د. علي خليفة - صورة الشيطان في المسرح قديمًا

(1)
في المسرح المصري الطقسي (الديني) القديم كانت تمثل أسطورة إيزيس وأوزوريس، ويعرض جزء كبير منها أمام عامة الناس؛ لأنها طقوس دينية، وهناك جوانب منها تتم في الغرف السرية في المعابد ولا يراها غير الكهنة،وهذا ما ذكره هيرودوت عن العرض المسرحي لأسطورة إيزيس وأوزوريس حين زار مصر، وعاش فيها بعض الوقت.
وفي هذه الأسطورة والمسرحية التي كانت تجسدها نرى "ست" يجسد الشر، فهو يمثل قوة الشر حسب اعتقاد الفراعنة آنذاك، في حين كان "أوزوريس" يمثل مع إيزيس النزوع للخير.
(2)
والمسرح الإغريقي خرج من عباءة الدين لمعالجة أحداث تاريخية وواقعية وأسطورية،ومع ذلك بقي أثر العقيدة الإغريقية واضحًا في هذه المسرحيات، وتردد ذكر الآلهة الوثنية فيها، بل كانت تلك الآلهة الوثنية تشارك البشر في بعض الأحداث فيها،وكان هؤلاء الآلهة الوثنيون –كما تصورهم اليونانيون–يعادي بعضهم البعض الآخر، كما نرى في مسرحية "هيبوليت" ليوربيديس، ففيها تعادي أفروديت إلهة الحب الوثنية عند الإغريق أرتميس إلهة الصيد الوثنية عندهم، وتسعى كل واحدة منهما لإخضاع البشر لها دون غيرها من الآلهة الوثنية.
ونرى في هذه المسرحيات تلك الآلهة الوثنية – في بعض الأحيان –تعادي البشر، وتنتقم منهم، وتبث اللعنة فيهم، فأوديب لا ذنب له هو وعائلته سوى أن أبولون الإله الوثني تنبأ بمصائب ستحل عليه وعلى عائلته، كما صور هذا مسرحية "أوديب ملكًا" ومسرحية "أوديب في كولونا" لسوفوكليس، ومسرحية "الفينيقيات" ليوربيديس.
ولهذا فليس غريبًا أن نرى بعض الآلهة الوثنية اليونانية تُصَوَّرُ في بعض المسرحيات على أنها تريد الإضرار ببعض البشر وتستعديهم، كما نرى في مسرحية "بروميثيوس مقيدًا" لأيسخيلوس، ففيها يعاقب زيوس رب الأرباب الوثني عند اليونانيين بروميثيوس ابنه؛ لأنه أمد البشر بقوة النار وعلمهم بعض العلوم والفنون، ومسرحية "نساء طروادة" ليوربيديس فيها ينتقم بوسيدون إله البحر الوثني عند الإغريق من اليونانيين؛ لأنهم دمروا معابده في طروادة.
ومن هنا نرى أن هذه الآلهة الوثنية ذاتالطبيعة الناسوتية– كما تصورهم الإغريق في مسرحياتهم التي وصلتنا– كانت تقوم بأفعال الخير والشر حسب نوازعها وتقلباتها التي تتساوى فيها مع البشر، ومع هذا فقد كان الإغريق يتصورون أن بعض آلهتهم الوثنية لا يصدر عنها إلا كل شر، كآريس إله الحرب الوثني، وهاديس إله عالم الموتى الوثني؛ ولهذا لم يكونا يذكران في المسرحيات اليونانية بخير، ففي مسرحية "السلام" لأرسطوفان يظهر آريس بغيضًا يريد تدمير البشرية بنشر الحروب فيها،وفِي مسرحيات يونانية قديمة تتردد تلك العبارة عن هاديس إنه من بين الآلهة لا يحبه أحد، فهو موكل بالعذاب في عالم الموتى.
ومن هنا نرى أن العقيدة الدينية عند الإغريق صورتها مسرحياتهم التي وصلتنا عنهم، ونرى آلهتهم فيها متعدّدين، وفيهم كثير من صفات البشر في التقلب والعداوة، وهناك من بينهم من عرف بشره الصرفٍ، كآريس وهاديس، وهما بمثابة الشيطان في ذلك المسرح، ولكننا مع ذلك لا نرى في هذه المسرحيات تصورًا واضحا للشيطان، كما نراه في الديانات السماوية.
وأضيف لهذا أن العقيدة الإغريقية كما يمكن تلمسها من مسرحيات الإغريق لا يوجد أثر لديانة سماوية فيها، بخلاف عقيدة العرب الوثنية قبيل الإسلام، ففيها ما يدل على أن العرب قد عرفوا ديانة سماوية من قبل، ولكنها حرفت وبقيت الوثنية ممترجة ببقايا هذه الديانة السماوية؛ ولهذا كانوا يبررون عبادتهم للأصنام بقولهم:مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَىويقول الله تعالى:وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ.
(3)
ولم يهتم الرومان بالمسرح، فقد شغلتهم المصارعات عن أي وسيلة أخرى للتسلية؛ ولهذا أصبحت المسرحية تشغل حيزًا ضعيفًا من اهتمام الرومان، وغالبًا ما كانت تعرض مسرحية كوميدية خلال المصارعات الدموية التي يتصارع فيها المتصارعون حتى الموت.
وبتأملنا لما وصلنا من مسرحيات رومانية –لا سيما لترنتيوسولبلوتوس–نرى أنها كوميديات يغلب عليها أن تكون متصلة
بالأسرة والأحوال الاجتماعية–كمسرحية "الحماة" ومسرحية"الخصي" لترنتيوس، ومسرحية "كنز البخيل" ومسرحية "كاسينا" لبلوتوس–وقل أن نرى فيها أصداء الصراعات السياسية، كما صورها لنا أرسطوفان الإغريقي في مسرحياته،ولا نرى ظهورًا لشخصية الشيطان في هذه المسرحيات.
أما مسرحيات سينكا الروماني فهي تراجيديات يغلب على الظن أنه كتبها لتقرأ لا لتمثل؛ لأننا لم نر ما يؤكد أنها قد مثلت،وقد كان الجمهور الروماني يتحمل مشاهدة المسرحيات الكوميدية بصعوبة فكيف له أن يتحمل مشاهدة هذه التراجيديات؟!وسينكا في مسرحياته نراه يسير على خطا الإغريق، بل إنه قد عارض بعض مسرحياتهم كمسرحية "ميديا" التي عارض فيها مسرحية "ميديا" ليوربيديس، ومسرحية "أوديب" التي عارض فيها مسرحية "أوديب ملكًا" لسوفوكليس،وفِي مسرحيات سينكا نرى الآلهة الوثنية حاضرة أيضًا بشكل قريب مما رأيناه في مسرحيات الإغريق، وكان يصدر منها الخير والشر أيضًا.
(4)
ومع إهمال الرومان للمسرح قل الاهتمام به، واختفى مع انتشار المسيحية في الدولة الرومانية،ولكنه عاد للظهور مرة أخرى من خلال الكنيسة–في العصور الوسطى–فقد رأى القسيسون أنه يمكن تعليم الناس أمور الدين بتمثيل بعض المواقف، كقصص الأنبياء والقديسين، وكان الشيطان يشخص في هذه المسرحيات القصيرة، وغالبًا ما يتم عرضه فيها بشكل ساخر يدعو للضحك.
(5)
وازدهر المسرح في إنجلترا في عهد الملكة إليزابيث، ونرى في مسرحيات ذلك العهد تصويرًا للكائنات الغيبية كالشياطين والجن والأرواح،وفِي مسرح شكسبير تمثل هذه الكائنات الغيبية حضورًا قويًّا، ولها تأثير فعال في تطور الأحداث بتلك المسرحيات، فشبح هاملت الأب هو الذي يُعَرِّفُ هاملت الابن بالجريمة التي ارتكبت في حقه من قبل أخيه وزوجته، وتوالت الأحداث بعد ذلك في هذه المسرحية بناء على حديث الشبح لهاملت،وفي مسرحية "ماكبث" كان حديث الساحرات الجنيات لماكبث الدافع له لتحقيق طموحه في المُلْكِ، وخاض في بحارالدم بعد ذلك؛ لينتزع الملك من دنكان، ثم ليثبت ملكه أمام من يخالفونه،وفِي مسرحية "يوليوس قيصر" يظهر شبح قيصر بعد قتله لبروتس مرتين، ويتنبأ له بهزيمة جيشه، وقد تحقق ما تنبأ به شبح قيصر،ونرى في مسرحية "حلم ليلة صيف" حضورًا قويًّا لعالم الجن، أما مسرحية "العاصفة"–وهي آخر ما كتب شكسبير–ففيها نرى جنيًّا ظريفًا له دور رئيس في المسرحية.
هذا عن دور هذه الكائنات الغيبية في مسرح شكسبير،أما كريستوفر مارلو فكتب مسرحية "الدكتور فاوست"، ويصور فيها أسطورة فاوست الألمانية بشعور ديني، فنرى فيها فاوست وقد مل كل الاكتشافات العلمية التي توصل لها، وأصبح يرغب في المزيد منها، ولكن الوسائل العلمية في عصره لا تمكنه مما يريد، وييأس من حياته، ويهم بالانتحار، ويأتيه تابع الشيطان مفيستوفيليس، ويعرض عليه أن يطلعه على علوم واكتشافات جديدة، ويقدم له متعًا شهوانية مقابل أن يبيع روحه للشيطان، ويوافق فاوست، ويطلعه الشيطان وتابعه على علوم واكتشافات علمية، ويقدمان له متعًا شهوانية، ويميل فاوست للتوبة في بعض الأوقات من حياته، ولكن الشيطان وتابعه يضغطان عليه؛ ليبتعد عن هذا الباب، وتنتهي حياته بالموت وأخذ الشيطان روحه؛ ليكون عبرة لكل من يسلم روحه للشيطان.
وبن جونسون كاتب الكوميديا المعاصر لشكسبير له مسرحية عنوانها "الشيطان حمار"، ويصور فيها شيطانًا يطلب إلى إبليس أن يتركه يخرج من الجحيم للأرض؛ ليغوي بعض أهلها، ويتشكك إبليس في قدراته على الإغواء، فيتردد في إرساله للأرض، ثم يرسله بعد ذلك لفابيان الذي كان يقرأ في كتب الجن والسحر، ويتمنى أن يرى الشيطان، وحين ظهور الشيطان له تبدأ سلسلة من الأحداث الكوميدية الغريبة.
(6)
وفي المسرح الكلاسيكي الفرنسي في القرن السابع عشر قل ظهور الكائنات الغيبية فيه، فقد كان الفرنسيون أكثر تحضرًا من الإنجليز آنذاك، ومع هذا نرى بعض المسرحيات الفرنسية الكلاسيكية يظهر فيها بعض الكائنات الغيبية كمسرحية "دون جوان" لموليير الذي تصوره المسرحية على أنه شيطان بشري، وتنتهي حياته بتدخل ملك يقضي عليه فيها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى