أو السفر إلى كاليفورنيا والسبب يكمن في أنه رأى ابنة أخيه الشهيد نادية، وقد بترت ساقها، في غارة صهيونية، من أعلى الفخذ.
أرادت نادية أن تنقذ أخويها، فأصيبت، وكان بإمكانها أن تهرب فتنجو، ولكنها لم تفعل، وهكذا تعلم عمها منها درس التضحية بالذات من أجل الآخرين." لن آتي إليك.. بل عد أنت لنا. عد.. لتتعلم من ساق نادية المبتورة من أعلى الفخذ، ما هي الحياة، وما قيمة الوجود.. عد يا صديقي فكلنا ننتظرك". (ص350).

سميح القاسم: إليك هناك حيث تموت
بعد كتابة كنفاني قصته بعشر سنوات كتب سميح القاسم قصيدته الشهيرة "إليك هناك حيث تموت" ووجهها لصديق قديم يقيم في بيروت طلب منه، بعد هزيمة حزيران مباشرة، أن يغادر حيفا وأن يقيم في بيروت، ففيها الحياة أرحب -لم يكن محمود درويش هاجر بعد، والقصيدة أسيئت قراءتها - ولم ترق الرسالة لسميح فهاجم صديقه القديم وأنهى قصيدته بقوله:
"إليك هناك.. يا جرحي ويا عاري/ ويا ساكب ماء الوجه في ناري/ إليك إليك من قلبي المقاوم جائعاً عاري/ تحياتي وأشواقي/ ولعنة بيتك الباقي". هل اختلفت قصيدة عبد اللطيف عقل التي كتبها بعد عشرين عاماً تقريباً من كتابة القاسم قصيدته عن قصيدة الأخير؟ وسينهي عقل قصيدته بقوله:
"شكراً يا صديق طفولتي/ اختلفت بنا السبلُ
أنا نبض التراب دمي/ فكيف أخون نبض دمي وارتحل".
كأننا لا رحنا ولا جينا. ما كتبه كنفاني كتبه القاسم وعقل، بل ومحمود درويش أيضاً في 2002: "واقفون هنا. قاعدون هنا. دائمون هنا/ خالدون هنا. ولنا هدف واحد واحد: أن نكون". و... و... كأن كنفاني كتب للتو قصته!! كأنه.

6 يوليو 2014

***

11- حرب غزة والسخرية ... غسان كنفاني والسخرية

في أثناء حرب غزة أخذت أتابع النكت والمقاطع الساخرة، فشرّ البلية ما يضحك.
تذكرت ما قرأته عن حرب حزيران وانعكاسها في الأدب العربي، وعدت إلى كتاب أنطوان شلحت "خداع الذات... المسرح الإسرائيلي وحرب 1967 ومختارات من أعمال حانوخ ليفين" (2007)، وحانوخ ليفين أبرز كاتب إسرائيلي كتب نصوصاً ساخرة إثر حرب حزيران، وقد ترك أثراً في أدبنا الفلسطيني، أشرت إليه وأنا أكتب عن الأديب الفلسطيني والأدب الصهيوني (1993)، وتحديداً حين توقفت أمام نص محمود درويش النثري "أنا وأنت والحرب القادمة".
وقد توقفت أمام رسوم كاريكاتورية وعبارات ساخرة ومقاطع فيديو. لفت نظري رسم كاريكاتوري يظهر فيه رئيس وزراء إسرائيل (نتنياهو) و(باراك) (وليبرمان) في نفق للمياه العادمة، وكتب في الرسم: الهدنة قرارهم مش قراري، الحقنا يا (أوباما) احنا في المجاري.
كما لفت نظري رسم آخر يظهر فيه (نتنياهو) والدموع تنهمر من عينيه، ينظر إلى (أوباما) الرئيس الأميركي ويخاطبه: "دخيل عليك يا بو سمرة.. شوفلنا حد من جماعتك يحكي معهم، هدول بستبعدش يطلع عندهم نووي"، كما ظهرت عبارات تسخر من الطائرات الإسرائيلية، فأطفال فلسطين كانوا ينادون، على غرار تجار الخردوات: غسالات، ثلاجات، طيارات للبيع، وحور بعض الساخرين بعض عبارات أو استخدموا عبارة شهيرة من أغنية شهيرة لوصف الحالة، فإسرائيل تهدي المقاومة أغنية: اللي شبكنا يخلصنا لعبد الحليم حافظ (زي الهوى).
وأنا أكتب على الفي سبوك عن نيتي الكتابة في موضوع السخرية والحرب أدرجت صديقة مع تعقيبها مقطع فيديو (يوتيوب) يقرأ فيه مواطن غزي نشرة أخبار، ومن أخبار النشرة:
- ثلاث حروب: والرابعة يأخذ المواطن محمود زعيتر بكالوريوس حروب.
- هاجمنا (شارون) وحاربنا لأن الفلسطينيين انتهكوا طفولته، فما السبب الذي يدفع (نتنياهو) إلى شن حربه؟ ويتابع المذيع قائلاً إن طبيباً نفسياً أميركياً يقول إن المجلس الوزاري كله منتهكة طفولته.
- يقول المذيع: الناس يتساءلون: نفس الطيارة، نفس الطيار، نفس الصاروخ. ألا جديد؟ فقد صار عند أهل غزة مناعة. مللنا منها. شوفو شيئاً جديداً. (شوفو لنا شيء جديد).
- فرنسا قررت شراء صواريخ جديدة من غزة بعد فشل القبة الحديدية.
- وبريطانيا قررت إرسال بعثة إلى غزة للتدرب على صناعة صواريخ.
- وأما ألمانيا فقد قررت شراء طيارات أبابيل. و... و... و... .
بعض الأدباء الإسرائيليين مثل (حانوخ ليفين) سخروا من قادتهم بعد حرب حزيران مباشرة، ولا أعرف إن كانت روح السخرية ظهرت في الصحافة العبرية في أثناء حرب غزة، وما أعرفه أن أدبنا لم يخل من روح السخرية في أثناء الانتفاضة الثانية، بل وفي أثناء الانتفاضة الأولى.
السخرية، في الانتفاضة الأولى، برزت في أشكال عديدة على أفواه الناس الذين سخروا من جنود الاحتلال، وفي نهاية الانتفاضة تحولت السخرية من سخرية من الاحتلال إلى سخرية الفصائل من بعضها، وقد دونت هذا في نص "ليل الضفة الطويل" (1993).
أما في انتفاضة الأقصى فيعد كتاب سعاد العامري "شارون وحماتي: مذكرات رام الله" الذي نقل إلى العربية، أبرز نص ساخر.
كانت سعاد كتبت نصوصاً نثرية ونشرتها على الفيس بوك، وإلكترونياً، ثم جمعتها في كتاب يفيض بروح السخرية، في أوج الانتفاضة، نشر أولاً بالإنجليزية وحقق شهرة واسعة.
هل تعد السخرية هذه لوناً جديداً في أدبنا في فلسطين المحتلة؟ كل من قرأ أميل حبيبي وسلمان ناطور وبعض أشعار سميح القاسم يعرف أن السخرية حاضرة في أدبنا، وتعد رواية حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) أبرزها ـ أي النصوص الأدبية، وتبعتها في الفترة الأخيرة رواية لا تقل سخرية عنها هي رواية عارف الحسيني "كافر سبت"(2011).
وعلينا ألا ننسى خطب الدكتاتور الموزونة التي كتبها محمود درويش في 80 ق20 ليسخر فيها من الدكتاتور العربي.
هذه السخرية كانت موضوع رسالة ماجستير أشرفتُ عليها وأنجزها فراس الحاج محمد في جامعة النجاح، فماذا عن السخرية في أدب المنفى؟
لم تبرز السخرية في روايات غسان كنفاني وفي قصصه وفي مسرحياته.
بدا كنفاني كاتباً جاداً متجهماً، وربما كان لقسوة حياة المنفى تأثيرها الكبير على أدبه، وربما ما كانت السخرية شائعة في الأدب العربي الحديث شيوعاً لافتاً لتلفت نظره إليها؟ وستبدو هذه السخرية في بعض مسرحيات معين بسيسو "محاكمة كتاب كليلة ودمنة" مثلاً، وفي بعض أشعار مريد البرغوثي "قصائد للرصيف"(1980).
لكن كنفاني الذي خلت نصوصه الإبداعية من السخرية التفت، وهو في بيروت، إثر هزيمة حزيران، إلى هذا الأسلوب الأدبي، فقرأ أعمالاً صدرت في بيروت لكتاب لبنانيين منهم شريف الراس وسالم الجسر، ما دفع كنفاني، إلى التنظير لفن السخرية.
وهو تنظير لم أقرأ مثله لأي من كتابنا الذين قرأت لهم، في المقابلات التي أجريت مع حبيبي، بعد كتابته المتشائل، أي بعد استشهاد غسان كنفاني أجاب عن أسئلة عن دافعه إلى السخرية، وأشار إلى أنه ما من تراث عريق إلاّ وكانت السخرية جزءاً منه، وأوضح أنه يسخر من الاحتلال ومن الذات التي لا تخلو من سلبيات.
وقد توقف فاروق وادي مطولاً أمام أشكال السخرية في أدب حبيبي، بخاصة المتشائل، وذلك في كتابه "ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية".
كتب غسان كنفاني ثلاث مقالات عن كاتبين لبنانيين، ونشرهما في آذار وأيار 1968، الأول عنوانه "بين المهضوم والغليظ ميزان اسمه جحا" عن كتاب شريف الراس "للضاحكين فقط"، والثاني عنوانه "معجم سالم ـ انتخابات مكسرة"، عن كتاب "معجم الانتخابات" لسالم الجسر، والثالث عن كتاب ثان لسالم وعنوانه "المزعجون".
وقد ظهرت هذه المقالات، في 1998، في كتاب جمع مقالات كنفاني صدر عن دار الآداب.
وفي المقالات هذه وفي مقالات أخرى منه يبدو كنفاني كاتباً ساخراً بارزاً، إنه لا ينظر لفن السخرية، بل يبرع في كتابتها، فهل اطلع عليها أميل حبيبي؟
ولعلّ أبرز ما في مقالات كنفاني الثلاثة أنه ينظّر لهذا اللون من الأدب، وأعتقد أنها مقالات جديرة بأن تدرس جيداً.
يميز الكاتب بين السخرية والتهريج، ويرى أن السخرية أصعب فنون الكتابة على الإطلاق، ويحتاج الكاتب إلى إقناع القارئ بأن دمه خفيف.
كما يميز بين الأسلوب الساخر والأسلوب المتعالي، إذ يفصل بينهما خيط لا يكاد يرى.
إن هناك فرقاً بين كاتب (شايف حالو) وكاتب (مهضوم)، والكاتب الساخر يقدم نقداً اجتماعياً عميقاً من خلال نماذج بشرية، وأدبه ليس أدب تسلية، إنه درجة عالية من النقد، وعلى المؤلف أن يقدمه كضرورة.
كما يميز كنفاني بين سخرية بناءة وأخرى هدامة، والثانية سهلة بالمقارنة مع الأولى، والسخرية البناءة تحتاج إلى وعي أعمق وثقافة أوسع وقدرة أكبر على فهم روح القارئ ولا وعيه ونفسيته.
ويتساءل غسان: كيف يمكن للسخرية أن تكون بناءة وتظل في الوقت نفسه أدباً ساخراً خفيف الدم لا محاضرات فيه ولا أوامر ولا إيعازات ولا استغراقا مزيفا في الأيديولوجيات؟ إن الأمر يخص المؤلف. يقول غسان، ومهمة الكاتب أن يعي أننا مجتمع ضاحك لدينا مقاييس عسيرة للنكتة.
وعلى الكاتب ألا يتسرع وألا يكون ما يقدمه لتاً وعجناً وطق حنك وتكراراً.
وسيميز كنفاني بين النكتجي والكاتب الساخر، وأن الأخير لكي يكون كاتباً ساخراً.. فإنه أولاً يجب أن يمتلك تصوراً لما هو أفضل.." و"إن السخرية تعطي، عن طريق الضحك، نقداً يلخص المشكلة بأفضل من مليون مقال" (ص90) في أثناء حرب غزة أخذت أتابع لون السخرية..!!

2014-09-21

***

12- غسان كنفاني: «معارج الإبداع» والنصوص الأولى للكتاب

آخر ما صدر للكاتب غسان كنفاني هو كتابه «معارج الإبداع» ويضم «ما لم ينشر من الكتابات الأولى له، وتحديداً كتاباته ما بين ١٩٥١ - ١٩٦٠، وقد أعدها أخوه عدنان الذي كتب للكتاب مقدمة قال فيها إنه مهما كان منحازاً فغسان رحمه الله «لم يعد ملكاً لأسرته»، فلقد أصبح شخصية عامة ورمزاً أدبياً ومناضلاً صلباً حتى آخر لحظة في حياته «وقد» حاكى هموم الناس.. وعبر عن صمودهم وأمنياتهم وتمسكهم بثوابتهم الوطنية والقومية..».
ضم القسم الأول، وهو يقع في ستين صفحة، تسع قصص قصيرة كتبها غسان في العامين ١٩٥١ و١٩٥٢ - أي يوم كان في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمره.
القصص التسع عناوينها هي البطل الصغير وست رصاصات وقسوة القدر و»مأساة... ودموع» و»حب ووفاء» والشيطانة العجوز وحنان يترعرع والمدينة المسمومة والسارق.
ويثير قارئ هذه القصص، التي جمعها غسان في دفتر كان ينوي نشره، العديد من الأسئلة، والقصص تذكر بكتاب كثر كانت لهم مواقف من أعمالهم المبكرة غالباً ما يشير إليها الدارسون، وإن لم تخني الذاكرة فقد أتيت على قسم منها في غير مقال ولم أتوقف أمام قسم آخر. وقبل أن آتي على تلك المواقف أود أن أشير إلى بعض الملاحظات حول القصص التسع:
- إن حضور الموضوع الفلسطيني فيها نادر، والقصة التي تدور حول الموضوع الفلسطيني هي «ست رصاصات» وهي قصة تتجلى فيها مقاومة الاستيطان اليهودي.
- أكثر القصص تدور حول موضوع الفقر المدقع.
- عدم تمكن غسان من النحو تمكناً تاماً.
- تبدو القصص أقرب إلى موضوعات إنشاء مصوغة بأسلوب قصصي.
ما سبق ينبغي أن ينظر إليه في ضوء ما ذكر وهو أن الكاتب كان طالب مدرسة إعداديا.
ثمة سؤالان يراودان القارئ هما:
- لماذا لم ينشر غسان هذه القصص في حياته؟
- ولو امتد العمر بكاتبها فهل كان سيقدم على نشرها؟
هناك حالات مشابهة نعرفها لأدباء امتد بهم العمر كتبوا أعمالاً في سن مبكرة، منهم من نشرها وندم ثم تخلى عنها، مثل محمود درويش في ديوانه الأول «عصافير بلا أجنحة» ١٩٦٠، فقد كتبه وهو في السابعة عشرة ثم تجاهله لاحقاً، ومنهم عبد الرحمن منيف الذي كتب مجموعتين قصصيتين هما «الباب المفتوح» و»أسماء مستعارة» ورواية هي «أم النذور» ولم ينشرها في حياته، وإنما أقدمت زوجته، بعد وفاته، على نشرها، دون أن يحقق النشر رواجاً. قضية الاكتمال المبكر لدى الكتاب قضية طالما أثيرت. هل يولد الكاتب مكتملاً؟
نادراً ما ولد الكاتب مكتملاً، ونادراً ما كان كل كاتب مثل الشاعر الفرنسي (رامبو) الذي يشار باستمرار إلى أنه ولد مكتملاً، فكتب أشعاره في وقت مبكر من حياته، ثم توقف عن قول الشعر نهائياً. حالة (رامبو) نجدها لدى أدباء آخرين مثل مظفر النواب في «وتريات ليلية» واميل حبيبي في «سداسية الأيام الستة» و «الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل».
محمود درويش غالباً ما كان يكرر أنه ولد على دفعات، ولهذا حذف ديوانه الأول وقسماً من قصائد «أوراق الزيتون» وأخذ في تسعينيات القرن ٢٠، في المقابلات التي أجريت معه، يردد أنه لو أتيحت له الفرص لتخلى عن الكثير من أشعاره.
سؤال البدايات صار يتكرر على ألسنة بعض الشخصيات الروائية كما في رواية إبراهيم نصر الله الأخيرة «مأساة كاتب القصة القصيرة» فكاتب القصة يكتب :»فإن علي أن أعترف أنني بدأت حياتي قاصاً دائرياً، أو شبه دائري».
هل كتب غسان كنفاني الشعر؟
السؤال لم يثر من قبل ونحن لا نعرف للكاتب الذي كتب مقالات نقدية حادة وساخرة في نقد الشعر، أعيد نشرها في كتاب «فارس.. فارس»، وكتب أيضاً دراستين في شعر الأرض المحتلة، نحن لا نعرف أنه كتب الشعر، ولكن «معارج الإبداع» يفاجئنا بقصيدتين من الشعر الحديث تبدوان عاديتين، ولعل غسان عرف مبكراً أنه ليس شاعراً وأنه لن يكون له مستقبل شعري.
ثمة أسئلة أخرى يمكن إثارتها ولكن المساحة محدودة.

2021-02-07

***

13- في الاستشراق والاستغراب والأيدي الخارجية وما أدراك!

لغسان كنفاني مقالة عنوانها “القدس بين 3 مصائب: الاحتلال والتأليف والترجمة!” كان نشرها في ملحق “الأنوار”، ثم أعاد محمد دكروب نشرها مع مقالات أخرى لكنفاني، في كتاب عنوانه “فارس.. فارس: غسان كنفاني” صدر عن دار الآداب في العام 1997.
يبدأ كنفاني مقالته بالسؤال التالي: هل تريد أن تعرف كيف احتل الإسرائيليون جرش في العام 1967؟ وتعقبه الأسئلة الثلاثة التالية: وهل كنت تعرف أن هناك في فلسطين بلدة أو منطقة اسمها “النجف” التي كنت تعتقد أنها في العراق؟ وهل يهمك أن تعرف شيئاً عن “جبهة الكفاح الشعبية” التي لم تسمع عنها قبلاً؟ وهل تعلم أين يقع جبل “سيون”؟
ويأتي كنفاني في مقالته على ترجمة عربية لكتاب “سقوط القدس” للمؤلف الأميركي سليمان عبد الله شليفر، ترجمة تحفل بأخطاء قاتلة وقع فيها المترجم العربي الذي ترجم “جرش” بدلاً من “أريحا” و”النجف” بدلاً من “النقب”.
ولم يقع المترجم في هذه الأخطاء التي لم يقع فيها المؤلف وحسب، فالأخير ـ في نظر كنفاني ـ يبدو أنه يعرف جيداً جداً اسم كل زقاق في القدس وفي فلسطين، بل وقع ـ أي المترجم ـ في أخطاء أخرى، وتفادياً لأي إشكال سأنقل الفقرة التالية على طولها من مقالة كنفاني لتوضيح أخطاء المترجم:
“انظروا إلى هذه العبارة التي ينقلها المترجم على لسان المؤلف الذي ينقلها بدوره على لسان أحد زعماء التيارات الصهيونية المتطرفة: “إذا كان لا حق لنا في الجليل وجرش، فأي حق لنا في حيفا وعكا؟” طبعاً إن هذه العبارة لا معنى لها وتصبح بهذه الصياغة أشبه بحزّورة أو نكتة أو على الأكثر نبوءة لأن الجليل محتل منذ العام 1948، مثل حيفا وعكا، وهما مدينتان تقعان في الجليل، أما جرش فهي لم تحتل (بعد) وتقع في الضفة الشرقية ـ إن هذه الجملة في الأصل: “إذا كان لا حق لنا في الخليل وأريحا، فأي حق لنا في حيفا وعكا” (ص171).
ويعقب كنفاني على ما سبق بعبارة دالة، قاسية وجارحة أكثر من اللازم، هي:
“ولكن ما العمل إذا كان يتوجب علينا حتى الآن أن نقرأ تاريخنا (الجيد منه والسيئ) مكتوباً بأقلام أجنبية؟ وحتى عندما تتنطح دور الترجمة والنشر لترجمة تاريخنا فإن المترجمين يثبتون أنهم أبعد بكثير عنا من المؤلفين”. (ص172).
ولا أدري بم عقّب قراء كنفاني عليه بعد قراءة الرأي السابق، وربما وجب أن نسأل أصدقاءه ممن بقوا على قيد الحياة عن الأمر، هذا إذا لم تكن هموم الدنيا قد أبقت ذاكرتهم ذاكرة وقّادة، وأنا أشك في هذا، فقد مر على استشهاد الرجل أربعون عاماً تقريباً، لم تكن أعوام هدوء وطمأنينة وسرور وفرح، قدر ما كانت أعوام بؤس وشقاء وحروب داخلية وهجرات و.. و.. و.. .
وأغلب الظن أن ما شفع للرجل ـ إن نجا من التخوين والتشهير والنعت بالاستشراق ـ أغلب الظن أن ما شفع له هو قربه من د. جورج حبش ومن الجبهة الشعبية، وعمله في “الهدف” محرراً، وكتابته روايات وقصصاً ومقالات تعزز الروح الوطنية والقومية وتحارب الاستعمار الغربي، وعلى رأسه أميركا.
ترى حين نقول نحن، الآن، ما قاله، هل كنا سننجو من إلصاق تهم عديدة بنا أقلها أننا مستغربون، وأننا مضبوعون بالغرب على رأي أحد أساتذتنا من “حزب التحرير”؟ ربما وجب أن نعود ثانية إلى رواية سحر خليفة “الميراث” (1997) لنقرأ فيها ما أوردته عن إحدى الشخصيات التي درست في ألمانيا، وما ألصقه بها معارفها، ربما!.
***
محمود درويش له قصيدة عنوانها “إلى شبه مستشرق” وردت في ديوانه “حالة حصار” (2002)، أساء، فيما أرى، د. عبد الرحيم الشيخ في إحدى مقالاته، فهمها، فنعت بها أحد الكتاب الفلسطينيين، وكأن درويش كتبها في ذلك الكاتب. وربما لم يكن عبد الرحيم الشيخ الوحيد الذي التفت إلى القصيدة ووظفها في مقالاته، فهناك آخرون ظنوا أن درويش يقصد بها بعض الفلسطينيين الذين درسوا في الغرب.
سأمعن النظر في القصيدة وسأثير حولها أسئلة عديدة: متى كتب درويش نصه؟ ومن كان يخاطب في أكثر ديوانه “حالة حصار”؟ ومن كان في ذهنه وهو يكتبها؛ (لو كان حياً لربما سألناه؟ لو؟ لكنه مات ومات المعنى المقصود لله) وماذا تقول القراءة الداخلية للنص؟ ولكن قبل هذا كله: ما هو موقف درويش من الاستشراق؟ هل وضعه كله في سلة واحدة: الاستشراق الإنكليزي والفرنسي والألماني والأميركي والروسي، أيضاً؟ ثم هل وضع المستشرقين كلهم في سلة واحدة: يمينهم ويسارهم، من تعاطف معنا ومن كان ضدنا؟
ما دام المؤلف قد مات ومات معه المعنى المحدد الذي رمى إليه، فإن عليّ ـ قارئاً ـ أن أقرأ النص قراءة فاحصة، فالمعنى ـ وفق النظريات النقدية الحديثة ـ في بطن القارئ. أليس كذلك يا دكتور عبد الله الغذامي؟!
شبه المستشرق في النص يفترض أن أنا المتكلم / محمود درويش غبي غبي غبي، وأنه لا يلعب الغولف ولا يفهم التكنولوجيا ولا يستطيع قيادة طيارة. وللأسباب السابقة فقد أخذ شبه المستشرق حياة أنا المتكلم ليصنع منها حياته الخاصة. ولو كان شبه المستشرق غيره، ولو كان أنا المتكلم، أيضاً، غيره لكانا صديقين يعترفان بحاجتهما للغباء، ويسأل أنا المتكلم في النص: “أما للغبي، كما لليهودي في “تاجر البندقية” قلب، وخبز وعينان تغرورقان؟
أغلب الظن، وفق القراءة الداخلية للنص، أن شبه المستشرق هم أبناء عمومتنا ـ أي اليهود الذين ينظرون إلى الفلسطينيين، كما ينظر المستشرق المتعالي العنصري إلى الشرقيين، كما نظر (هتلر) إلى اليهود في كتابه “كفاحي”، فقد حذر الألمانيات الآريات من اختلاط دمهن بالدم اليهودي. أليس لليهودي في “تاجر البندقية” قلب وخبز وعينان تغرورقان؟ أليس للفلسطيني الذي يحب يهودية قلب، أيضاً؟ وربما وجب أن نقرن هذه القصيدة بقصيدة الشاعر نفسه: سيناريو جاهز! ربما.
وسأنقل القصيدة كما هي علّ القارئ يبدي رأيه فيها، فيوافقني أو يعارضني فيما ذهبت إليه:
(إلى شبه مستشرق): ليكن ما تظن
لنفترض الآن، أني غبي، غبي، غبي
ولا ألعب الغولف،
لا أفهم التكنولوجيا،
ولا أستطيع قيادة طيارة!
ألهذا أخذت حياتي لتصنع منها حياتك؟
لو كنت غيرك، لو كنتُ غيري
لكنا صديقين يعترفان بحاجتنا للغباء...
أما للغبي، كما لليهودي
في “تاجر البندقية” قلب، وخبز
وعينان تغرورقان؟” (حالة حصار، ص73)
ما الذي ذكرني بمقال غسان كنفاني وقصيدة محمود درويش؟
لم أتذكر المقال والقصيدة لأنني أقول الآن ما قاله غسان، فقد أخذت أقول هذا منذ العام 1988 تقريباً ـ أي قبل أن أقرأ مقال غسان في كتاب “فارس.. فارس” (1997)، وأنا لم أقرأه في “الأنوار”، أيضاً. ولم أتذكر القصيدة لأنني أنعت بأنني شبه مستشرق، فأنا اختلفت مع مستشرقين ألمان اختلافاً كاد يؤدي إلى عدم منحي الدكتوراه، وحال دون سفري إلى ألمانيا مراراً، لأنني كنت مثل حلاق الإسكندر، فقد صرخت
صرخة تشبه صرخته: للإسكندر قرنان. لماذا تذكرت مقال كنفاني وقصيدة درويش إذاً؟
يشهد العالم العربي، الآن، ثورات كانت مطلب شعراء غاضبين كثر. مرة كتب محمود درويش: عشرون مملكة ونيف، كوليرا وطاعون ونيف. من ليس بوليساً علينا فليشرف، من ليس جاسوساً علينا فليشرف. ورأى أمل دنقل أن الجيوش التي تحاصر الثوار لا تحارب الأعداء، أما مظفر النواب فقال: هذي الأمة لا بد لها أن تتعلم درساً في التخريب.
منذ زمن ونحن غاضبون، ومنذ زمن ونحن نتحسس غضب الشعوب من حكامها الذين كانوا يتحدثون عن الأسرة الواحدة المتكافلة المتضامنة، دون أن يكون الشعب أسرة واحدة، فقد كان هناك فقر وقمع وسجون ومعتقلات، وكانت هناك فوارق طبقية مذهلة (أدنى دخل في مصر 99 جنيها شهرياً وأعلى دخل 120 ألف جنيه).
ومنذ زمن ونحن نتابع أخبار الحاكم، فنرى أنه القائد الفذ الملهم الشجاع الأب الحاني، فكل شيء باسمه؛ من الجامعة حتى المدينة الرياضية فالطبية فالمكتبة الوطنية فشركة الطيران. هل تحول الشعب إلى قطيع؟ كان الحاكم يقول: إما أنا وإما الوطن. أنا الوطن (الله ومعمر وليبيا وبس، الله وبشار وسورية وبس). والآن ما الذي يجري في ليبيا وسورية واليمن، وإلام ستؤول أحوالها (إما العروش وإما النعوش) قال محمود درويش على لسانهم، لسان الزعماء، وقال (إما الكراسي وإما المآسي).
هل تختلف مؤسساتنا كلها، بما فيها جامعاتنا، في خطابها عن خطاب الحاكم العربي؟
من المفترض أن تختلف، ولكن ما هو جارح هو ألا يختلف خطاب رؤسائها عن خطاب القذافي وآخرين، وهذا مؤسف، فالحاكم العربي وصل إلى الحكم على ظهر دبابة، ويفترض أن يكون رؤساء المؤسسات الثقافية وصلوا إلى كراسيهم بشهاداتهم، ويفترض أن تكون تجربتهم الحياتية مغايرة.
ما المدة التي أنفقها صدام حسين أو القذافي في دولة أوروبية حتى يرى عالماً آخر وعقليات أخرى؟ هل حكم بلاده بعقلية واعية أم حكمها بعقلية القرية والبادية).
بعض رؤساء مؤسساتنا الثقافية يتحدثون عن الأسرة الواحدة، لا فرق بينهم وبين الحاكم العربي، ويطلبون الولاء والتأييد والسير وراءه صفاً واحداً. كأنهم قطيع ولم يدرسوا في أميركا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا. وإذا ما حاول بعضهم الاختلاف، وهذا من حقهم، اتهموا بأيادٍ خارجية وجهات خارجية تحركهم. هل أقول: يا لعارنا! ربما احتاج الأمر إلى قول! ربما!.

2011-09-25

***

14- غسّان كنفاني: "فارس فارس"

.. وأنا أُتابع نتاجات كتّابنا يُراودني دائماً السؤال التالي: هل نقرأ نحن، أبناء الجيل الرابع والخامس والسادس من الكتّاب الفلسطينيين، هل نقرأ نتاجات كتّابنا السابقين لنبني عليها ثم لنطوّر فيها؟ ولا أُخصّص كتاب جنس واحد، إذ أعني أبناء مهنتي قصّاصين وروائيّين وشعراء وكتّاب مقالة، أيضاً.
وإذا كان هذا السؤال خطر ببالي، من قبل، مراراً، فإنه راودني وأنا أعيد قراءة كتاب غسّان كنفاني "فارس فارس" الصادر عن دار الآداب في بيروت في العام 1998، وهو مجموعة مقالات قدّم لها الناقد اللبناني محمد دكروب.
.. وأنا أقرأ في المقالات وجدتني أكتب رسالة (خلوية) إلى السيد رئيس التحرير أقترح عليه فيها أن يعيد نشر مقالات غسّان كنفاني وإميل حبيبي، أو أن يشتري على حسابي أو على حسابه هو ـ ليس يهم ـ نسخاً من كتاب كنفاني "فارس فارس"، ولا أدري إن كانت مقالات حبيبي طبعت في كتب ـ ليوزعها على كتّاب الأعمدة في الجريدة، علّ قسماً منهم يكتب ساخراً أو متهكّماً أو علّه يتكئ على بعد معرفي وهو يكتب مقالته. أجزم أنني متابع لا بأس به لما يكتب في الجريدة، وأكاد أقول، وأنا شبه مقتنع، إن أكثر ما ينشر يغلب عليه الجدّ والصرامة، ويبتعد ابتعاداً كلياً عن السخرية أو التهكّم، وقد يخلو، بل إنه يخلو، من أبعاد معرفية تذكّر القارئ برواية أو كتاب أو بيت شعر أو مقولة فلسفية، هل يعني هذا أن الكتّاب لا يقرأون؟ لا أريد أن أتهمهم بهذا، ولكن أقول إنهم يحلّلون ـ وأغبطهم على ما أفتقده شخصياً ـ ولا يربطون ما بين التحليل وقصص مشابهة تاريخياً، أو ما بين التحليل وما يمكن أن يكون عَبّر عنه روائي أو قاص أو شاعر أو فيلسوف أو.. أو..
هل يوجد كاتب واحد ساخر من بين كتّاب الأعمدة في "الأيام"؟ هل توجد مراجعات لكتب إلاّ ما نعثر عليه بين الفترة والفترة في "أيام الثقافة" أو في بعض "دفاتر الأيام"، كما لدى حسن خضر وفاروق وادي؟ وحتى مقالات هذين تبدو مقالات جادّة متجهّمة تخلو من الدعابة أحياناً كثيرة. وقليلون هم الكتّاب الذين يعبّرون عن نبض الشارع أو عن تجارب إنسانية مرّوا بها. هل يوجد لدينا كاتب على غرار (إدوارد سعيد) أو (روبرت فيسك) أو (أوري أفنيري)؟ إنني لأّتساءل فقط.
حقاً أين هي المقالات التي تعكس نبض الشارع ولغته وتعابيره وأمثاله. حتى أخونا أبو سريّ (علي الخليلي) الذي أنجز غير كتاب في الأدب الشعبي، حتى أخونا أبو سريّ تكاد مقالاته تخلو من الأمثال الشعبية والقصص الشعبية والحكايات الشعبية. إنه نادراً ما يوظّفها في مقالاته.
وأنا أقرأ في كتاب غسّان كنفاني "فارس فارس" سأثير هذه الأسئلة التي آمل ألاّ تكون صحيحة. ولا أدري إن كان كتّاب الأعمدة في بقية صحفنا لا يختلفون عن كتّاب "الأيام"، فأنا أقرّ بكسلي لعدم متابعة ما يكتبون باستمرار. (هل أقول لعنة الله على العمل الأكاديمي الذي يجبرني على قراءة كتب ودراسات وروايات وأشعار، وبالتالي لا يسمح لي بمتابعة كل ما يُنشر في صحفنا؟). لعلّني أظلم كتّابناّ لعلّني!

غسّان كنفاني كاتب مقالة:
لا أدري إن كنت سأًضيف، وأنا أكتب تحت هذا العنوان، جديداً إلى ما كتبه محمد دكروب في مقدمة الكتاب تحت عنوان "غسّان (فارس فارس) كنفاني في كتابته الساخرة.. الجادّة" (ص7 ـ ص25). ولقد أنهى دكروب مقدمته الطويلة بالفقرة التالية:
"يا فارس فارس ـ أيها القلم الساخر الجارح الرّائي، النّادر في سخريته وفي صدقه، الغاضب بوجه مهازل زمانك ومهزلات بعض "رجالات" قولك.. الكاشف الفاضح للمزوّرين والمزيّفين والمتاجرين بالقضية والناس ـ أين، الآن، أنت" (ص25).
ولأنني قرأت لإميل حبيبي بعض مقالاته في 70 و80 ق20، وربما في 90 ق20، ولم أقرأ له ما كان كتبه منذ 1948 حتى 1976، ولأنني لاحظت سمة السخرية تغلب على كتاباته، ولاحظت، أيضاً، اتكاءه وهو يكتب عن التراث الشعبي والتراث الأدبي العربي، فقد وجدت تقاطعاً بين أسلوب فن المقالة لدى كنفاني وحبيبي، وسيثور لديّ السؤال التالي: هل تأثّر أحدهما بالآخر؟ وهل كانت كتابات الساخرين العرب مثل الشدياق ومارون عبّود وآخرين من قراءات الاثنين؟
يبدو كنفاني في مقالاته قارئاً جيداً ومتابعاً حثيثاً لما كانت المطابع العربية في لبنان تطبعه، وقد أقرّ هو بهذه الخصلة، خصلة القراءة والمتابعة. كان قارئاً نهماً، وهذا ما لاحظه محمد دكروب وتوقف أمامه كل من عاش في 60 ق20. تلك الأيام كانت القراءة هي الوسيلة الممكنة شبه الوحيدة لتزجية الوقت. لم يكن هناك تلفاز أو شبكة عنكبوتية أو.. أو.. مما يتوفّر في زماننا الذي لم يعد الكتاب فيه خير جليس.
يبدو غسّان في مقالاته قارئاً جيداً، ولديه حسّ نقدي، ويبدو إنساناً طالعاً من بين الناس، ذا موقف ملتزم، وفوق هذا يبدو كاتباً ساخراً متهكّماً.
في مقالته "الشعر.. حين يكون قيداً غليظاً، لا لزوم له" يكتب عن شخصه قارئاً:
"إنني قارئ ممتاز ـ أعترف، فهذا هم ـ ومع ذلك فإنني أعترف، أيضاً، أنني لم أفهم شيئاً من الـ 400 صفحة التي اسمها "محاجر في الكهوف"، وكنت أفضل لو أنني قرأت عشر صفحات لها معنى، وليكن اسمها ما كان، فليس يعنيني بعد أن تكون التسمية شعراً: إن ذلك يشبه رجلاً يحمل تذكرة نفوس مزوّرة". (ص45)
ماذا سيكتب كنفاني لو قرأ ما يكتبه الآن بعض شعرائنا؟ ويمكن أن نثير السؤال معكوساً: ماذا سيقول بعض معجبيه ممن يكتبون شعراً غير مفهوم على الإطلاق؟
ويبدو غسّان، حين نقارنه بكتابات كثير من كتّابنا، يبدو ابن الشعب حقاً، ولهذا ترد الأمثال الشعبية في مقالاته بلا افتعال، وحين يكتب عن كاتب مثل (شولوخوف) صاحب "الدون الهادئ"، ينهي مقالته بالفقرة التالية:
"إن روعة هذه المجموعات من القصص هي أنها تأتي في وقت يتدفق فيه إنتاج "الموهوبين" العرب حول قضايا مماثلة تقريباً، وهو أدب أقلّ ما يمكن أن يقال فيه إنه "أدب الهوهو"، أدب فهد بلاّن "وصح يا رجال" أدب "الأويها" والـ"ولي!"، وربما كان سبب ذلك هو فقدان الموهبة أولاً، وثانياً، أن معظم كتّابنا "لا يحيون حياة الشعب، لا يتألّمون لآلام الناس ولا يفرحون لأفراحهم، لا يدخلون إلى اهتماماتهم وحاجاتهم (ولذلك) فإنه لا يخرج من بين أيديهم كتاب حقيقي يثير الانفعال في قلوب القرّاء "صح يا شولوخوف".
وأنا أقرأ مقالات غسّان لطالما تذكّرت صديقنا وأخانا أبا سريّ. حقاً لماذا لا تبرز الأمثال الشعبية في مقالاته هو دارس التراث وأول كتاب له هو المثل الشعبي الفلسطيني؟
ولا أريد أن أستطرد فأكتب عن المقالات مقالاً مقالاً. لقد أعفاني محمد دكروب من هذا، عدا أنه لا غنى لمن يريد أن يعرف غسّان كنفاني كاتب مقالة، لا غنى عن العودة إلى كتاب "فارس فارس".

غسّان كنفاني والسخرية في الأدب الفلسطيني:
وأنا أقرأ مقالات كنفاني سأتوصّل إلى الرأي التالي: على دارسي الأدب الفلسطيني أن يعيدوا النظر في مقالاتهم ودراساتهم حين يتوقفون أمام ظاهرة السخرية في الأدب الفلسطيني.
كتب عن السخرية في الأدب الفلسطيني كتّاب هم فاروق وادي وسلمى الخضراء الجيوسي وعلي الخليلي، وهناك دراسات أخرى لطلبة الدراسات العليا. ولم يأتِ أي من هؤلاء على كتابات كنفاني، ذلك أن دارسيه درسوه قاصّاً وروائيّاً ومسرحيّاً ودارساً، ولم يدرسوه كاتب مقالة، ولو فعلوا لأعادوا النظر في أحكامهم. (أنا أتساءَل: لماذا لم تبرز السخرية في نصوصه الإبداعية)؟
في التوقف أمام الكتّاب الساخرين في أدبنا يشار إلى إبراهيم طوقان وإميل حبيبي غالباً، وإلى توفيق زياد في مجموعته "حال الدنيا" وبعض قصائد محمود درويش "خطب الدكتاتور الموزونة" وبعض قصائد مريد البرغوثي. وأظنّ أن مقالات كنفاني ستفتح باب النقاش أمام هذه الظاهرة مجدّداً.

استقبال كنفاني أدبياً:
في العام الحالي (2011) صدر كتاب لباحث مغربي هو الدكتور المصطفى عمراني (جامعة سيدي محمد بن عبد الله ـ فاس) عنوانه "مناهج الدراسات السردية وإشكالية التلقّي: روايات غسّان كنفاني نموذجاً اقتصر، كما هو واضح من العنوان، على تلقّي روايات كنفاني. ولا أدري إن كان هناك دارسون كتبوا عن تلقّي كنفاني كاتب قصة قصيرة أو كاتب مسرحية. أنا شخصياً أنجزت دراسة عنوانها "استقبال الأدب الفلسطيني في الألمانية" وأخرى عنوانها "الأدب الفلسطيني مترجماً إلى الألمانية" ولاحظت أن ما ترجم له هو الروايات أولاً، والقصص القصيرة ثانياً، ولم تترجم دراساته أو نصوصه المسرحية. ولاحظت أن دراسات الألمان عن أدبه تركّزت على رواياته.
وأنا أقرأ "فارس فارس" قلت: على الرغم مما كتب عن كنفاني، وهو كثير جداً لا شك، فما زال قابلاً لأن يقرأ وأن يكتب عنه، وها هي مقالاته نموذجاً. هل سيغدو كتاب "فارس فارس" ذات نهار عنوان أطروحة جامعية؟ ربما. ولكن كاتبها يجب أن يكون واسع الثقافة مثل غسّان نفسه.
أغبطه، أحسده أو أسخر من نفسي:
أحاول أن أكون كاتباً ساخراً. أحاول. وكان يمكن لخالي ـ رحمه الله ـ أن يكون مثل كنفاني أو حبيبي، أما أنا.. أما أنا..
في كتابة دكروب عن كنفاني كاتب مقالات ساخر قال: إن سخرية كنفاني فيها من خفّة الدم ما يلاحظ بسهولة، وليس كلّ من يكتب ساخراً يكون خفيف الدم. ليت لي من خالي تلك الصفة، وأعتقد أنني لا أتمتع بها. إن غدوت أنا كاتباً ساخراً، فلا يعود هذا لخفة دمي، وإنما يعود لمفارقات الحياة. الحياة هي التي تجعلني أسخر، لا جيناتي الوراثية، باستثناء جينات خالي المتوفى.
حقّاً إنني أغبط كنفاني وحبيبي كاتبي مقالة، ولا أغبط نفسي.

لو امتدّ به العمر
ماذا كان غسّان كنفاني سيكتب لو امتدّ به العمر إلى زماننا هذا؟ أغلب الظنّ أنه كان ما سوف يكون. سيكون، على الأقلّ، أتمّ رواياته الثلاث: "العاشق"، "الأعمى والأطرش" و"برقوق نيسان". وأغلب الظنّ، أيضاً، أنه سيكون واصل كتابة المقال السّاخر: السياسي والأدبي وربما الاجتماعي، أيضاً.
لا أريد أن أُثير السؤال التالي: هل كان سيستمر في عضوية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؟ سأفترض أنه استمر، فماذا سيكون موقفه من رفاقه، أعضاء الجبهة الشعبية الآن؟ من المؤكد أنه سينحاز لفريق، وسيقف ضد فريق، والفريق الذي سيقف ضده سيكتب عنه وفيه مقالات أعتقد أنها ستكون ساخرة، بل وساخرة جداً.
مرّة كتبت دفتراً عنوانه "والله زمان يا سلاحي" أتيت فيه على ما آلت إليه الجبهة اجتماعياً، وقلت: يبدو أن الجبهة ذات موقف سياسي فقط، فما عادت اجتماعياً كما كانت. بعد كتابة الدفتر بأشهر سمعت أن هناك انشقاقاً حدث فيها، تحديداً في منطقة جنين، فقد تبنّى جناح منها التوجه الإسلامي، وغدا اسمه "الجبهة الشعبية الإسلامية لتحرير فلسطين". هل كان هذا دعابة؟ هل كان هذا تشويهاً أم سخرية؟
الجبهة الشعبية فصيل تنويري. أظنّ أنني في دفتري أتيت على رواية علوية صبح "مريم الحكايا" وما آل إليه الواقع اللبناني في 80 ق20. كاد الدكتور/ الحكيم يجنّ من الناس الذين يعالجهم. لم يعد الأمر كما كان في لبنان في 60 أو 70 ق20. ثمة تحوّل واضح شهدته لبنان لم يرق للدكتور اللبناني العلماني. ولأن لي أصدقاء في الجبهة الشعبية، ويحملون الفكر التنويري ويروّجون له، فقد سخرت مرة منهم، وقلت لهم: أنتم التنويريين بحاجة إلى تنوير. لماذا قلت لهم هذا؟ لأنهم لا يختلفون كثيراً عن بقية أفراد المجتمع في النظر إلى أمور شخصية. ومنهم قيادات في الجبهة الشعبية وفي غيرها. هل أنا على صواب؟ لست أدري، ولكني أظنّ أن العمر لو امتد بكنفاني لكتب كتابة ساخرة في بعض رفاقه، وفي قادة فصائل، من اليمين ومن اليسار، والله تعالى أعلم.

ماذا لو امتد به العمر؟
ماذا يقرأ رفاق غسّان كنفاني الآن؟ أغلب الظنّ أنهم لا يقرأون سوى كتابات غسّان كنفاني، هذا إذا قرأوها. ولو كان امتد به العمر وبقي على قيد الحياة فمن المؤكد أنهم لن يقرأوها، لأنهم، إذا التقوا به، فسيصغون إليه يتحدث عنها.
هل أُبالغ في اتهامي لهم؟ هل أنا حاقد عليهم؟ قد أقول بقدر من الاطمئنان: لا.أنا لا أُبالغ في اتهامي لهم، ولست بحاقدٍ عليهم، فلي من بينهم أصدقاء يحترمونني وأحترمهم، وفي تموز، من كل عام، حين يطلبون مني أن أشارك في ندوة عن غسّان، أو أن أكتب مقالة في ذكرى استشهاده، لا أتردّد، ولا أتباطأ. ولا أُبالغ إذا قلت إنهم يُدافعون عني، حين لا أطلب منهم أن يُدافعوا عني.
الآن، رفاق غسّان، لا يقرأون، إن قرأوا، إلاّ لغسّان. ولا يذهبون لندوة، إن ذهبوا، إلاّ إذا كان غسّان موضوعها، ولم أدخل بيوتهم لأرى إن كانت فيها مكتبة صغرى، فأنظر في كتبها. وأغلب الظنّ، إن وجدت المكتبة، فهي تضمّ كتب غسّان. (يا لي من حاقد. كيف ذهبت إلى أنني لست حاقداً؟ كيف وأكتب كلاماً مثل ما سيق).
كان رفاق الجبهة الشعبية في 70 و80 ق20 قرّاء ومثقفين. كانوا يقرأون الأدبيات التقدمية، روايات وقصصاً وأشعاراً وكتب فكر. كأنهم كانوا امتداداً لجيل غسّان، جيل 60 ق20، الجيل الذي شهد له محمد دكروب للبحث، التحليل والكتابة، لغزارة القراءة، ومقالات غسّان: "فارس فارس"، خير دليل على هذا. أين نجد الآن كاتب مقالات على شاكلة غسّان، على الأقل في أدبنا الفلسطيني. (مؤخراً كتب د. فيصل درّاج مقالة عنوانها: لماذا لم يعد الأدب الفلسطيني كما كان، وفيها يعزّز ما أذهب إليه، وكنت في أيار قلت ما كتبه في ندوة في بلدية البيرة مع د. سلمى الخضراء الجيوسي، أمام كتّاب ومثقفين. هل راقَ لهم كلامي، أم اتهموني بالغرور؟).
حقاً ماذا لو امتد بغسّان العمر، ورأى أحوال رفاقه ثقافياً؟ من المؤكد أنه سيكتب مقالاً ساخراً باسمه الشخصي، لا باسم "فارس فارس".

2011-07-10

***

15- هل أنا دوف... هل أنا سعد؟ كل عيد وأنت بخير يا غسان كنفاني!

تبرز روايتا غسان كنفاني "عائد إلى حيفا" و"أم سعد" نموذجاً/ نمطاً للفلسطيني الذي عاش نكبة 1948.
سعيد . س وأبو سعد، وهما امتداد لأبي قيس، وربما لأبي الخيزران، أيضاً، في رواية "رجال في الشمس" (1963): جيل الآباء، جيل النكبة الذي حارب وانهزم "أبو الخيزران" والذي انهزم وصمت: أبو قيس وسعيد . س وأبو سعد.
ولئن أتت "رجال في الشمس" على جيل ثانٍ ولد قبل النكبة بقليل "أسعد" و"مروان" ولم يكن هذا الجيل بمختلف عن جيل الآباء، فإن "ما تبقى لكم" (1966) تبرز نماذج مختلفة إلى حد ما.
والد حامد يستشهد في حرب 1948، وزكريا وحامد يبدآن فعل المقاومة، فيما يخون زكريا.
وسيكون حامد الخميرة لما سيقوم به خالد في "عائد إلى حيفا" وسعد في "أم سعد"، فيم سيتجسّد زكريا في خلدون/ دوف في "عائد إلى حيفا".
خلدون/ دوف هو الفلسطيني الذي تربّى في أحضان بيت صهيوني.
إن كان للرواية أبعاد رمزية، فدوف هو فلسطين وقد هُوّدت، أو بعض من تبقّى في فلسطين، بعد أن غدت إسرائيل، وأسرل ـ أي غدا إسرائيلياً هُويّة ومعتقداً.
وسعد هو اللاجئ الفلسطيني الذي ولد في الخيمة، وتربّى في المخيم المحاصر في لبنان، ورأى الهزيمة في حزيران 1967 تتويجاً للحصار العربي للاجئ الفلسطيني، فلما ذهلت الأنظمة وجد سعد نفسه يخرج من الزنزانة / السجن ويتمرد على واقعة ويثور آملاً في أن يجسد حلم العودة، لا اعتماداً على هذا النظام العربي أو ذاك، كما كان حال سعيد . س وأبو سعد، وإنما اعتماداً على نفسه.
أدت نكبة 1948 إلى تدمير الشعب الفلسطيني وقلب حياته رأساً على قدم، فيم أنجزت الحركة الصهيونية مشروعها وأقامت دولتها، وحققت بعض ما حلمت به وحلم به مؤسسها: (ثيودور هرتسل)، فشقت الطرق وأقامت المباني والمشافي والجامعات، وتحسنت أحوال البلاد والعباد إلى درجة ما، ما جعل دولة إسرائيل تفاخر بما حلم به مؤسس مشروعها الصهيوني صاحب رواية "أرض قديمة ـ جديدة" (1902). كأنها ـ أي دولة إسرائيل ـ قالت : هل ما حلم به (هرتسل) خرافة؟ ها نحن جففنا المستنقعات وأحيينا الموات وجعلنا فلسطين/ إسرائيل جزءاً من الغرب، بعد أن كانت جزءاً من الشرق. هل كانت الرواية الصهيونية على صواب؟
سأنجز صيف هذا العام دراسة لمؤتمر صراع الخطابات: الخطاب السياسي الذي سيعقد نهاية تشرين الثاني في جامعة قفصة، وسأركّز على ثلاثة خطابات في الأدب الفلسطيني ترد على الخطاب الأدبي الصهيوني. سأتخذ من رواية (هرتسل) مرجعاً لتبيان الخطاب الصهيوني، ومن رواية كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) ورواية حبيبي "المتشائل" (1974) وقصيدة درويش "طللية البروة" (2007) مرجعاً لتبيان الخطاب الأدبي الفلسطيني في رده على الخطاب الصهيوني.
وسأعطي في 13/9/2013، في المركز الثقافي الروسي، محاضرة عن صراع الخطابات، وستثير محاضرتي أسئلة عديدة، فقد انقسم الجمهور إلى مؤيد لما يرد في الخطاب الصهيوني حول ما فعلته الحركة الصهيونية في فلسطين ـ وأبدى المؤيدون إعجابهم بإنجازات الدولة العبرية ـ وإلى معارض له ـ أي للخطاب الصهيوني وقد أيد هؤلاء ما ورد في خطاب كنفاني وحبيبي ودرويش. فكيف كان رد الثلاثة في خطابهم الأدبي على الخطاب الصهيوني؟
كنفاني الذي أبدت صفية زوجة سعيد . س إعجابها بما رأته حين زارت حيفا في 1967، كنفاني من وراء بطله سعيد. س قال: كان بإمكاننا أن نجعلها أحسن بكثير، وأن ما يتبجّح به قادة الصهيونية مبالغ فيه، فمن عرف حيفا ويافا، قبل 1948، جيداً لم ينبهر كثيراً بما رأى.
وحبيبي في متشائله جعل بطله سعيد يكتشف الحقيقة. كان يعقوب اليهودي ومثله المسؤول عنه يتعاليان على سعيد العربي ويعيرانه بأن العرب أبناء الصحراء ولا يعرفون إلاّ الهدم والتخريب، فيم اليهود أحيوا الموات وأماتوا الحيات ـ يعني الأفاعي، وحافظوا على التربة وزرعوا الأراضي الجافة، أما العرب فقد أبقوا على أراضيهم كما هي: صحراء جرداء لا رواء فيها وسيكتشف سعيد ذات مرة، بالصدفة، أن أهالي القرى العربية هم من زرعوا ويزرعون أراضي الكيبوتس، وأن أهل الأخير لا يستغنون عن الأيادي العربية، فإذا ما حاصرت القوات الصهيونية قرية ما هب سكان الكيبوتس يتوسطون للعرب حتى يعودوا إلى أعمالهم.
هكذا زرع العرب الباقون في فلسطين الأراضي وعبّدوا الطرق بعد أن شقّوها، وبالتالي فإن ما تزعمه الحركة الصهيونية من إنجاز هو في الحقيقة إنجاز الأيدي العربية.
درويش في "طللية البروة" له رأي مختلف راق لي كثيراً، يزور الشاعر بعد 1996 بلاده ويذهب إلى البروة ليقف على أطلالها، ويكون بصحبته صحافي ومصور، فيسأله أحدهما عن رأيه فيما يرى: مصانع ألبان حديثة أقيمت، وطرق حديثة عبّدت، ويكون رد درويش: لقد سرقوا أغنية طفولتي، وأنا لا أرى هذا كله.
أنا أرى بيتي وشباك غرفتي والغزالة. أعيدوا إليّ أغنيتي.
درويش يريد أن يقول: كان يمكن أن نحيا كما كنا نحيا، دون جبنة صفراء ولبن إسرائيلي وخبز إسرائيلي.
لقد سرقوا منا الطفولة وأغانيها وشرّدونا، فماذا تجدي ألبانهم وشوارعهم؟
انبهار صفية زوجة سعيد . س بما رأت، وانبهار الصحافي في قصيدة درويش ما زال يجد صدى له، بل ما زال كثيرون منا يقولون به.
ويستطيع المرء أن يتأكد من هذا حين يسأل الجيل الجديد من الشباب، بل ومن المتعلمين حملة الدكتوراه الذين يزورون فلسطين، بل ومن التجار والعمال، أيضاً.
وغالباً ما يعقد هؤلاء مقارنات بين ما رأوه وما نحن عليه، فيسخرون منا، ولا تحضر في أذهانهم، حين يقارنون، ما آل إليه سكان المخيمات في لبنان وسورية، ومن قبل في الضفة وفي الأردن، بسبب قيام دولة إسرائيل.
هكذا يكونون مثل مترجم رواية (هرتسل) إلى العربية، ومثل ناشرها اللذين زيّناها بصور لفلسطين قبل العام 1948، وصور لها في العام 1966، ونسيا أن يزيّناها بصور للمخيمات الفلسطينية ما بين 1948 و1958 ـ الخيام ـ.
مؤخراً قرأت فقرة لمثقف عربي من فلسطين يبدي إعجابه بترجمات اليهود إلى لغتهم، ويقارن هذا بما يترجم إلى العربية. هل تذكرت (دوف) في رواية كنفاني؟ أعتقد أن إسرائيل نجحت في أسرلة ـ صهينة ـ بعضنا من حيث يدرون أو من حيث لا يدرون!!
هل أنا (دوف)؟ هل أنا سعد كل عام وأنت يا غسان كنفاني بخير.

***

-------------------------------
1- زكريا الزبيدي وإخوانه: "قراءة غسان كنفاني في زمن مختلف"
2- زمن الاشتباك «في ذكرى غسان كنفاني»
3- غسان كنفاني والأدب الفلسطيني “الآخر”
4- غسان كنفاني وجوخة الحارثي : توارد الأفكار
5- فارس فارس لا يفهم هذا الشعر
6- بين كنفاني وجورج حبش
7- بين البدايات والنهايات.. كنفاني ودرويش والقارئ
8- غسان كنفاني وثيودور هرتسل: صراع الخطابات
9- هل تأثر غسان كنفاني بإميل حبيبي؟
10- غسان كنفاني ... ورقة من غزة
11- حرب غزة والسخرية... غسان كنفاني والسخرية
12- غسان كنفاني: «معارج الإبداع» والنصوص الأولى للكتاب
13- في الاستشراق والاستغراب والأيدي الخارجية وما أدراك!
14- غسّان كنفاني: "فارس فارس"
15- هل أنا دوف... هل أنا سعد؟ كل عيد وأنت بخير يا غسان كنفاني!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى