"إلى من حملك بيوم مطير .. الى الإنسان علي ألسبتي "
كعادته ، كان منشغلا بشيء ما حولة .. هذا طفل يحدق في عينيه، و آخر يركز على أذنيه و ثالث يتعجب للحذاء الكبير الذي يلبسه. و هناك طفل تسلق صدره ماسكا بيده اليسرى الطرف السفلي لربطة العنق العريضة و بالأخرى كتابا مندسا بجيب معطفه المتهدل ، محاولا سحبه دون جدوى . تقدمت مبتسما مادا ذراعي نحوه فرمقني بنظرات حلوة بريئة.
-خذ هذا لك .
- لا.. أريد هذا .
- وما الفرق ؟ انه نفسه. اجل يا صغيري.. نفسه . نزل مسرعا وتناوله فرحا وذهب. وكنت اعلم ان بدرا لن يرفض طلبا لصديق او رجاء لغريب. رفعت رأسي فبدت عيناه محدقتين وكأنه يريد أن يقول شيئا.
- يا بدر سلاما.. يا بدر سلاما.. جئت إليك. دمي كدمك ومياه الشط التي خلفك تسري في عروقي. لوحت جبهتي الشمس وارتسمت خضرة النخيل في عيني كما ارتسمت في عينيك.. يا بدر سلاما. يا بدر سلاما. وكانت خطوات خفير السواحل الجنوبية متسارعة نحوي:
- أراك تجهل مناجاة بدر !
- أجهل !
- أجل
- قل لي إذن كيف أناديه .
همس بأذني ثم اختفى بالظلام مودعا .
"يا مطر يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطر يا شاشا
عبر بنات الباشا"
ارتخت ذراعاه وتدليتا وبدتا متعبتين وازداد بريق عينية ، فبان أثر دموعه على وجنتيه واضحا. ولم اشعر بتلك اللحظة التي نزل بها بدر من منصته فبدأنا بالعناق الحار وقد وضعت رأسي على صدره وأحسست بنبضات قلبه المضطربة.
- ناديتك وأنت وسط الحشود .. وبأعلى صوتي ، لكنك لم تسمعني، فقد طغى صوت الدمار وبكاء الأطفال على صوتي وامتلأ جسدي بشظايا حارة فاقت بعذابها كي البدوي المرسومة بقاياه على ساقي، وتغير لون الماء الذي حولي، وعلمت انك تخندقت في "جيكور" وقد تعفرت جبهتك بترابها فأيقنت أنني لازلت أحيا. تذكرت حضن أمي وحب جدتي ووقار أبى الذي لم احضر جنازته وكان صوت إقبال يناديني . صرخت
- لأجلها . مرارة قاسية دهش لها أيوب لكنك لم تجزعي. سيبت وحيدا كالمسيح جر في المنفى صليبه، انزف وأنت تلعقين جراحي وتلهثين….
"إقبال يا زوجتي الحبيبة
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أبا وأما وارحمي نحيبه… "
- يا ليتني ، قال بدر، أعيش لأسفح نفسي على التراب واسمع ذلك الصوت بعتمة الليل وصحوة النهار: لقد حضر الغد ولن يبكيك ليل فقد ولى الظلام ، وتلك الأيام التي حملوك فيها بيوم مطير تجوب شوارع البصرة. هذا الذي صرخ بصوت مسموع:
- "الشمس اجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق"
ذلك الصوت الذي تحول إلى ضحكات أطفال تعودوا زيارتي كل يوم لاستعارة كتابي وكنت في سري خجلا فقد انصهر بجسدي ولن يعبث به أحد بعد اليوم لكنهم سيلهون بأذني ويقفون على ذراعي اليمنى المشوهة.
-مهلا يا بدر.. أقلت مشوهة؟
- انقل عتابي لمن صنعني ، فقد قبلت بهاتين ، وأشار لأذنيه، فهما من صنع ربي، لكنني لا احب ذراعي . قل له أن يعيد تجليد كتابي ويرقع ثيابي وأن…
-ولكن قل لي يابدر كيف هي الأمور الآن؟
-الأحبة يتحاورون قربي والشيوخ يستظلون بظلي ، فانظر لوجوه الناس والماء خلفي. ما أحلى ضحكات الأطفال..
-وهل تشكو من شيء يا بدر؟
-نعم . فأنا بحاجة لمن يزيل الغبار عني…. بحاجة إلى المطر.
- مطر
- مطر
-مطر
==========================
* علي السبتي: شاعر كويتي حمل جنازة السياب من الكويت الى البصرة حيث لم يجد بيته لأنه قد فصل سياسيا من وظيفته وطردت الحكومة عائلته من منطقة المعقل فحمل التابوت الى جامع السيف بالبصرة القديمة ليدفن بعدها في مقبرة الزبير.
كعادته ، كان منشغلا بشيء ما حولة .. هذا طفل يحدق في عينيه، و آخر يركز على أذنيه و ثالث يتعجب للحذاء الكبير الذي يلبسه. و هناك طفل تسلق صدره ماسكا بيده اليسرى الطرف السفلي لربطة العنق العريضة و بالأخرى كتابا مندسا بجيب معطفه المتهدل ، محاولا سحبه دون جدوى . تقدمت مبتسما مادا ذراعي نحوه فرمقني بنظرات حلوة بريئة.
-خذ هذا لك .
- لا.. أريد هذا .
- وما الفرق ؟ انه نفسه. اجل يا صغيري.. نفسه . نزل مسرعا وتناوله فرحا وذهب. وكنت اعلم ان بدرا لن يرفض طلبا لصديق او رجاء لغريب. رفعت رأسي فبدت عيناه محدقتين وكأنه يريد أن يقول شيئا.
- يا بدر سلاما.. يا بدر سلاما.. جئت إليك. دمي كدمك ومياه الشط التي خلفك تسري في عروقي. لوحت جبهتي الشمس وارتسمت خضرة النخيل في عيني كما ارتسمت في عينيك.. يا بدر سلاما. يا بدر سلاما. وكانت خطوات خفير السواحل الجنوبية متسارعة نحوي:
- أراك تجهل مناجاة بدر !
- أجهل !
- أجل
- قل لي إذن كيف أناديه .
همس بأذني ثم اختفى بالظلام مودعا .
"يا مطر يا حلبي
عبر بنات الجلبي
يا مطر يا شاشا
عبر بنات الباشا"
ارتخت ذراعاه وتدليتا وبدتا متعبتين وازداد بريق عينية ، فبان أثر دموعه على وجنتيه واضحا. ولم اشعر بتلك اللحظة التي نزل بها بدر من منصته فبدأنا بالعناق الحار وقد وضعت رأسي على صدره وأحسست بنبضات قلبه المضطربة.
- ناديتك وأنت وسط الحشود .. وبأعلى صوتي ، لكنك لم تسمعني، فقد طغى صوت الدمار وبكاء الأطفال على صوتي وامتلأ جسدي بشظايا حارة فاقت بعذابها كي البدوي المرسومة بقاياه على ساقي، وتغير لون الماء الذي حولي، وعلمت انك تخندقت في "جيكور" وقد تعفرت جبهتك بترابها فأيقنت أنني لازلت أحيا. تذكرت حضن أمي وحب جدتي ووقار أبى الذي لم احضر جنازته وكان صوت إقبال يناديني . صرخت
- لأجلها . مرارة قاسية دهش لها أيوب لكنك لم تجزعي. سيبت وحيدا كالمسيح جر في المنفى صليبه، انزف وأنت تلعقين جراحي وتلهثين….
"إقبال يا زوجتي الحبيبة
كوني لغيلان رضى وطيبة
كوني له أبا وأما وارحمي نحيبه… "
- يا ليتني ، قال بدر، أعيش لأسفح نفسي على التراب واسمع ذلك الصوت بعتمة الليل وصحوة النهار: لقد حضر الغد ولن يبكيك ليل فقد ولى الظلام ، وتلك الأيام التي حملوك فيها بيوم مطير تجوب شوارع البصرة. هذا الذي صرخ بصوت مسموع:
- "الشمس اجمل في بلادي من سواها والظلام
حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق"
ذلك الصوت الذي تحول إلى ضحكات أطفال تعودوا زيارتي كل يوم لاستعارة كتابي وكنت في سري خجلا فقد انصهر بجسدي ولن يعبث به أحد بعد اليوم لكنهم سيلهون بأذني ويقفون على ذراعي اليمنى المشوهة.
-مهلا يا بدر.. أقلت مشوهة؟
- انقل عتابي لمن صنعني ، فقد قبلت بهاتين ، وأشار لأذنيه، فهما من صنع ربي، لكنني لا احب ذراعي . قل له أن يعيد تجليد كتابي ويرقع ثيابي وأن…
-ولكن قل لي يابدر كيف هي الأمور الآن؟
-الأحبة يتحاورون قربي والشيوخ يستظلون بظلي ، فانظر لوجوه الناس والماء خلفي. ما أحلى ضحكات الأطفال..
-وهل تشكو من شيء يا بدر؟
-نعم . فأنا بحاجة لمن يزيل الغبار عني…. بحاجة إلى المطر.
- مطر
- مطر
-مطر
==========================
* علي السبتي: شاعر كويتي حمل جنازة السياب من الكويت الى البصرة حيث لم يجد بيته لأنه قد فصل سياسيا من وظيفته وطردت الحكومة عائلته من منطقة المعقل فحمل التابوت الى جامع السيف بالبصرة القديمة ليدفن بعدها في مقبرة الزبير.