علي بنساعود - الطفل الذي...

أخيرا، انتبهتُ إلى أن أختي التي تصغرني بسنتين تقريبا تتذكر أدق تفاصيل طفولتنا، بما تخللها من أفراح وأحزان، من عُطَل وحفلات، من رحلات ومشاجرات وعقوبات... كما لاحظت أن والديَّ، وقد تجاوزا الثمانين سنة، كثيرا ما يحكيان لنا قصصا عن طفولتهما! بينما أنا الذي لازلت في الأربعينيات، لا أتذكر نصف ولا ربع ما تتذكره أختي، كل ما أتذكره لقطات متفرقة مشوشة، دون تفاصيل...

عبثا، كنت أتصفح الألبومات القديمة، محاولا تذكر طفولتي مع أسرتي، ومع من كانوا أصدقائي...

نسيت أن أخبركم أن موضوع النسيان هذا لا علاقة له بقدرتي على الحفظ، إذ كنت متفوقا في دراستي، أفهم دروسي، وأحفظ ما يلزم حفظه من مقرراتي. والآن، حياتي جيدة، لا يعكرها سوى أمر النسيان هذا... لذلك، فكرت في أن أختلق قصصا تُسوِّدُ بياضاتي، فأحصل على صورة متكاملة عن سيرتي...

مرة، ونحن حول مائدة الغذاء، كانت أختي، كالعادة، تحكي عن عطلة سعيدة، أنا لا أذكر عنها شيئا، قالت إننا قضيناها عند جدي، في البادية، وأنني وإياها، تسللنا، يوم وصولنا، حين استسلم الكبار للقيلولة، وخرجنا نلعب، وأننا طاردنا الدجاج، واستفردنا بواحدة يتبعها صغارها، ورغم مقاومتها، تمكنا من القبض على بضعة كتاكيت حديثة التفريخ، وأننا ألقينا بها في بركة مائية كانت جوار البيت، لنستمتع بمنظرها وهي تسبح، لكن المسكينة غرقت، وهو ما أقلق جدتي وجعلها توبخنا حين اكتشفت ذلك...

قاطعتُها، وشرعتُ أحكي قصتي المختلقة، وقلت مخاطبا أمي:

"أما أنا، فلن أنسى ما حييت يوم خرجنا معك للفسحة، وكانت المناسبة عيدا وطنياً... لا أذكر التفاصيل، أذكر فقط مجموعة لقطات ومشاهد:

كنا في الزحام، بمكان لعله ساحة "باب الماكينة"*، حيث كانت حلقات الحكواتيين والمشعوذين والفرق الغنائية الشعبية... وكنت أبكي، والناس حولي متحلقين، يسألون عن اسمي، ومن يكون أبي، وعنوان بيتنا، وعمن اصطحبني إلى هناك...

في مخفر الشرطة، بقيت حتى ساعة متأخرة من الليل... وصلتِ ومعك جوقة من الناس...

يوم لن أنساه أبداً، قالت أمي! كنتُ أشُدُّ أختك بيمناي، وباليسرى أشد يدك، لكن، وفي لحظة سهو، ربما، انفلتْتَ من يدي، وسط الزحام، وحين لم أجدك، صُدمتُ... فَتَّشتُ... سألتُ... لطمتُ، صرختُ... كأن يداً شيطانية أَخْفَتْكَ، طُفْتُ المدينة بحثا عنك، حملت أختك على ظهري، جريت في كل الاتجاهات، وصورة والدك المغترب، آنذاك، لا تفارقني... كدت أفقد الأمل، لولا أنه، وبعد ساعات من البحث، الذي شارك فيه الجيران وأحباب الله، جاء جارنا "سي الكبير"، صديق والدك، واقترح علي أن نذهب إلى مركز الشرطة...

وجدناك، هناك، جالسا على كرسي جوار الشرطي المداوم، بملابس غير ملابسك! في يدك كسرة خبزة حافية، كنتَ متعباً، عرقان، لم تتعرف على أحد! لا عليَّ، ولا على أختك... ولا على أي واحد من الجيران ممن كانوا يرافقونني... أختك أيضا لم تتعرف عليك، وأنا بدوري كِدْتُ أُنْكِرُكَ لولا أن الشرطي وبَّخني وهددني بالمتابعة بتهمة الإهمال، وأكد، وبصاقه يتطاير، أنك ابني، وأنني لم أتعرف عليك لأن ملامحك تغيرت بفعل الخوف والبكاء والجوع والتعب... موضِّحا أنه لم يُعثر، يومذاك، على أي طفل تائه سواك...

خِفْتُ من الشرطي وتهديده، أضافت أمي، كان أكرش، درداء، يتطاير الشرر من عينيه، يتحدث والسيجارة لا تغادر زاوية فمه... بَصَمْتُ في دفتر رَثٍّ، كما أمرني، حملتك، وانصرفنا...

متوكئا على عصاه، قام أبي، وعَقَّبَ: كنتُ مغترباً، وقتها، والآن، فقط، فهمتُ لماذا أنتَ، عكس أختك، لا تشبهني ولا تشبه أمك، ولماذا كانت مشاعري، دوما، متبلدة اتجاهك! توجه نحو الدولاب، فتح صندوقا خشبيا، فتش بين محتوياته، أخرج منه دفتر الحالة المدنية، وفتحه يبحث عن الورقة التي سُجِّل فيها اسمي يريد تمزيقها... بكيت حد النحيب...

هنا، وقف جمهور الحلقة يصفق للرجل وللممثلتين الأخريين، انحنوا ثلاثتهم، أما أنا فطُفْتُ على الجمهور أسأله: من أكون؟

لم تسدل الستارة بعد...

________________________
*"باب الماكينة": إحدى الساحات الشهيرة بفاس، وكانت فضاء لفنون الحلقة المختلفة بما فيها من حكي، وتمثيل وفكاهة وغناء شعبي...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى