محمد مصطفى العمراني - مرض نادر جدا !

صارت تداهمني نوبات من البكاء بشكل مفاجئ ، أحيانا تستمر لدقائق ثم تتوقف .!
ذهبت إلى الأطباء فتحيروا أمام حالتي النادرة ، حذرني أحدهم من مشاهدة التلفاز ، طبيب آخر منعني من متابعة الأخبار والقراءة ، كلهم يستمعون إلي ، يفحصوني بدقة ويوجهون لي نصائح ويصرفون لي أدوية ، أطبق نصائحهم بحذافيرها وأتناول الأدوية بانتظام ولكن نوبات البكاء مستمرة.!
كنت في صلاة العشاء بالمسجد ، الإمام يقرأ في سورة الضحى وإذا بالنوبة تداهمني بكيت حتى التشهد الأخير ، أكملنا الصلاة وقد غرقت في خجلي ظنوا أني من الخاشعين ، أقترب مني أحدهم وربت على كتفي قائلاً :
ـ هذا هو الخشوع ، بارك الله فيك
ما حدث في المسجد أهون بكثير مما حدث لي في عرس أحد الأصدقاء ، بعد أن سلمت على العريس داهمتني نوبة البكاء فجأة ، بكيت بكاء حارا بينما الناس يغنون ويرقصون ويباركون للعريس ، ارتبكت وخجلت وتصبب عرقي لكن ماذا أفعل ؟!
حاولت التماسك والسيطرة على نفسي لكن البكاء تدفق رغما عني كأنه شلال جارف ، ارتفع صوتي بالبكاء فذهل العريس وتوقف المطرب عن الغناء وتوقف الناس عن الزفة والرقص ونظروا إلي وأنا أجعر بالبكاء حتى أن الفنان تساءل ساخرا :
ـ هل تزوج العريس بحبيبته !
ضجوا بالضحك ففررت من القاعة تلاحقني تساؤلات الجميع وسخرياتهم .!
جاء صديقي لزيارتي في المنزل رحبت به وجلسنا ، زميل من أيام الدراسة أخبرني أنه جائع ويريد العشاء وحينها داهمتني نوبة البكاء وسط ذهول صديقي الذي صدمه بكائي فحول الأمر إلى مزاح قائلاً :
ـ أنا أمزح عليك لقد تعشيت قبل مجيئي إلى هنا
حاولت أن أوضح له الموقف لكنه لم يستوعب الأمر ، بعد دقائق أفتعل مكالمة هاتفية وغادر .!
ظننت أنه سيتهمني بالبخل لكنه عاد إلينا بعد ساعة ومعه ثلاثة أشخاص ، أدخلوا كيس دقيق ومواد غذائية ، أرز وزيت وسكر وفول وسط ذهولي واستغرابي ، أقسمت له أن ما يحدث لي هو مرض نادر يفاجئني بين الحين والآخر فهمس لي:
ـ نحن أخوة والوضع صعب على الجميع والفقر ليس عيبا .!
في السوبر ماركت بعد ان اشتريت حاجيات المنزل وقفت في طابور الحساب وفجأة داهمتني نوبة البكاء ، كنت في الوسط ، حوصرت ولم أستطع الفرار ، حاولت كتم النوبة وإغلاق فمي إلا أن بكائي تدفق مثل السيل وسط ذهول الجميع ، أحدهم أكد للجميع بأن نقودي قد ضاعت وبدأ يجمع لي التبرعات ، حاولت أن أشير إليه ليتوقف لكن الجعير المتواصل منعني من اتخاذ موقف ، جمع لي مبلغا لا بأس به وحين دسه في جيبي توقفت نوبة البكاء ، أسرعت أعيد المبلغ وأوضح له الأمر لكنه أقسم بالطلاق أن لا أتحدث فسكت وعيون الرجال والنساء تلاحقني بنظرات فيها الكثير من الإحتقار وسوء الظن .!
قررت أن أعتزل الناس حتى اتعالج من هذا المرض الذي سبب لي الكثير من الفضائح .
مرت أيام وأنا وحيدا في بيتي ، لا تلفاز ولا أخبار ولا قراءة ، أذرع الغرف جيئة وذهابا وأفكر فيما يحدث لي ، أتمدد على السرير وأحملق في السقف ، أستعيد ذكرياتي منذ الطفولة إلى اليوم ، أفتح النافذة وأنظر إلى الشارع ، أراقب حركة الناس .
ثم مللت من البيت وقررت الخروج وليكن ما يكون ، خرجت أتمشى ، لا أدري إلى أين سأذهب ؟ وفجأة تتوقف بجواري سيارة فارهة ويترجل منها صديقي عبد الكريم راشد صافحني بحرارة وسحبني :
ـ أركب يا استاذ
أصر وأقسم وركبت معه وبدأنا نتحدث ثم سألته :
ـ إلى أين تأخذني ؟
أجاب وهو يبتسم :
ـ إلى عرس ابن عمي
وحينها صرخت :
ـ توقف لو سمحت
أوقف السيارة جانبا وسألني :
ـ ما الذي حدث يا أستاذ ؟!
أخبرته بما يحدث لي فلم يستوعب الأمر لكنه فهم أنني لا أريد الذهاب معه إلى العرس ، عرض علي ان أبقى في السيارة لدقائق فقط سيدخل القاعة ليهنئ العريس ويلتقط معه صورة ويأتي ، وافقت ومضينا .
دخل القاعة وبقيت في السيارة ، لم يتأخر وعدنا إلى منزله وهو يحاول أن يفهم ما يحدث لي ، يبدو أن قصة نوبة البكاء المفاجئة لم تدخل دماغه .!
بقينا نمضغ القات ونتحدث في البداية جاء والده ثم جاء إخوته كلهم فبدأت أشعر أن شيئا ما سيحدث ، أتضح لي خلافا كبيرا بين الإخوة قد حدث وأن الوالد يحاول الإصلاح بينهم لكنه يتحرج من وجودي ويرى تأجيل الأمر وهنا تدخل الأخ عبد الكريم طالبا من والده البت في القضية وأنني سأكون الشاهد على ما سيقرر ، بدأ الوالد يتحدث :
ـ يا أولادي أنا لن أدوم لكم ، صحتي تتدهور ويعلم الله وحده كم بقي من عمري ..
رددوا كلهم بصوت واحد :
ـ الله يعطيك العافية وطول العمر
عاد الوالد للحديث :
ـ أريد أن أعيش بقية حياتي وأنا أراكم إخوة تأكلون من مائدة واحدة وتحبون بعضكم ، كل واحد يدعم الآخر .
صمتوا جميعا فواصل الوالد كلامه :
ـ ايجار الدكاكين الأربعة للكبار منكم وإيجار العمارة سأصرفه للثلاثة الصغار ويظل المطبخ واحد وكل واحد بشقته .
سادت فترة صمت ولم يتحدث أحد وحينها بدأت أرى ملامح الحزن في وجه الأب الذي بدأ يعاتبهم :
ـ هذا هو مالي الذي تعبت فيه طيلة عمري وقد قسمته فيكم ومع هذا لم ترضوا بحكمي ؟!
ـ هل هذه نهاية تعبي فيكم ؟!
ـ هل هذا جزاء الإحسان ؟!
ـ أين ستذهبون من عقاب الله ؟!
لم يكمل جملته تلك حتى داهمتني نوبة البكاء ، بكيت بكل قوة فبكى الوالد ثم تحول المكان كله إلى البكاء والنحيب ، وهرعوا يقبلون رأس والدهم وأقدامه ويعتذرون له ويعلنون الرضا بحكمه وحينها توقفت عن البكاء وكان لأول مرة في محله الصحيح .!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى