الليلة ليلة سعدك، تبيتين بين مروج خضراء، ترتلين كتاب العشق سطرا سطرا، تغسلين روحك بماء الورد، و ترياق الصفاء. تنهمر دموع الخشية على وجنتيك، يقبل أهل الكرامة زمرا، يمتطون ظهور الخيل المسرجة، يضربون دفوفا، و يحملون المشاعل، و يضيئون في المروج اناديل، تتعلق الأعين بممر أبيض، يخطر فيه بهيا كما ينبغي أن يكون البهاء. تطرح الشمس و القمر الضوء بساطا تحت قدميه، و تصطف العزلان الكحيلة على جانبي الطريق، و تشدو البلابل بين يديه. و أنت وسط المروج أذابك جمال الرؤية، تهزين جذوع النخل؛ فتتساقط على قلبك المسرات. تمدين بصرك في حياء إليه، تعبين النور كأسا بعد كأس، تكسرين صومك، تبتل عروقك، ترتوين، و لكن سرعان ما يغلبك الشوق إليه، و هو لا يزال ماثلا أمام ناظريك، تهتفين: لا أزال ظامئة، دلني على طريق يبدد شوق المتيمين بك. يبتسم؛ فتبصرين ألف بدر؛ تكبرين، و تعطرين الجو بألف صلاة عليه. يبزغ الفجر؛ فتعودين من هناك عروسا في أوج زينتها. يحل الصباح بهيجا؛ أراك هادئة كسوسنة، وادعة كغزالة، متألقة كمرآة.
(٢)
هل رأيته حقا ؟! عيناك تبرقان بفرحة و ضياء، لم أر لهما مثيلا من قبل. هل تستطيعين وصفه؟! أحلى من البدر وجهه. هل شممت عطره؟! استعارت زهور الربيع نزرا يسيرا من شذاه. هل حدثك، و حدثتيه؟! أندى من المطر صوته، و أحن من الحرير حديثه. كيف صرت من أهل الوفاء؟! حسبك، يا ولدي، دعني أغفو قليلا. قبلت رأسها، و بسطت عليها الغطاء، و ما إن غادرت غرفتها، حتى رأيت دخانا كثيفا يخرج من ثقب الباب، و شممت عبيرا زكيا يفوح من الداخل؛ هممت بالرجوع إليها مرة أخرى؛ فسرت في جسدي قشعريرة و حال بيني و بين المرور لوح زجاجي شفاف ظهر في الردهة للتو؛ فخمنت، و أنا المحجوب عنها، أن طقسا صافيا بدأ في الداخل منذ لحظات، و أن ذلك الدخان، إنما هو دخان قلبها الذي أحرقه الشوق مجددا إليه، و أن ذلك العبير عبير الصلاة و السلام عليه.
(٣)
حزمت حقائبي، و قبلت يديك، و ما إن أدرت وجهي، حتى انهمرت دموعي في لوعة من لن يصبر يوما على الفراق. هممت بمغادرة الدار؛ فهتفت من خلفي: أيها الباكي، لا تخن عهدك يوما، و لا تقطع بيدك حبل الوصال. هناك، أنكرتني وجوه من نحاس، و طاشت خطواتي فوق أرصفة بليدة، منزوعة العينين، و تهت في شوارع تلتحف بجلدها الغليظ. هناك، رسمتك كل صباح ألف مرة على وجه الفراغ. هناك، كانت النوافير خرائب بلا ماء، و كانت الحمائم مثلي حزينة، يذبحها الاغتراب، و يهلكها الحنين. هناك منيت نفسي كل يوم بعناق طويل، و بالنوم بين راحتيك كطفل هده التعب. هناك جمعت كلماتي المبعثرة، و هتفت كل مساء: ببابك نهر، و أنا الظمآن إلى مائك السلسبيل. هناك، اشتقت إلى حاملك الخشبي، و إلى مصحفك المفتوح على سورة الشرح، و هفوت إلى أناملك الحانية تداعب مسبحتك تارة، و تمر على جبيني تارة أخرى. هناك، هفوت إلى رقية يتلوها قلبك بخشوع قبل لسانك.
(٤)
أرأيت ما زرعته يداك؟! في فناء الدار نما الريحان و النعناع و الورد البلدي، و على الأرض كست أعشابك الندية المسافة الفاصلة ما بين الجدار و السياج. أما زلت تنثرين الخضرة في البكور لطيورك و دواجنك التي تشيع في الفناء صخبا و حياة؟! أما زلت تتجولين بين أرجاء الدار، و ترهفين السمع إلى الحيطان، و تصغين إلى همس اللبنات، و تمسدين الطلاء بكفك الحانية؟! أما زالت الأشياء تتنفس من حولك، و أنت لا تدرين أنك روحها و قلبها النابض؟! ببابك نهر، عدت إليه، يقتلني الحنين. النهر جف، و الدار ساكنة، و اللبنات تئن في صمت، اللبنات قاومت الموت؛ كي تحكي ما كان في غيبتي. أدخل الفناء، أفتش عنك و عن إوز أخضر ملأ المكان ذات يوم؛ فلا أرى سوى الغبار يكسو الحيطان. أبصر الريحان ذابلا، و الورد منكمشا على أغصانه الظامئة. بخطوات مرتجفة، أدخل غرفتك، أرى مصحفك مغلقا فوق حامله الخشبي، و أرى مسبحتك معلقة فوق جدار باهت الطلاء. أزيح فراء الصوف، حيث كنت تجلسين دائما، أبصر أوراقا صفراء مهترئة، طبعت عليها أورادك، أردد في شغف؛ فتغرق الدموع عيني، أواصل قراءة الأوراد، و أنهمك في الصلاة و السلام على حبيبك؛ و فجأة، يفوح العبير، تمتلئ الغرفة بدخان أبيض خفيف، أراك من خلفه تبتسمين.
كرم الصباغ
(٢)
هل رأيته حقا ؟! عيناك تبرقان بفرحة و ضياء، لم أر لهما مثيلا من قبل. هل تستطيعين وصفه؟! أحلى من البدر وجهه. هل شممت عطره؟! استعارت زهور الربيع نزرا يسيرا من شذاه. هل حدثك، و حدثتيه؟! أندى من المطر صوته، و أحن من الحرير حديثه. كيف صرت من أهل الوفاء؟! حسبك، يا ولدي، دعني أغفو قليلا. قبلت رأسها، و بسطت عليها الغطاء، و ما إن غادرت غرفتها، حتى رأيت دخانا كثيفا يخرج من ثقب الباب، و شممت عبيرا زكيا يفوح من الداخل؛ هممت بالرجوع إليها مرة أخرى؛ فسرت في جسدي قشعريرة و حال بيني و بين المرور لوح زجاجي شفاف ظهر في الردهة للتو؛ فخمنت، و أنا المحجوب عنها، أن طقسا صافيا بدأ في الداخل منذ لحظات، و أن ذلك الدخان، إنما هو دخان قلبها الذي أحرقه الشوق مجددا إليه، و أن ذلك العبير عبير الصلاة و السلام عليه.
(٣)
حزمت حقائبي، و قبلت يديك، و ما إن أدرت وجهي، حتى انهمرت دموعي في لوعة من لن يصبر يوما على الفراق. هممت بمغادرة الدار؛ فهتفت من خلفي: أيها الباكي، لا تخن عهدك يوما، و لا تقطع بيدك حبل الوصال. هناك، أنكرتني وجوه من نحاس، و طاشت خطواتي فوق أرصفة بليدة، منزوعة العينين، و تهت في شوارع تلتحف بجلدها الغليظ. هناك، رسمتك كل صباح ألف مرة على وجه الفراغ. هناك، كانت النوافير خرائب بلا ماء، و كانت الحمائم مثلي حزينة، يذبحها الاغتراب، و يهلكها الحنين. هناك منيت نفسي كل يوم بعناق طويل، و بالنوم بين راحتيك كطفل هده التعب. هناك جمعت كلماتي المبعثرة، و هتفت كل مساء: ببابك نهر، و أنا الظمآن إلى مائك السلسبيل. هناك، اشتقت إلى حاملك الخشبي، و إلى مصحفك المفتوح على سورة الشرح، و هفوت إلى أناملك الحانية تداعب مسبحتك تارة، و تمر على جبيني تارة أخرى. هناك، هفوت إلى رقية يتلوها قلبك بخشوع قبل لسانك.
(٤)
أرأيت ما زرعته يداك؟! في فناء الدار نما الريحان و النعناع و الورد البلدي، و على الأرض كست أعشابك الندية المسافة الفاصلة ما بين الجدار و السياج. أما زلت تنثرين الخضرة في البكور لطيورك و دواجنك التي تشيع في الفناء صخبا و حياة؟! أما زلت تتجولين بين أرجاء الدار، و ترهفين السمع إلى الحيطان، و تصغين إلى همس اللبنات، و تمسدين الطلاء بكفك الحانية؟! أما زالت الأشياء تتنفس من حولك، و أنت لا تدرين أنك روحها و قلبها النابض؟! ببابك نهر، عدت إليه، يقتلني الحنين. النهر جف، و الدار ساكنة، و اللبنات تئن في صمت، اللبنات قاومت الموت؛ كي تحكي ما كان في غيبتي. أدخل الفناء، أفتش عنك و عن إوز أخضر ملأ المكان ذات يوم؛ فلا أرى سوى الغبار يكسو الحيطان. أبصر الريحان ذابلا، و الورد منكمشا على أغصانه الظامئة. بخطوات مرتجفة، أدخل غرفتك، أرى مصحفك مغلقا فوق حامله الخشبي، و أرى مسبحتك معلقة فوق جدار باهت الطلاء. أزيح فراء الصوف، حيث كنت تجلسين دائما، أبصر أوراقا صفراء مهترئة، طبعت عليها أورادك، أردد في شغف؛ فتغرق الدموع عيني، أواصل قراءة الأوراد، و أنهمك في الصلاة و السلام على حبيبك؛ و فجأة، يفوح العبير، تمتلئ الغرفة بدخان أبيض خفيف، أراك من خلفه تبتسمين.
كرم الصباغ
Войдите на Facebook
Войдите на Facebook, чтобы общаться с друзьями, родственниками и знакомыми.
www.facebook.com