تعلقت أبصارهن بوجه النحيلة وهو يتفصد عرقا، رجفة خوف تسري في الأجساد ، ظهيرة هذا اليوم تحمل لهيبا لم تحمله ظهيرة يوم قبله، تتلاحق أنفاسها بحثا عن قطرة أكسجين لم يحرقها القيظ .
فر أهل البلدة من ملابسهم إلى الترعة، أدرك الشيخ وحفنة من رجال تحيط به في المندرة أن السيدة لن تقوى على المخاض، هؤلاء الذين لم يحفلوا يوما بأمر سيدة تلد ؛ فتلك أمور لا تهم إلا النساء ؛ فكلهم يكون بالحقل حين يأتي البشير لإبلاغهم أن الله قد رزقهم بمولود .
لم يكن قد مر على موت والد الشيخ أيام تعد على أصابع اليد ؛ فهل سيعود لفتح مقبرة العائلة؟
حاول أحد الجالسين أن يحشو كلماته بدعابة تزيل ستارة الحزن من أمام أعين الجالسين، لقد اقتربت القيامة ، وما هذا القيظ إلا بث تجريبي لنار جهنم.
قرعت أخت الشيخ باب المندرة لتبشره بغلام ، سألها: هل النفساء بخير؟
- أومأت برأسها وانصرفت .
لم يصرخ المولود الذي أرقدوه بجوار أمه، تغطيه نظرات مندهشة مرتابة عينان شاخصتان وسكون تام! هزته إحداهن بعنف فحول بصره نحوها برهة ثم أعادها شاخصة للسقف.
فور استرداد السيدة أنفاسها حملته خالته ووضعته على فخدي السيدة التي أخرجت ثديها لتلقمه إياه ولكنه أبدا لايفتح فمه .
تسلل القلق ليحتل قلب السيدة ورأسها وتسقط الحاضرات في حبائل الحيرة ، أقسمت القابلة التي مر كل أبناء القرية بين أصابعها قبل أن يمروا إلى الحياة - أنها لم يمر عليها مثل تلك الحالة.
تفتق ذهن إحداهن عن فكرة ؛ فأحضرت حفنة أرز وسلقتها وأخذت ماء الأرز وخلطته بلبن ماعز خفيف ووضتعه في برطمان وغطته ببزازة وقربته من فم الرضيع فأخذ يرضع حتى أتى على الرضعة ومازالت عيناه شاخصتان لا تبرحان سقف الغرفة .
لم يكن الرضيع يبكي حتى حين تتشبع تلك الخرق البالية التي يحيطون بها خصره ، تنشغل عنه النفساء بالعجين والخبيز يوما كاملا وبينما تقلبه لتغير ماحول خصره من خرق ، شقت صرختها عنان السماء حين وجدت خراجا ضخما بفخد الرضيع حول جسده لفرن مشتعل ، تجمع البيت في ذهول ، أسقط في يد الشيخ ، ماذا يفعل؟ وكيف سيتحمل الرضيع مشرط حلاق القرية ؟ نصحتهم إحداهن بوصعه في طست ممتليء بالماء حيث وعد الحلاق الشيخ أنه سيأتي بعدته في الصباح .
أصاب الذهول الحارة حين وجدوا فخذ الرضيع سليما لم يمسسه سوء .
في السبوع حملت الجدة حفيدها لتحصنه من العيون ،نادت أمه بغضب : ليس من عادة العائلة أن تكحل عيون البنين !أقسمت الأم أنها لم تفعل ، أعادت الجدة النظر لمقلة الرضيع ورموشه وهي تصلي على النبي ،سبحان الله ، الله أكبر .
في المدرسة الصغيرة التي ترقد على شاطىء الترعة يجلس صامتا في نهاية الصف يحمل عدسة مصور بارع لا تفوته شاردة ، يشعر بالجميع ولا يشعر به أحد ،يتألم من أجل هذا البليد الذي تلاحقه سخرية التلاميذ ، يعود للبيت بحقيبته التي خرطتها أمه من بقايا ثيابهم وقد ملأها بأوجاع رفاقه ، أجاد بلاغة الصمت وفصاحة التهكم المختزل يبني عالمه على الورق يرحل خلف الكمال فلما يمسك بالسراب يعود مكفننا أحلامه بالورق
بين المرض والعدم
........
بين شقيّ رحى وعيت على الحياة ، فقر ومرض ،ولكني خالفت نبوءات الأطباء وعشت ُ بين أكداس من العدم ، ذلك العدم لم يمنع أن تتشكل بيني وبين الأحلام صداقة عميقة ، فلا يوجد ثقب من ثقوب ذاكرتي إلا وملأته حلما ، هذه الأحلام أوقدت لي الحياة ومنحتني الرغبة ، رغم الارتطام العنيف بالواقع وتسرب أحلام عديدة من ثقوب الذاكرة إلا أني لم أفقد الأمل ولم أصر يوما أعمى مع القطيع ‘ أخضع للمعتاد ، فلم أرتكن للظل في قرية تقتات السخرية كأشهى وجباتها ، أتأمل الجدران العتيقة وضريح الصحابي الجليل عبد الله بن الحارث رضي الله عنه فأقول لمن حولي :" التاريخ مر من هنا" .
عرفت الحب بكل تباريحه وآهاته وأنا لم أتم الخامسة من عمري بين أبوين لايعرفان إلا الزهد والتصوف وليس لديهما عن الحياة إلا أنها رحلة قصيرة لمستقر طويل ، فورثتُ منهما الزهد طوعا وحبا ، فلم أشته ملبسا ولا مأكلا فوجدت قلبي لا يعرف إلا الحب فانعكست رقة قلبي على صفحة وجهي بابتسامة لا تفارقني أبدا .
أيقنت أني لكي أتقدم لابد أن أقدم ، فأخذت ألتهم الكتب الدراسية أحفظها بلا وعي ولا فهم ؛ وأنى لي بمدرس خاص وأنا أذهب إلى المدرسة بصعوبة ؟
فالأرض تحتاجنا ، وبدلا من أن نكون مورد رزق صرنا عبئا على رجل مثقل كاهله بأحد عشر طفلا ، فصرت بكف نصف ناعمة ، نساعده في الحقل صيفا ونتفرغ لالتهام الكتب شتاء ، والحلم يداعب مقلتي ليلا ويسرق وعيي نهارا ، أجلس على شاطئ الترعة كما هي عادة أترابي ، فلا مكان للمذاكرة بالبيوت التي تعج بالضجيج خبيز وغسيل وحيوانات وطيور وأطفال رضع :
أيا هذا الحلم الثقيل
كلما توقفت ناداني : تعال
وكلما أقبلت هم بالرحيل
حملت الحلم وبحذر خطوت نحو المدينة لأتذوق طعم الغربة صبيا ذلك الطعم المر اللذيذ ، فالتجارب المريرة تجعل الشخص أكثر إدراكا لأموره وشؤونه ، وكان الصدام عنيفا بين غنى رفاقي ورفاهيتهم وانزوائي بشقتي الصغيرة التي احتوتني وأخي الأصغر ، لايكسو جسدها العاري إلا سرير وإناء طهي وثلاثة أطباق صغيرة ، في غربة اختيارية امتثالا لقول الشافعي :
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن سحّ طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
أفقت من هزيمتي ، فما أقبح أن تدخل معركة الحياة مهزوما ، والشهادة كما أكد كل أهلي هي سلاحك الوحيد ، صارت زياراتي للقرية تتباعد ، أبعث الشوق لأصدقائي في أجفان ورقة .
الدرس الأول في الغربة ألا تندهش وأن تقذف بفضول القرويين وبلاهتهم في بحر مياهه لاتقف ، ولكن غصب عني والطبع غلاب هناك أمور لاتمر دون أن تترك في ذاتك فضولا وألف سؤال ، فحين تأتيني رسالة من القدر أقع أسيرا تحت حوافر الألم وأنا أحاول أن أتقي شر ما أخشاه ، فمهما بلغت من المقدرة وضبط النفس لاتستطيع االفكاك من سرمدية النقص البشري .
والتحكم الكامل بالنفس يسمم السعادة فلا تبتهج للجديد ، لم أبتهج لحصولي على مجموع عال نسبيا لشعبة الدراسة الأدبية وعدت للقرية ولكني كنت شخصا آخر .
عودة
........
الترعة التي تشق قريتي نصفين هي أول ما تقع عليه عينك،شامة على خد القرية ،حولتها العقول المحمومة بمخلفات حظائرهم وحيواناتهم النافقة لكيس دهني ضخم معبأ بالصديد،فأغلقت الترعة عينيها على قذى ترتع فوقه جيوش الذباب نهارا ويمتص الناموس ما تبقى من دماء ليلا في حراسة الروائح الكريهة .
"الغرز " التي لا يرتادها إلا قلة منبوذة صارت مقاه يرتادها الشباب والشيوخ ،بعضهم يتحدث بدعم كاذب وبعضهم يتحكم بنشوة ، يطرقون أبواب التفرقة والصدام والخلاف وحب الوصاية ،شواربهم تتدلى فوق مبسم شيشة ،عيونهم زائغة وجيوبهم خاوية .
الحارة التي كانت تشرق عليها الشمس كل صباح فتنشر أشعة الحب والخير استقبلتني بصمت القبور ،عيون تتطلع خلف الأبواب بصمت وكراهية .
هل أنا من تغير أم القرية أم كلانا ؟ إرسال التلفاز الذي كان يتوقف بعد نشرة التاسعة صار ممتدا حتى الصباح ،شكت الأرض إهمالا وماتت الحيوانات جوعا ،وامتلأت الشوارع الضيقة بأقفاص تمتلئ بدجاج المزارع الأبيض لونا الأسود طعما ،لغة جديدة وكلمات وليدة دخلت البيوت فطردت القناعة واستوطن النفوس شعور بالفقر ولم تعد تسمع إلا كلمات من عينة الانفتاح والاستيراد ، المندرة الخارجية التي كانت تستقبل الضيوف تحولت إلى محلات معروض بها مجموعة من الملابس الرديئة وكان ذلك بمثابة تشييع لجثمان الحب والكرم .
الصراخ والهتاف يعلو ،تذكرت أن اليوم هو نهائي كأس مصر بين فريقي الأهلي والزمالك ،الأهلي يقلب الطاولة على رأس غريمه ويحول الهزيمة لفوز في دقائق .
عادت الحركة للحارة والمسطبة التي كانت تئن تحت كبار تحيط بهم الهيبة في حوارهم وحبهم وخلافهم واختلافهم صار يعتليها اشباه رجال .
مال أكبر الجالسين على أذن صبي ، عاد الصبي يحمل قماشة بيضاء يتوسطها خطان لونهما أحمر كرمز لفانيلة الزمالك وضعها على ظهر كلب وراح يجوب الحارة وخلفه الصبية يصفقون ويصرخون .
فار الدم برأس المهزومين ، أخذوا يقذفون الصبية بالحجارة ففروا تاركين الكلب ، ظل المهزومون يقذفون حجارتهم حتى تكسرت عظام الكلب وهو يعوي وعينه صوبهم :ماذا فعلت لأرجم ؟ هدأت سورة المهزومين وصوت الكلب يخفت يخفت حتى استحال إلى أنين ،فنزع أحدهم القماشة عن ظهره وركله بعنف كرسالة "أضرب المربوط يخاف السايب".
أتم الحزن إحكام قبضته على قلبي ، هممت بالمشي قبل الاعتصار ،على رأس الحارة كنت أقف صغيرا فأرى الشمس وهي تعانق الحقول ،صد بصري جدران لبيوت بالآجر تتقزم بجوارها بيوتنا الطينية العتيقة ،سكانها كنا نكتريهم في حقولنا ، سافروا العراق وعادوا يطلون علينا من نوافذها ساخرين ونحن نحمل فؤوسنا ونجر حيواناتنا الهزيلة خلفنا .
يلوح سرب من الفتيات يحملن جرارهن وقد ملأنها من " المرشح " بينهن أختي ، حين دنت رأيت وجهها ككبد حيوان نافق ، ألقت جرتها ،أخذت نفسا عميقا ، لاذت بالصمت ،تيقنت أمي أن هناك أمرا .
النساء في قريتي إذا توفي زوج إحداهن لا تنزع عنها الأسود إلا حين تلف بالكفن ، وحدث أن لبست إحداهن جلبابا ملونا في عرس أخيها بعد وفاة زوجها ،صارت قصة تحكيها النساء حول فرن الخبيز وتتندر الفتيات بها وهن يحملن جرارهن في الورود والصدور وينأين عنها كناقة مطلية بالقار وبناتها رغم جمالهن لم يطرق بابهن خاطب ،إلى أن تزوج بهن الغرباء الذين سافروا للعراق وعادوا ليشتروا سيارات أجرة ،فتكومت الجنيهات تحت وسادة زوجاتهم في حين أننا لا نمسك الجنية إلا مرة واحدة في العام بعد جني القطن .
وقفت السيدة أمام "المرشح " ومعها أزواج بناتها يملأون "براميل ضخمة مرصوصة على السيارات ؛والفتيات يتلظين في صمت ومزيدا من الكيد خلعت سروالها وأخذت تغسله ثم انصرفت وهي تضحك وتشير إليهن بإشارات بذيئة .
خنجر
.........
مؤشر الاغتراب يصل لدرجة تنذر بنوبة اكتئاب ،تذكرت رفاق دراستي ،ولكني لم أكن صديقا لأحدهم ! فهل أقحم نفسي عليهم ؟ هم دوما بعد العشاء يجلسون عند ماكينة الطحين خاصة أحدهم ،سأفتعل المرور العفوي وألقي التحية التي يلقيها عابر السبيل .
ما إن رأوني حتى هللوا ،أجلسوني بصدارة مجلسهم ،الذكريات المشتركة مادة خصبة لحديث لا ينتهي ،والضحك والسخرية من ذاتنا وقود دفء لمجلس لا تنقصه الحميمية .
عرفت معهم الطريق لمركز الشباب ،اقترحت عليهم أن نقوم بحملة نظافة لشوارع القرية ، عرضوها على رئيس النادي الذي احتضن الفكرة برغبة صادقة .
تحركت الجيوش مذللة لها كل العقبات ،قابلنا الأهالي بحفاوة عارضين كل مساعداتهم ،باتت الشوارع هانئة بيد حانية تمشط شعرها لأول مرة طاردة حشرات أنهكتها .
قربني رئيس النادي منه حتى إنه ترك مكتبه أجلس عليه لأكتب تقريرا عن الحملة ريثما يذهب للبيت ويعود أكون قد أنهيته ،لم أرض عما كتبته ،مزقت الورقة ، فتحت أول درج باحثا عن أخرى ،فتحت ملفا هالني ما رايت ، مكافآت للذين شاركوا بالحملة ولودرات وفؤوس وإجمالي ميزانية الإنشاءات والأنشطة مبالغ ضخمة ، فار الدم بعروق الرفاق حين أبلغتهم ، انتشرت القصة وزاد الناس على الحقيقة ما يثقل كاهل الحقيقة ، أشار علينا أحدهم أن نطلب اجتماع جمعية عمومية لسحب الثقة .
الأحداث تتسارع وركب الموجة طامعون ، انعقدت الجمعية وجرى الاقتراع السري الذي أسفر عن نتائج مذهلة .
احتفل الشباب بالنصر ، ارتفع سقف الأحلام ببناء مركز شباب مكثف ، اخترنا أفضل العناصر من النخبة المثقفة ، حددنا الرئيس والأعضاء وأمين الصندوق .
الظلام يجعلك تسير اعتمادا على حفظك لكل شبر بالطريق ،شبح أسود يجلس على المسطبة في مدخل بيت جدتي الذي لابد أن أمر عليه للوصول لبيتنا ،بدد صوت خالتي جيوش الخوف التي هاجمتني ولكنه ألقى في روعي قلق .
- لماذا تجلسين هكذا ياخالة ؟
- انتظرك يا بن أختي .
ألقيت بجسدي على المسطبة قبل أن أسقط من الإعياء .
- ليه يا نور عين خالتك تؤذيني أوي كدا؟
- أنا ؟
- جوز خالتك جاء ومعه أخوه زعلانين أوي منك .
أمين الصندوق أخو زوج خالتي ،وخالتي تلك قصة وجع لا يسعها الربع الخالي ؛فهي الأخت الوحيدة لأمي وأخاهما الوحيد حكم عليه بالسجن المؤبد في جريمة قتل بعد زواجها بأيام ،تجنبها أقاربها وأقاربي فتحملت وحدها الإنفاق على أخيها وأمها القعيدة .
زوجة خالي تركت البيت بعد الحكم عائدة لبيت أبيها ،وعلى خالتي أن تخرج من بيت زوجها فورا؛فتلك طبيعة زواج الشغار (البدل) - وهو ان يتبادل اثنان الزواج انا اتزوج أختك وانت تتزوج أختي - فإن غضبت إحداهن وتركت بيتها لابد أن تغضب الأخرى وتترك بيتها ، ولكن أهله لم يكتفوا بل طلبوا منه تطليقها فرفض ، فتحول زواج الشغار إلى مسيار .
سجن خالي أزمة زادتنا التحاما ؛ لم أكن منذ ولادتي مرتبطا بأمي ارتباطي بها ،تحملني أينما كانت على كتفها بطريقة غريبة ؛صدري ملتصق بصدغها وساقاي إحداهما على ظهرها والثانية على صدرها واضعا راحتي فوق رأسها كوسادة لرأسي أنام حينا وأصحو حينا لأرى الطريق من بعيد وكل الأشياء أسفل عيني تبدو صغيرة حتى الكبار .
اصطحاب زوج خالتي لأخيه مهددا زوجته رسالة لا تقبل التأويل ،نظرت للرضع على رجليها وهي تغطي أجسادهم بطرف ثوبها حتى لا يقضي عليهم الناموس ثم نهضت واقفا وعينها متعلقة بي في وجل .
ناشدتك اللهم جفف دمعتي فالحزن صحبي والبكاء قريب
دبر أموري كلها إنني... عبد ضعيف لا يحسن الترتيب
التقيت بأمين الصندوق في حضرة زوج خالتي .
- ماذا تريد مني ؟
- أن تقول في الاجتماع أن ما أشعته لم يكن إلا كذبا .
- لكن كلامي لا يقدم ولا يؤخر ؛فكل شيء يمكن إعادته إلا الكلمة إن خرجت لا تعود والميزانية موجودة بمديرية الشباب .
- ليس هذا شأنك ، عليك أن تنفذ المطلوب .
- إن شاء الله .
لم أذهب للاجتماع ولم أدخل النادي بعدها ، صرت مادة دسمة لأقاويل هشة بعدما أعلن رئيس النادي الذي يتمتع بعصبية شبه قبلية كبيرة - أن المذكور كاذب ونحن كأعضاء مجلس إدارة لا نألوا جهدا في خدمة بلدتنا الحبيبة وقد تبرعنا بميزانية النادي هذا العام لرصف الطريق الذي يربطنا بالطريق السريع ، فحين تكون البنية التحتية منهارة فلا مجال للأنشطة والعقلاء دوما يرتبون أولوياتهم : الأهم ثم المهم .
ساقتني قدماي لحقلنا الذي يقع في نهاية زمام القرية على شاطئ فرع النيل ، ألقيت حجرا ضخما بالماء شق بطنه فأودعته امنيتي : أن أتخلص من مكتبتي وأملك مالا وفيرا ووقتا كبيرا أتفرع فيه لقراءة مجلة "الشبكة " وكتب الطهي
هامش :زواج الشغار زواج يقوم على التبادل وقد قرأت أنه محرم .
- مجلة الشبكة مجلة لبنانية تقوم بعرض صور شبه عارية للنجمات وموضوعاتها عن أخبار الفنانين وقصص حبهم وقضايا أخرى تتسم بالتفاهة.
الجامعة
........
مثقل بكابوس أفر منه نهارا ويصطادني ليلا ،لم ينقذني من براثنه إلا فرحة ببداية حياتي الجامعية ، كيف ستكون ؟ فتى يجلس بجوار فتاة، رحلات ، أصطحب فتاة جميلة للكافتريا ،أنظر في عينيها ممسكا يدها وأنا ألقي أشعارا بت الليل أنظمها؟
ارتديت ثوبي الأبيض ، ونعلي الجديد ، سرت هادئا حتى صارت البيوت خلفي والحقول أمامي ، القمر يلقي ضوءا فضيا على أعواد الذرة ،الترعة مترعة باللجين ،أصوات تنبعث من خلف جدار طيني قصير لمصلى على جانب الترعة ، دفعني الفضول ، ياربي ! إنه الكاتب الجميل ومَثلي الأعلى يحيط به ضيوف كتاب نصف مشاهير ،سلمت ،اتخذت مجلسي على أعواد قش الأرز ، فاغرا فاهي كأبله ، يمزقون السادات ويفندون عوارا باتفاقية كامب ديفيد ، لابد من العودة للناصرية ليشتد عود البلوروتاريا وكلمات غريبة كالبنيوية والتحريض والتطبيل والكذب وتزييف الوعي .
غيّر أحدهم مسيل الحديث لينعطف النقاش على الأدب شاكيا أن أحدا من النقاد لم يتعرض لمجموعته القصصية ، طَيب َ أحدهم خاطره :الأدب العربي يعج بالمؤرخين ، لكن قلما تجد ناقدا يمارس النقد بوعي ليضعه بين يدي الجماهير يبني الذات الإنسانية فيصير نقدا فعالا يرشد للطريق الصحيح ، للأسف يتم استقبال النقد -إن وجد - في بلادنا بكل تبرم ورفض وحساسية ؛ فنحن مأدلجين مشخصنين ، نجيد رسم خرائط الاتهامات لنقضي بها على الخصوم .
( شواكيشهم) دقت بندق رأسي المتبرعم ، أترقب زياراتهم المتباعدة لأنتقل من عالم العبرات والنظرات للمنفلوطي ورومانسية محمد عبد الحليم عبدالله والقصص الدينية وعبد الحميد جودة السحار لعالم ماركس ودستيوفسكي وتولستوي .
زارني النوم لماماً ، وأنا أترقب خيوط فجر جديد سأذهب فيه للجامعة ، تخيرت كليتي برغبتي وتخيرت قسم اللغة العربية لدراستي ليكون قاعدة أنطلق منها للحلم.
دلفت الباب بعين زائغة بحثا عن جدولي فلم أجده ، ظللت أدور بالكلية كمن يبحث عن حقيبة سفره بميناء يعج بالفوضى .
وئد الحماس ، ذهبت ضحى اليوم الثاني ،عثرت على جدول محاضراتي معلقا بلوحة الاعلانات ، توجهت مبتهجا للمدرج ، كثير من النسوة وقليل من الفتيات ،ألقيت سؤالي على الجميع : أهذا مدرج قسم اللغة العربية؟
التفتت نحوي فتاة : المسافة من كتفها الأيمن للأيسر أقل من عقلة إصبع ، قصيرة الشعر ببلوزة مفتوحة لا شيء ناتئ تحتها كأنها قديد الخبز بعينها اليسرى حول ؛ أطلقت ضحكة طويلة وما زالت تنظر نحوي ثم توقفت عن الضحك ! أنت وقعت ولا الهوى رماك ؟ وإيه اللي رماك على المر ؟ قالت جارتها القصيرة جدا :الأمر منه ، و راحتا في نوبة ضحك انتهت بأن دقت إحداهما كف الأخرى ، رمقتهما بازدراء فاستدارتا وكأنهما لم تراياني .
اتخذت طريقي لنهاية المدرج ، تشاغلت بالصحيفة التي في يدي حتى أذن الظهر ولم يأت ِ المحاضر ؛ فاتخذت طريقي للقطار .
قصصت على أستاذي ما كان ومدى إحباطي ، تحسر قائلا : للأسف لا أحد يدخل قسم اللغة العربية برغبته ، كلهم استنفذوا مرات الرسوب في الأقسام الأخرى فحولتهم إدارة الجامعة إجباريا لقسم اللغة العربية وفي محاولة بائسة لجذب الطلاب وضعت إدارة الجامعة مكافأة هزيلة لمن يدرس اللغة .
في اليوم التالي جاء الدكتور تحدث عن الكوفيين والبصريين واختلاف مدارسهم حول أسباب رفع المبتدأ ثم تلا أبياتا لابن مالك مستشهدا .
أجلس وحيدا تعلو قسمات وجهي مشاعر القرف ،رمقتني فتاة أظنها أصغر الجالسات ، تبادلنا النظرات أياما ، حتى سألتني : هل سجلت محاضرة أمس ؟ ناولتها مفكرتي ،أعادتها في اليوم التالي وقد شكرتني بتوقيع ورسمة قلب أصابه سهم .
نتحدث في الفترة البينية للمحاضرات ، بيتها قريب من الكلية ،عرضت علي مرافقتها لبيتها بمناسبة عيد ميلاد أخيها حارس مرمى أحد أقطاب الدوري الكبار ،فرحت مُرحِبا بالدعوة ،
البيت خاصتهم وليسوا مستأجرين ، جلست هزيلا داخل الكرسي بغرفة الاستقبال ،أتأمل مظاهر الثراء المتناثرة بأرجاء الغرفة ، قطع شرودي صوت والدها الذي رحب وجلس ، دخلت بمشروب بارد ثم جلستْ ،سأل عن اسمي وفصلي ثم قال متى ستزورنا مصطحبا أهلك ؟
لولا أننا وحدنا لظننت أنه يحدث غيري ! ألوان وجهي يعجز من يراني عن إحصائها ، تذكرت أماً تصارع الفقد؛ أخوها خلف القضبان ، وزوجها مصاب بشلل نصفي، وأمها تصرخ تحت نير الضغط المرتفع وابنها الذي تعلق عليه بقية أمل يعقد صفقة زواج في بيت مريب ، أفقت على صوت الرجل وهو يكرر سؤاله ، كدت أقول له :لا أملك من الدنيا سوى تذكرة القطار الذي سيعيدني لقريتي ، تعللت بموعد القطار واعدا إياه بزيارة أخرى ، لم أعد أبدا للحديث معها متخفيا بالمسجد بين المحاضرات .
فر أهل البلدة من ملابسهم إلى الترعة، أدرك الشيخ وحفنة من رجال تحيط به في المندرة أن السيدة لن تقوى على المخاض، هؤلاء الذين لم يحفلوا يوما بأمر سيدة تلد ؛ فتلك أمور لا تهم إلا النساء ؛ فكلهم يكون بالحقل حين يأتي البشير لإبلاغهم أن الله قد رزقهم بمولود .
لم يكن قد مر على موت والد الشيخ أيام تعد على أصابع اليد ؛ فهل سيعود لفتح مقبرة العائلة؟
حاول أحد الجالسين أن يحشو كلماته بدعابة تزيل ستارة الحزن من أمام أعين الجالسين، لقد اقتربت القيامة ، وما هذا القيظ إلا بث تجريبي لنار جهنم.
قرعت أخت الشيخ باب المندرة لتبشره بغلام ، سألها: هل النفساء بخير؟
- أومأت برأسها وانصرفت .
لم يصرخ المولود الذي أرقدوه بجوار أمه، تغطيه نظرات مندهشة مرتابة عينان شاخصتان وسكون تام! هزته إحداهن بعنف فحول بصره نحوها برهة ثم أعادها شاخصة للسقف.
فور استرداد السيدة أنفاسها حملته خالته ووضعته على فخدي السيدة التي أخرجت ثديها لتلقمه إياه ولكنه أبدا لايفتح فمه .
تسلل القلق ليحتل قلب السيدة ورأسها وتسقط الحاضرات في حبائل الحيرة ، أقسمت القابلة التي مر كل أبناء القرية بين أصابعها قبل أن يمروا إلى الحياة - أنها لم يمر عليها مثل تلك الحالة.
تفتق ذهن إحداهن عن فكرة ؛ فأحضرت حفنة أرز وسلقتها وأخذت ماء الأرز وخلطته بلبن ماعز خفيف ووضتعه في برطمان وغطته ببزازة وقربته من فم الرضيع فأخذ يرضع حتى أتى على الرضعة ومازالت عيناه شاخصتان لا تبرحان سقف الغرفة .
لم يكن الرضيع يبكي حتى حين تتشبع تلك الخرق البالية التي يحيطون بها خصره ، تنشغل عنه النفساء بالعجين والخبيز يوما كاملا وبينما تقلبه لتغير ماحول خصره من خرق ، شقت صرختها عنان السماء حين وجدت خراجا ضخما بفخد الرضيع حول جسده لفرن مشتعل ، تجمع البيت في ذهول ، أسقط في يد الشيخ ، ماذا يفعل؟ وكيف سيتحمل الرضيع مشرط حلاق القرية ؟ نصحتهم إحداهن بوصعه في طست ممتليء بالماء حيث وعد الحلاق الشيخ أنه سيأتي بعدته في الصباح .
أصاب الذهول الحارة حين وجدوا فخذ الرضيع سليما لم يمسسه سوء .
في السبوع حملت الجدة حفيدها لتحصنه من العيون ،نادت أمه بغضب : ليس من عادة العائلة أن تكحل عيون البنين !أقسمت الأم أنها لم تفعل ، أعادت الجدة النظر لمقلة الرضيع ورموشه وهي تصلي على النبي ،سبحان الله ، الله أكبر .
في المدرسة الصغيرة التي ترقد على شاطىء الترعة يجلس صامتا في نهاية الصف يحمل عدسة مصور بارع لا تفوته شاردة ، يشعر بالجميع ولا يشعر به أحد ،يتألم من أجل هذا البليد الذي تلاحقه سخرية التلاميذ ، يعود للبيت بحقيبته التي خرطتها أمه من بقايا ثيابهم وقد ملأها بأوجاع رفاقه ، أجاد بلاغة الصمت وفصاحة التهكم المختزل يبني عالمه على الورق يرحل خلف الكمال فلما يمسك بالسراب يعود مكفننا أحلامه بالورق
بين المرض والعدم
........
بين شقيّ رحى وعيت على الحياة ، فقر ومرض ،ولكني خالفت نبوءات الأطباء وعشت ُ بين أكداس من العدم ، ذلك العدم لم يمنع أن تتشكل بيني وبين الأحلام صداقة عميقة ، فلا يوجد ثقب من ثقوب ذاكرتي إلا وملأته حلما ، هذه الأحلام أوقدت لي الحياة ومنحتني الرغبة ، رغم الارتطام العنيف بالواقع وتسرب أحلام عديدة من ثقوب الذاكرة إلا أني لم أفقد الأمل ولم أصر يوما أعمى مع القطيع ‘ أخضع للمعتاد ، فلم أرتكن للظل في قرية تقتات السخرية كأشهى وجباتها ، أتأمل الجدران العتيقة وضريح الصحابي الجليل عبد الله بن الحارث رضي الله عنه فأقول لمن حولي :" التاريخ مر من هنا" .
عرفت الحب بكل تباريحه وآهاته وأنا لم أتم الخامسة من عمري بين أبوين لايعرفان إلا الزهد والتصوف وليس لديهما عن الحياة إلا أنها رحلة قصيرة لمستقر طويل ، فورثتُ منهما الزهد طوعا وحبا ، فلم أشته ملبسا ولا مأكلا فوجدت قلبي لا يعرف إلا الحب فانعكست رقة قلبي على صفحة وجهي بابتسامة لا تفارقني أبدا .
أيقنت أني لكي أتقدم لابد أن أقدم ، فأخذت ألتهم الكتب الدراسية أحفظها بلا وعي ولا فهم ؛ وأنى لي بمدرس خاص وأنا أذهب إلى المدرسة بصعوبة ؟
فالأرض تحتاجنا ، وبدلا من أن نكون مورد رزق صرنا عبئا على رجل مثقل كاهله بأحد عشر طفلا ، فصرت بكف نصف ناعمة ، نساعده في الحقل صيفا ونتفرغ لالتهام الكتب شتاء ، والحلم يداعب مقلتي ليلا ويسرق وعيي نهارا ، أجلس على شاطئ الترعة كما هي عادة أترابي ، فلا مكان للمذاكرة بالبيوت التي تعج بالضجيج خبيز وغسيل وحيوانات وطيور وأطفال رضع :
أيا هذا الحلم الثقيل
كلما توقفت ناداني : تعال
وكلما أقبلت هم بالرحيل
حملت الحلم وبحذر خطوت نحو المدينة لأتذوق طعم الغربة صبيا ذلك الطعم المر اللذيذ ، فالتجارب المريرة تجعل الشخص أكثر إدراكا لأموره وشؤونه ، وكان الصدام عنيفا بين غنى رفاقي ورفاهيتهم وانزوائي بشقتي الصغيرة التي احتوتني وأخي الأصغر ، لايكسو جسدها العاري إلا سرير وإناء طهي وثلاثة أطباق صغيرة ، في غربة اختيارية امتثالا لقول الشافعي :
سافر تجد عوضا عمن تفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده
إن سحّ طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الأرض ما افترست
والسهم لولا فراق القوس لم يصب
أفقت من هزيمتي ، فما أقبح أن تدخل معركة الحياة مهزوما ، والشهادة كما أكد كل أهلي هي سلاحك الوحيد ، صارت زياراتي للقرية تتباعد ، أبعث الشوق لأصدقائي في أجفان ورقة .
الدرس الأول في الغربة ألا تندهش وأن تقذف بفضول القرويين وبلاهتهم في بحر مياهه لاتقف ، ولكن غصب عني والطبع غلاب هناك أمور لاتمر دون أن تترك في ذاتك فضولا وألف سؤال ، فحين تأتيني رسالة من القدر أقع أسيرا تحت حوافر الألم وأنا أحاول أن أتقي شر ما أخشاه ، فمهما بلغت من المقدرة وضبط النفس لاتستطيع االفكاك من سرمدية النقص البشري .
والتحكم الكامل بالنفس يسمم السعادة فلا تبتهج للجديد ، لم أبتهج لحصولي على مجموع عال نسبيا لشعبة الدراسة الأدبية وعدت للقرية ولكني كنت شخصا آخر .
عودة
........
الترعة التي تشق قريتي نصفين هي أول ما تقع عليه عينك،شامة على خد القرية ،حولتها العقول المحمومة بمخلفات حظائرهم وحيواناتهم النافقة لكيس دهني ضخم معبأ بالصديد،فأغلقت الترعة عينيها على قذى ترتع فوقه جيوش الذباب نهارا ويمتص الناموس ما تبقى من دماء ليلا في حراسة الروائح الكريهة .
"الغرز " التي لا يرتادها إلا قلة منبوذة صارت مقاه يرتادها الشباب والشيوخ ،بعضهم يتحدث بدعم كاذب وبعضهم يتحكم بنشوة ، يطرقون أبواب التفرقة والصدام والخلاف وحب الوصاية ،شواربهم تتدلى فوق مبسم شيشة ،عيونهم زائغة وجيوبهم خاوية .
الحارة التي كانت تشرق عليها الشمس كل صباح فتنشر أشعة الحب والخير استقبلتني بصمت القبور ،عيون تتطلع خلف الأبواب بصمت وكراهية .
هل أنا من تغير أم القرية أم كلانا ؟ إرسال التلفاز الذي كان يتوقف بعد نشرة التاسعة صار ممتدا حتى الصباح ،شكت الأرض إهمالا وماتت الحيوانات جوعا ،وامتلأت الشوارع الضيقة بأقفاص تمتلئ بدجاج المزارع الأبيض لونا الأسود طعما ،لغة جديدة وكلمات وليدة دخلت البيوت فطردت القناعة واستوطن النفوس شعور بالفقر ولم تعد تسمع إلا كلمات من عينة الانفتاح والاستيراد ، المندرة الخارجية التي كانت تستقبل الضيوف تحولت إلى محلات معروض بها مجموعة من الملابس الرديئة وكان ذلك بمثابة تشييع لجثمان الحب والكرم .
الصراخ والهتاف يعلو ،تذكرت أن اليوم هو نهائي كأس مصر بين فريقي الأهلي والزمالك ،الأهلي يقلب الطاولة على رأس غريمه ويحول الهزيمة لفوز في دقائق .
عادت الحركة للحارة والمسطبة التي كانت تئن تحت كبار تحيط بهم الهيبة في حوارهم وحبهم وخلافهم واختلافهم صار يعتليها اشباه رجال .
مال أكبر الجالسين على أذن صبي ، عاد الصبي يحمل قماشة بيضاء يتوسطها خطان لونهما أحمر كرمز لفانيلة الزمالك وضعها على ظهر كلب وراح يجوب الحارة وخلفه الصبية يصفقون ويصرخون .
فار الدم برأس المهزومين ، أخذوا يقذفون الصبية بالحجارة ففروا تاركين الكلب ، ظل المهزومون يقذفون حجارتهم حتى تكسرت عظام الكلب وهو يعوي وعينه صوبهم :ماذا فعلت لأرجم ؟ هدأت سورة المهزومين وصوت الكلب يخفت يخفت حتى استحال إلى أنين ،فنزع أحدهم القماشة عن ظهره وركله بعنف كرسالة "أضرب المربوط يخاف السايب".
أتم الحزن إحكام قبضته على قلبي ، هممت بالمشي قبل الاعتصار ،على رأس الحارة كنت أقف صغيرا فأرى الشمس وهي تعانق الحقول ،صد بصري جدران لبيوت بالآجر تتقزم بجوارها بيوتنا الطينية العتيقة ،سكانها كنا نكتريهم في حقولنا ، سافروا العراق وعادوا يطلون علينا من نوافذها ساخرين ونحن نحمل فؤوسنا ونجر حيواناتنا الهزيلة خلفنا .
يلوح سرب من الفتيات يحملن جرارهن وقد ملأنها من " المرشح " بينهن أختي ، حين دنت رأيت وجهها ككبد حيوان نافق ، ألقت جرتها ،أخذت نفسا عميقا ، لاذت بالصمت ،تيقنت أمي أن هناك أمرا .
النساء في قريتي إذا توفي زوج إحداهن لا تنزع عنها الأسود إلا حين تلف بالكفن ، وحدث أن لبست إحداهن جلبابا ملونا في عرس أخيها بعد وفاة زوجها ،صارت قصة تحكيها النساء حول فرن الخبيز وتتندر الفتيات بها وهن يحملن جرارهن في الورود والصدور وينأين عنها كناقة مطلية بالقار وبناتها رغم جمالهن لم يطرق بابهن خاطب ،إلى أن تزوج بهن الغرباء الذين سافروا للعراق وعادوا ليشتروا سيارات أجرة ،فتكومت الجنيهات تحت وسادة زوجاتهم في حين أننا لا نمسك الجنية إلا مرة واحدة في العام بعد جني القطن .
وقفت السيدة أمام "المرشح " ومعها أزواج بناتها يملأون "براميل ضخمة مرصوصة على السيارات ؛والفتيات يتلظين في صمت ومزيدا من الكيد خلعت سروالها وأخذت تغسله ثم انصرفت وهي تضحك وتشير إليهن بإشارات بذيئة .
خنجر
.........
مؤشر الاغتراب يصل لدرجة تنذر بنوبة اكتئاب ،تذكرت رفاق دراستي ،ولكني لم أكن صديقا لأحدهم ! فهل أقحم نفسي عليهم ؟ هم دوما بعد العشاء يجلسون عند ماكينة الطحين خاصة أحدهم ،سأفتعل المرور العفوي وألقي التحية التي يلقيها عابر السبيل .
ما إن رأوني حتى هللوا ،أجلسوني بصدارة مجلسهم ،الذكريات المشتركة مادة خصبة لحديث لا ينتهي ،والضحك والسخرية من ذاتنا وقود دفء لمجلس لا تنقصه الحميمية .
عرفت معهم الطريق لمركز الشباب ،اقترحت عليهم أن نقوم بحملة نظافة لشوارع القرية ، عرضوها على رئيس النادي الذي احتضن الفكرة برغبة صادقة .
تحركت الجيوش مذللة لها كل العقبات ،قابلنا الأهالي بحفاوة عارضين كل مساعداتهم ،باتت الشوارع هانئة بيد حانية تمشط شعرها لأول مرة طاردة حشرات أنهكتها .
قربني رئيس النادي منه حتى إنه ترك مكتبه أجلس عليه لأكتب تقريرا عن الحملة ريثما يذهب للبيت ويعود أكون قد أنهيته ،لم أرض عما كتبته ،مزقت الورقة ، فتحت أول درج باحثا عن أخرى ،فتحت ملفا هالني ما رايت ، مكافآت للذين شاركوا بالحملة ولودرات وفؤوس وإجمالي ميزانية الإنشاءات والأنشطة مبالغ ضخمة ، فار الدم بعروق الرفاق حين أبلغتهم ، انتشرت القصة وزاد الناس على الحقيقة ما يثقل كاهل الحقيقة ، أشار علينا أحدهم أن نطلب اجتماع جمعية عمومية لسحب الثقة .
الأحداث تتسارع وركب الموجة طامعون ، انعقدت الجمعية وجرى الاقتراع السري الذي أسفر عن نتائج مذهلة .
احتفل الشباب بالنصر ، ارتفع سقف الأحلام ببناء مركز شباب مكثف ، اخترنا أفضل العناصر من النخبة المثقفة ، حددنا الرئيس والأعضاء وأمين الصندوق .
الظلام يجعلك تسير اعتمادا على حفظك لكل شبر بالطريق ،شبح أسود يجلس على المسطبة في مدخل بيت جدتي الذي لابد أن أمر عليه للوصول لبيتنا ،بدد صوت خالتي جيوش الخوف التي هاجمتني ولكنه ألقى في روعي قلق .
- لماذا تجلسين هكذا ياخالة ؟
- انتظرك يا بن أختي .
ألقيت بجسدي على المسطبة قبل أن أسقط من الإعياء .
- ليه يا نور عين خالتك تؤذيني أوي كدا؟
- أنا ؟
- جوز خالتك جاء ومعه أخوه زعلانين أوي منك .
أمين الصندوق أخو زوج خالتي ،وخالتي تلك قصة وجع لا يسعها الربع الخالي ؛فهي الأخت الوحيدة لأمي وأخاهما الوحيد حكم عليه بالسجن المؤبد في جريمة قتل بعد زواجها بأيام ،تجنبها أقاربها وأقاربي فتحملت وحدها الإنفاق على أخيها وأمها القعيدة .
زوجة خالي تركت البيت بعد الحكم عائدة لبيت أبيها ،وعلى خالتي أن تخرج من بيت زوجها فورا؛فتلك طبيعة زواج الشغار (البدل) - وهو ان يتبادل اثنان الزواج انا اتزوج أختك وانت تتزوج أختي - فإن غضبت إحداهن وتركت بيتها لابد أن تغضب الأخرى وتترك بيتها ، ولكن أهله لم يكتفوا بل طلبوا منه تطليقها فرفض ، فتحول زواج الشغار إلى مسيار .
سجن خالي أزمة زادتنا التحاما ؛ لم أكن منذ ولادتي مرتبطا بأمي ارتباطي بها ،تحملني أينما كانت على كتفها بطريقة غريبة ؛صدري ملتصق بصدغها وساقاي إحداهما على ظهرها والثانية على صدرها واضعا راحتي فوق رأسها كوسادة لرأسي أنام حينا وأصحو حينا لأرى الطريق من بعيد وكل الأشياء أسفل عيني تبدو صغيرة حتى الكبار .
اصطحاب زوج خالتي لأخيه مهددا زوجته رسالة لا تقبل التأويل ،نظرت للرضع على رجليها وهي تغطي أجسادهم بطرف ثوبها حتى لا يقضي عليهم الناموس ثم نهضت واقفا وعينها متعلقة بي في وجل .
ناشدتك اللهم جفف دمعتي فالحزن صحبي والبكاء قريب
دبر أموري كلها إنني... عبد ضعيف لا يحسن الترتيب
التقيت بأمين الصندوق في حضرة زوج خالتي .
- ماذا تريد مني ؟
- أن تقول في الاجتماع أن ما أشعته لم يكن إلا كذبا .
- لكن كلامي لا يقدم ولا يؤخر ؛فكل شيء يمكن إعادته إلا الكلمة إن خرجت لا تعود والميزانية موجودة بمديرية الشباب .
- ليس هذا شأنك ، عليك أن تنفذ المطلوب .
- إن شاء الله .
لم أذهب للاجتماع ولم أدخل النادي بعدها ، صرت مادة دسمة لأقاويل هشة بعدما أعلن رئيس النادي الذي يتمتع بعصبية شبه قبلية كبيرة - أن المذكور كاذب ونحن كأعضاء مجلس إدارة لا نألوا جهدا في خدمة بلدتنا الحبيبة وقد تبرعنا بميزانية النادي هذا العام لرصف الطريق الذي يربطنا بالطريق السريع ، فحين تكون البنية التحتية منهارة فلا مجال للأنشطة والعقلاء دوما يرتبون أولوياتهم : الأهم ثم المهم .
ساقتني قدماي لحقلنا الذي يقع في نهاية زمام القرية على شاطئ فرع النيل ، ألقيت حجرا ضخما بالماء شق بطنه فأودعته امنيتي : أن أتخلص من مكتبتي وأملك مالا وفيرا ووقتا كبيرا أتفرع فيه لقراءة مجلة "الشبكة " وكتب الطهي
هامش :زواج الشغار زواج يقوم على التبادل وقد قرأت أنه محرم .
- مجلة الشبكة مجلة لبنانية تقوم بعرض صور شبه عارية للنجمات وموضوعاتها عن أخبار الفنانين وقصص حبهم وقضايا أخرى تتسم بالتفاهة.
الجامعة
........
مثقل بكابوس أفر منه نهارا ويصطادني ليلا ،لم ينقذني من براثنه إلا فرحة ببداية حياتي الجامعية ، كيف ستكون ؟ فتى يجلس بجوار فتاة، رحلات ، أصطحب فتاة جميلة للكافتريا ،أنظر في عينيها ممسكا يدها وأنا ألقي أشعارا بت الليل أنظمها؟
ارتديت ثوبي الأبيض ، ونعلي الجديد ، سرت هادئا حتى صارت البيوت خلفي والحقول أمامي ، القمر يلقي ضوءا فضيا على أعواد الذرة ،الترعة مترعة باللجين ،أصوات تنبعث من خلف جدار طيني قصير لمصلى على جانب الترعة ، دفعني الفضول ، ياربي ! إنه الكاتب الجميل ومَثلي الأعلى يحيط به ضيوف كتاب نصف مشاهير ،سلمت ،اتخذت مجلسي على أعواد قش الأرز ، فاغرا فاهي كأبله ، يمزقون السادات ويفندون عوارا باتفاقية كامب ديفيد ، لابد من العودة للناصرية ليشتد عود البلوروتاريا وكلمات غريبة كالبنيوية والتحريض والتطبيل والكذب وتزييف الوعي .
غيّر أحدهم مسيل الحديث لينعطف النقاش على الأدب شاكيا أن أحدا من النقاد لم يتعرض لمجموعته القصصية ، طَيب َ أحدهم خاطره :الأدب العربي يعج بالمؤرخين ، لكن قلما تجد ناقدا يمارس النقد بوعي ليضعه بين يدي الجماهير يبني الذات الإنسانية فيصير نقدا فعالا يرشد للطريق الصحيح ، للأسف يتم استقبال النقد -إن وجد - في بلادنا بكل تبرم ورفض وحساسية ؛ فنحن مأدلجين مشخصنين ، نجيد رسم خرائط الاتهامات لنقضي بها على الخصوم .
( شواكيشهم) دقت بندق رأسي المتبرعم ، أترقب زياراتهم المتباعدة لأنتقل من عالم العبرات والنظرات للمنفلوطي ورومانسية محمد عبد الحليم عبدالله والقصص الدينية وعبد الحميد جودة السحار لعالم ماركس ودستيوفسكي وتولستوي .
زارني النوم لماماً ، وأنا أترقب خيوط فجر جديد سأذهب فيه للجامعة ، تخيرت كليتي برغبتي وتخيرت قسم اللغة العربية لدراستي ليكون قاعدة أنطلق منها للحلم.
دلفت الباب بعين زائغة بحثا عن جدولي فلم أجده ، ظللت أدور بالكلية كمن يبحث عن حقيبة سفره بميناء يعج بالفوضى .
وئد الحماس ، ذهبت ضحى اليوم الثاني ،عثرت على جدول محاضراتي معلقا بلوحة الاعلانات ، توجهت مبتهجا للمدرج ، كثير من النسوة وقليل من الفتيات ،ألقيت سؤالي على الجميع : أهذا مدرج قسم اللغة العربية؟
التفتت نحوي فتاة : المسافة من كتفها الأيمن للأيسر أقل من عقلة إصبع ، قصيرة الشعر ببلوزة مفتوحة لا شيء ناتئ تحتها كأنها قديد الخبز بعينها اليسرى حول ؛ أطلقت ضحكة طويلة وما زالت تنظر نحوي ثم توقفت عن الضحك ! أنت وقعت ولا الهوى رماك ؟ وإيه اللي رماك على المر ؟ قالت جارتها القصيرة جدا :الأمر منه ، و راحتا في نوبة ضحك انتهت بأن دقت إحداهما كف الأخرى ، رمقتهما بازدراء فاستدارتا وكأنهما لم تراياني .
اتخذت طريقي لنهاية المدرج ، تشاغلت بالصحيفة التي في يدي حتى أذن الظهر ولم يأت ِ المحاضر ؛ فاتخذت طريقي للقطار .
قصصت على أستاذي ما كان ومدى إحباطي ، تحسر قائلا : للأسف لا أحد يدخل قسم اللغة العربية برغبته ، كلهم استنفذوا مرات الرسوب في الأقسام الأخرى فحولتهم إدارة الجامعة إجباريا لقسم اللغة العربية وفي محاولة بائسة لجذب الطلاب وضعت إدارة الجامعة مكافأة هزيلة لمن يدرس اللغة .
في اليوم التالي جاء الدكتور تحدث عن الكوفيين والبصريين واختلاف مدارسهم حول أسباب رفع المبتدأ ثم تلا أبياتا لابن مالك مستشهدا .
أجلس وحيدا تعلو قسمات وجهي مشاعر القرف ،رمقتني فتاة أظنها أصغر الجالسات ، تبادلنا النظرات أياما ، حتى سألتني : هل سجلت محاضرة أمس ؟ ناولتها مفكرتي ،أعادتها في اليوم التالي وقد شكرتني بتوقيع ورسمة قلب أصابه سهم .
نتحدث في الفترة البينية للمحاضرات ، بيتها قريب من الكلية ،عرضت علي مرافقتها لبيتها بمناسبة عيد ميلاد أخيها حارس مرمى أحد أقطاب الدوري الكبار ،فرحت مُرحِبا بالدعوة ،
البيت خاصتهم وليسوا مستأجرين ، جلست هزيلا داخل الكرسي بغرفة الاستقبال ،أتأمل مظاهر الثراء المتناثرة بأرجاء الغرفة ، قطع شرودي صوت والدها الذي رحب وجلس ، دخلت بمشروب بارد ثم جلستْ ،سأل عن اسمي وفصلي ثم قال متى ستزورنا مصطحبا أهلك ؟
لولا أننا وحدنا لظننت أنه يحدث غيري ! ألوان وجهي يعجز من يراني عن إحصائها ، تذكرت أماً تصارع الفقد؛ أخوها خلف القضبان ، وزوجها مصاب بشلل نصفي، وأمها تصرخ تحت نير الضغط المرتفع وابنها الذي تعلق عليه بقية أمل يعقد صفقة زواج في بيت مريب ، أفقت على صوت الرجل وهو يكرر سؤاله ، كدت أقول له :لا أملك من الدنيا سوى تذكرة القطار الذي سيعيدني لقريتي ، تعللت بموعد القطار واعدا إياه بزيارة أخرى ، لم أعد أبدا للحديث معها متخفيا بالمسجد بين المحاضرات .