كرم الصباغ - دهس النعال.. قصة قصيرة

ظلت في نظره شجرة ذات فروع شائكة و ساق زلقة، استعصى عليه تسلقها. و ظل هو في نظرها مجرد قرد شبق؛ فتعمدت إهمال زينتها، كلما غشي الدار التي خصصها لها دون زوجاته الثلاث، و تفننت في صده بحيلها المنفرة، و كلامها الخشن، و عبوسها و تأففها الدائمين في حضرته، و نشوزها الذي أفسد محاولاته اليائسة لوصل المقطوع فوق الفراش الوثير. بالغ في صفعها؛ فلم يزدها الضرب إلا تمردا،؛ فقرر بشكل جدي أن يستجيب إلى طلبها المتكرر، لكنه سرعان ما عدل عن قراره؛ إذ تيقن أن طلاقها سيحيها من جديد؛ فقرر أن تبقى نصف حية، و نصف ميتة. هكذا ظلت معلقة تتحرق شوقا إلى ساعة الخلاص، يحييها الشوق تارة، و يميتها السأم تارات.

(٢)
ضربت الانتكاسات المفاجئة جسده الفارع، الذي طالما حسده عليه رجال النجع، و بمرور الوقت أرغمه المرض على الزهد، رغم كراهيته المفرطة للصوم. آثر المكوث في فراش زوجته القديمة التي ترضى باليسير من كل شيء. و لما فوجئ بخفوت رغباته و انطفاء نار الاشتهاء، قرر هجر فراشي زوجتيه الثانية و الثالثة، و أرغم على اعتزال دار الرابعة بعد أن أتى السوس على أضراسه و قواطعه. و بمرور الأيام بهتت ألوانها الزاهية في ناظريه، و صارت المسافة بينهما شاسعة كصحراء؛ فتحاشى الاقتراب من تفاحتها المتحجرة. و بينما هما على تلك الحال، قررت هي أن تعيد نصفها الميت إلى الحياة، لكنها ما إن شرعت تروي جذورها الظامئة، خلسة، حتى زكمت رائحة العشق، التي فاحت بعد منتصف الليل الأنوف المتربصة.

(٣)
الوقت هجير، و الشمس بنت حرام، لفظتها جهنم الحمراء. والنجع غارق في قيلولته. فجأة، خرج من مكمنه برفقة عصبة من أبناء عمومته، لم تمض سوى لحظات، بعدها هز صوته الناعق الأرجاء؛ فتبخرت الملذات، و خرج الرجال فزعين بملابسهم الداخلية البيضاء، بينما خرجت النساء على غير العادة مكشوفات الشعر، سافرات الوجوه؛ بلا طرح، أو براقع . وقفت الحشود على باب الدار. بأعين تنازعها النعاس و اليقظة شاهدت الحشود الصيادين القابضين علي صيدهم الذي وقع في الكمين كما يقع الفأر بين مخالب الحدأة الجائعة.

(٤)
في جذع شجرة تين عتيقة قيدوا صيدهم بالحبال، و اشتهوا تمزيق لحمه بأسنانهم. ربما حاول البعض انتزاع حنجرته، و حاول آخرون خمش جسده، و لكنهم بعد أن شدوا الوثاق تسابقوا جميعا في صفع وجهه المستباح. مرت لحظات قصيرة كانت كافية لستر جسدها البض بثوبها المخلوع، بعد ذلك أخرجها من ستر داره؛ لتكتمل فضيحتها على الملأ. حاول جرها على الرمل كالذبيحة، و لكنها اثاقلت إلى الأرض، و التصقت بها؛ فأفلتت يده شعرها الأسود الناعم الذي تناثرت خصلاته على الرمل، و هوى على ذراعيها، غارسا أصابعه الطويلة في لحمها، و عاود جرها مرة أخرى، مطلقا سيلا من السباب و اللعنات و النعوت البذيئة. و لما كانت الحلقة مغلقة من شدة الزحام و التدافع، صرخ كالمجنون في المتجمهرين؛ فصنعوا ممرا ضيقا، منه عبر بذبيحته إلى الشجرة، حيث قيد عشيقها. لقد تحول رغم مرضه إلى ثور هائج؛ فداس عنقها تارة، و جسدها المكتنز تارات، بينما فاجأت هي الجميع بالبصق على وجهه الكريه.

(٥)
أقبلوا من شمال النجع واجمين، مخلفين وراءهم سحابة سوداء من الغبار. ربما أخفت الغترات وجوههم الواجمة، لكنها لم تخف أعينهم المشبعة بالحزن و الانكسار. كان وجهها لا يزال ملتصقا بالرمل الساخن، و كان جلدها ينز بالعرق . ربما تنازعتها في تلك الساعة العصيبة ألوان شتى؛ فقد أظلم وجهها الأبيض، و اكتسى بالغبرة و السواد، وسرعان ما غلف الاحمرار بشرتها بعد أن أحرق لفح الحر جلدها الناعم، لكنها ما إن وصلوا إلى المكان، حتى شحب وجهها، و صار مصفرا كالليمون. و لما لم تستطع اتقاء الشرر المتطاير من أعينهم، أطبقت جفونها متحاشية النظر إليهم. في صمت مطبق انتزعوها من بين يدي ثورها الهائج؛ فخنس خواره، و انزوى بجوار الشامتين، لم تمض سوى لحظات خاطفة، لمع فيها خنجر كببرهم تحت أشعة الشمس الحارقة، و سرعان ما ارتد النصل من جسدها منطفئا مشربا بدمها القاني. بينما تقدم أصغرهم إلى جذع الشجرة، و انبرى في تسديد الطعنات الغائرة إلى صدر المكبل العاري. هكذا سال دم الصيد؛ و هكذا لفظ المصيدان أنفاسهما الأخيرة. حمل أوسطهم جثمانها؛ فتلطخ قفطانه الأبيض بالدم، على هذا النحو غادروا المكان أشد صمتا، و أكثر حزنا، و أقل انكسارا.

(٦)
على حافة الحفرة أهالوا عليها الماء؛ ليطهروها من جنابتها. جرت على الرمل خيوط حمراء فائرة، حدق كبيرهم في فقاعات الدم، لكنه لم يقو على النظر إلى وجهها. شعر بأن قلبه ينخلع من مكانه؛ إذ تذكر يوم عنف ذلك المعدم الذي عشقها، و عشقته. لقد رأى دائما أن للناس أثوابا شتى، و رأى هذا المعدم يوم حضر لخطبتها وحيدا عاريا مجردا من أي ثوب. تذكر كيف دهس قلبها بنعليه ذي الجلد الطبيعي الفاخر. أطلت الخواطر في رأسه نابحة ككلاب البرية المسعورة؛ فشعر أن النار تخرج من أحشائه، و أن يدا خفية تنتزع ملابسه قطعة قطعة؛ فتشبث بعباءته السوداء، و أحكم لفها حول جسده الذي انتفض، بغتة رغم الحر الغليظ. عصفت برأسه الخواطر مرة أخرى؛ فتذكر يوم حضر ذلك الكهل المزواج في جمع من أبناء عمومته الذين ضاقت بهم المربوعة. تضرعت إليه ألا يفعل، لكنه ركب رأسه و فرسه الجامح، و أبى النزول. لقد تيقن اليوم أنهما قررا الثأر بإنزاله عنوة من فوق صهوته العالية عاريا. فغرت الحفرة فمها؛ كي تستقبل جثمان الذبيحة. عندئذ انبعثت أصوات من الحفرة المظلمة، ملأت أرجاء المكان، و صمت آذان المنهمكين في إهالة الرمل فوق قتيلة عجز الموت عن إخراس صرخاتها و نحيبها الموجع.

(٧)
على مقربة من الشجرة ، تعالت همهمات الرجال و النساء حول جثته الملتصقة بالجذع. انهمك الشيوخ و العجائز في ترديد العبارات المعلبة التي تناسب سوداوية المشهد؛ فقاطعهم آخرون بإطلاق عبارات التشفي و الشماتة برعونة و اندفاع. وسط هذا الجو المشحون تفحصت أعينهما الفضاحة امرأتين بدا عليهما التوتر؛ فانسلتا من دائرة الضجيج؛ و راحتا تتحسسان بأصابع مرتجفة أحشاءهما، التي طالما ارتوت خلف كثبان الرمل في ليال، كان فيها الزوج طريح الفراش، و كان فيها القمر معصوب العينين تماما.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى