رحلة ابن جبير.. تذكرة بالأخبار ، عن اتفاقات الأسفار

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم

أبتدأ بتقييدها يوم الجمعة الموفي ثلاثين لشوال سنة ثمان وسبعين وخمس مئة، ونحن على متن البحر بمقابلة جبل "شُلَير" عرفنا الله السلامة بمَنّه.

في الأندلس

وكان انفصال أحمد بن حسان ومحمد بن جبير من غرناطة، حرسها الله للنية الحجازية المباركة، قرنها الله بالتيسير والتسهيل وتعريف الصنع الجميل، أول ساعة من يوم الخميس الثامن لشوال المذكور وبموافقة اليوم الثالث لشهر فبرير الأعجمي. وكان الاجتياز على حيان لقضاء بعض الأسباب، ثم كان الخروج منها أول ساعة من يوم الاثنين التاسع عشر لشهر شوال المذكور وبموافقة اليوم الرابع عشر لشهر فبرير المذكور أيضاً.
وكانت مرحلتنا الأولى منها حصن القبذاق ثم منه حصن قبرة ثم منه مدينة استجة ثم منها حصن أشونة ثم منه شلير ثم منه حصن أركش ثم منه قرية تعرف بقرية القشمة من قرى مدينة ابن السليم ثم منها جزيرة طريف، وذلك يوم الاثنين السادس والعشرين من الشهر المؤرخ.
فلما كان ظهر يوم الثلاثاء من اليوم الثاني، يسر الله علينا في عبور البحر قصر مصمودة تيسيراً عجيباً، والحمد لله. ونهضنا منه لسبتة غدوة يوم الأربعاء الثامن والعشرين منه، وألقينا بها مركبا للروم الجنويين مقلعاً الإسكندرية بحول الله، عز وجل، فسهل الله علينا في الركوب فيه.
وأقلعنا ظهر يوم الخميس التاسع والعشرين منه، وبموافقة الرابع والعشرين من فبرير المذكور، بحول الله تعالى وعونه، لارب غيره. وكان طريقنا في البحر محاذياً لبر الأندلس. وفار قناه يوم الخميس السادس لذي القعدة بعده عندما حاذينا دانية. وفي صبيحة يوم الجمعة السابع من الشهر المذكور آنفاً قابلنا بر جزيرة يابسة ثم يوم السبت بعده قابلنا جزيرة منورقة. ومن سبتة إليها نحو ثمانية بحارٍ، والمجرى مئة ميل.
وفارقنا برهذه الجزيرة المذكورة، وقام معنا بر جزيرة سردانية أول ليلة الثلاثاء الحادي عشر من الشهر المذكور، وهو الثامن من مارس، دفعة واحدة على نحو ميلٍ أو أقل. وبين الجزيريتين سردانية ومنورقة نحو الأربع مئة ميل،فكان قطعاً مستغرباً في السرعة.

أهوال البحر

وطرأ علينا من مقابلة البر في الليل هول عظيم، عصم الله منه بريح أرسلها الله تعالى في الحين من تلقاء البر، فأخرجنا عنه، والحمد لله على ذلك. وقام علينا نوء هال له البحر صبيحة يوم الثلاثاء المذكور، فبقينا مترددين بسببه حول بر سردانية يوم الأربعاء بعده فأطلع الله علينا في حال الوحشة وانغلاق الجهات بالنوء فلا نميز شرقاً من غرب، مركباً للروم قصدنا أن حاذانا، فسئل عن مقصده، فأخبر أنه يريد جزيرة صقلية وأنه من قرطاجنة عمل مرسية وقد كنا استقبلنا طريقه التي جاء من غير علم، فأخذنا عند ذلك في اتباع أثره، والله الميسر لارب سواه. فخرج علينا طرف من بر سردانية المذكور، فأخذنا في الرجوع عوداً على بدء أن وصلنا طرفاً من البر المذكور يعرف بقوسمركة، وهو مرسى معروف عندهم. فأرسينا به ظهر يوم الأربعاء المذكور والمركب المذكور معنا. وبهذا الموضع المذكور أثر لبنيان قديم ذكر لنا أنه كان منزلاً لليهود فيما سلف.
ثم إنا أقلعنا منه ظهر يوم الأحد السادس عشر من الشهر المذكور، وفي مدة مقامنا بالمرسى المذكور جددنا فيه الماء والحطب والزاد. وهبط واحد من المسلمين ممن يحفظ اللسان الرومي مع جملة من الروم أقرب المواضع المعمورة منا فأعلمنا أنه رأى جملة من أسرى المسلمين نحو الثمانين بين رجال ونساء يباعون في السوق. وكان ذلك عند وصول العدو، دمره الله، بهم من سواحل البحر ببلاد المسلمين، والله يتداركهم برحمته.ووصل المرسى المذكور، يوم الجمعة الثالث من يوم أرسينا فيه، سلطان الجزيرة المذكورة، مع جملة من الخيل.فنزل إليه أشياخ المركب من الروم واجتمعوا به، وطال مقامهم عنده، ثم انصرفوا وانصرف موضع سكناه. وتركنا المركب المذكور في موضع إرسائه، بسبب مغيب بعض أصحابه في البلد، عند هبوب الريح الموافقة لنا.
وفي ليلة الثلاثاء الثامن عشر لذي القعدة المذكور والخامس عشر من شهر مارس المذكور أيضاً، وفي الربع الباقي منها، فارقنا بر سردانية المذكورة، وهو بر طويل جرينا بحذائه نحو المثتي ميل. ومنتهى دور الجزيرة، على ماذكر لنا، أزيد من خمس مئة ميل، ويسر الله علينا في التخلص من بحرها، لأنه أصعب ما في الطريق، والخروج منه يتعذر في أكثر الأحيان، والحمد لله على ذلك.
وفي ليلة الأربعاء بعدها من أولها عصفت علينا ريح هال لها البحر وجاء معها مطر ترسله الرياح بقوة، كأنه شآبيب سهام. فعظم الخطب واشتد الكرب وجاءنا الموج من كل مكان أمثال الجبال السائرة. فبقينا على تلك الحال الليل كله، واليأس قد بلغ منا مبلغه، وارتجينا مع الصباح فرجة تخفف عنا بعض ما نزل بنا، فجاء النهار، وهو يوم الأربعاء التاسع عشر من ذي القعدة، بما هو اشد هولاً وأعظم كرباً، وزاد البحر اهتياجاً واربدت الآفاق سواداً، واستشرت الريح والمطر عصوفاً، حتى لم يثبت معها شراع. فلجأ استعمال الشرع الصغار. فأخذت الريح أحدها ومزقته وكسرت الخشبة التي ترتبط الشرع فيها، وهي المعروفة عندهم بالقرية. فحينئذ تمكن اليأس من النفوس وارتفعت أيدي المسلمين بالدعاء الله عز وجل. وأقمنا على تلك الحال النهار كله. جن الليل فترت الحال بعض فتور، وسرنا في هذه الحال كلها بريح الصواري سيراً سريعاً.
وفي ذلك اليوم حاذينا بر جزيرة صقلية. وبتنا تلك الليلة، التي هي ليلة الخميس التالية لليوم المذكور، مترددين بين الرجاء واليأس. فلما أسفر الصبح نشر الله رحمته، وأقشعت السحاب وطاب الهواء وأضاءت الشمس وأخذ في السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس، والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته، ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته،حمداً يكون كفاءً لمنته ونعمته.
وفي هذا الصباح المذكور ظهر لنا بر صقلية وقد أجزنا أكثره ولم يبق منه إلا الأقل. وأجمع من حضر من رؤساء البحر من الروم وممن شاهد الأسفار والأهوال في البحر من المسلمين أنهم لم يعاينوا قط مثل هذا الهول فيما سلف من أعمارهم،والخبر عن هذه الحال يصغر في خبرها.
وبين البرين المذكورين بر سردانية وبر صقلية نحو الأربع مئة ميل.
واستصحبنا من بر صقلية أزيد من مئتي ميل، ثم ترددنا بحذائه بسبب سكون الريح. فلما كان عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور أقلعنا من الموضع الذي كنا أرسينا فيه، وفارقنا البر المذكور أول تلك الليلة. وأصبحنا يوم السبت وبيننا وبينه مسافة بعيدة، وظهر لنا إذ ذاك الجبل الذي كان فيه البركان، وهو جبل عظيم مصعد في جو السماء قد كساه الثلج. وأعلمنا أنه يظهر في البحر مع الصحو على أزيد من مسيرة مئة ميل. فأخذنا ملججين وأقرب ما نؤمله من البر إلينا جزيرة أقر يطش، وهي من جزائر الروم ونظرها صاحب القسطنطينية، وبينها وبين جزيرة صقلية مسيرة سبع مئة ميل، والله كفيل بالتيسير والتسهيل بمنه. وفي طول هذه الجزيرة، جزيرة أقر يطش المذكورة، نحو من ثلاث مئة ميل.
وفي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر المذكور، وهو الثاني والعشرون من شهر مارس، حاذينا البر المذكور تقديراً لا عياناً. وفي صبيحة اليوم المذكور فارقناه متوجهين لقصدنا. وبين هذه الجزيرة المذكورة وبين الإسكندرية ستمئة ميل أو نحوها.
وفي صبيحة يوم الأربعاء السادس والعشرين منه ظهر لنا البر الكبير المتصل بالإسكندرية المعروف ببر الغرب، وحاذينا منه موضعاً يعرف بجزائر الحمام على ما ذكر لنا، وبينه وبين الإسكندرية نحو الأربع مئة ميل على ما ذكر لنا فأخذنا في السير والبر المذكور منا يميناً.

البشرى بالسلامة

وفي صبيحة يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر المذكور أطلع الله علينا البشرى بالسلامة بظهور منار الإسكندرية على نحو العشرين ميلاً، والحمد لله على ذلك حمداً يقتضي المزيد من فضله وكريم صنعه.
وفي آخر الساعة الخامسة منه كان إرساؤنا بمرسى البلد، ونزولنا اثر ذلك، والله المستعان فيما بقي بمنه. فكانت أقامتنا على متن البحر ثلاثين يوماً، ونزلنا في الحادي والثلاثين، لأن ركوبنا إياه كان يوم الخميس التاسع والعشرين من شهر شوال، ونزولنا عنه في يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة، وبموافقة السادس والعشرين من مارس، والحمد لله على ما من به من التيسير والتسهيل، وهو سبحانه المسؤول بتتميم النعمة علينا ببلوغ الغرض من المقصود، وتعجيل الإياب الوطن على خير وعافية، انه المنعم بذلك لارب سواه. وكان نزولنا بها بفندق يعرف بفندق الصفار بمقربة من الصبانة.

شهر ذي الحجة من السنة المذكورة

أوله يوم الأحد، ثاني يوم نزولنا بالإسكندرية.
فمن أول ما شاهدنا فيها يوم نزولنا أن طلع أمناء المركب من قبل السلطان بها لتقييد جميع ما جلب فيه. فاستحضر جميع من كان فيه من المسلمين واحداً واحداً وكتبت أسماؤهم وصفاتهم وأسماء بلادهم، وسئل كل واحد عما لديه من سلع أو ناض ليؤدي زكاة ذلك كله دون أن يبحث عما حال عليه الحول من ذلك أو ما لم يحل. وكان أكثرهم متشخصين لأداء الفريضة لم يستصحبوا سوى زاد لطريقهم، فلزموا أداء زكاة ذلك دون أن يسأل احال عليه الحول أم لا واستنزل احمد بن حسان منا ليسأل عن أنياء المغرب وسلع المركب.فطيف به مرقباً على السلطان أولاً ثم على القاضي ثم على أهل الديوان ثم على جماعة من حاشية السلطان. وفي كل يستفهم ثم يقيد قوله. فخلي سبيله، وأمر المسلمون بتنزيل أسبابهم وما فضل من أزودتهم، وعلى ساحل البحر أعوان يتوكلون بهم وبحمل جيمع ما أنزلوه الديوان. فاستدعوا واحداً وأحضر ما لكل واحد من الأسباب، والديوان قد غص بالز . فوقع التفتيش لجميع الأسباب، ما دق منها وماجل، واختلط بعضها ببعض، أدخلت الأيدي أوساطهم بحثاً عما عسى أن يكون فيها. ثم استحلفوا بعد ذلك هل عندهم غير ما وجدوا لهم أم لا.
وفي أثناء ذلك ذهب كثير من أسباب الناس لاختلاط الأيدي وتكاثر الزحام، ثم أطلقوا بعد موقف من الذل والخزي عظيم، نسأل الله أن يعظم الأجر بذلك. وهذه لا محالة من الأمور الملبس فيها على السلطان الكبير المعروف بصلاح الدين، ولوعلم بذلك على ما يؤثر عنه من العدل وإيثار الرفق لأزال ذلك، وكفى الله المؤمنين تلك الخطة الشاقة واستؤدوا الزكاة على أجمل الوجوه. وما لقينا ببلاد هذا الرجل ما يلم به قبيح لبعض الذكر سوى هذه الأحدوثة التي هي من نتائج عمال الدواوين.

ذكر بعض آخبار الإسكندرية وآثاره

فأول ذلك حسن وضع البلد واتساع مبانيه، حتى إنا ما شاهدنا بلداً أوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه، وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضاً. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضاً.
وعانيا فيها ايضاً من سواري الرخام وألواحه كثرة وعلواً واتساعاً وحسناً مالا يتخيل بالوهم، حتى انك تلفي في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعوداً لا يدرى ما معناه ولا لم كان أصل وضعها. وذكر لنا أنه كان عليها في القديم مبان للفلاسفة خاصة ولأهل الرئاسة في ذلك الزمان، والله أعلم، ويشبه أن يكون ذلك للرصد.

منار الإسكندرية

ومن أعظم ما شدهاناه من عجائبها المنار الذي قد وضعه الله عز وجل على يدي من سخر لذلك آية للمتوسمين وهداية للمسافرين، لولاه ما اهتدوا في البحر إلى بر الإسكندرية، ويظهر على أزيد من سبعين ميلاً. ومبناه نهاية العتاقة والوثاقة طولاً وعرضاً، يزاحم الجو سمواً وارتفاعاً، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع.

ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفاً وخمسين باعاً ويذكر أن في طوله أزيد من مئة وخمسين قامة. وأما داخله فمرأى هائل، اتساع معارج ومداخل وكثرة مساكن، حتى أن المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضل. وبالجملة لا يحصلها القول، والله لا يخليه من دعوة الإسلام ويبقيه.

وفي أعلاه مسجد موصوف بالبركة يتبرك الناس بالصلاة فيه، وطلعنا إليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة المورخ وصلينا في المسجد المبارك المذكور. وشاهدنا من شأن مبناه عجباً لا يستوفيه وصف واصف.

مناقب الإسكندرية

ومن مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة إلى سلطانه المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا ذلك، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضاً فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة، وينهون الأطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم.

ومن اشرف هذه المقاصد أيضاً أن السلطان عين لأبناء السبيل من الغاربة خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغاً ما بلغوا، ونصب لتفريق ذلك كل يوم انساناً اميناً من قبله. ينتهي في اليوم ألفي خبزة أو أزيد بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائماً، ولهذا كله أوقاف من قبله حاشا ما عينه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا صلب ماله. وأما أهل بلده ففي نهاية من الترفيه واتساع الأحوال لا يلزمهم وظيف البتة. ولافائد للسطان بهذا البلد سوى الأوقاف المحبسة المعينة من قبله لهذه الوجوه وجزية اليهود والنصارى وما يطرأ من زكاة العين خاصة، وليس له منها سوى ثلاثة أثمانها والخمسة الأثمان مضافة للوجوه المذكورة.

وهذا السلطان الذي سن هذه السنن المحمودة ورسم هذه الرسوم الكريمة على عدمها في المدة البعيدة هو صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب، وصل الله صلاحه وتوفيقه.

ومن أعجب ما اتفق للغرباء أن بعض من يريد التقرب بالنصائح السلطان ذكر أن أكثر هؤلاء يأخذون جراية الخبز ولا حاجة لهم بها رغبة في المعيشة لأنهم لا يصلون الا يزاد يقلهم. فكاد يؤثر سعي هذا المتنصح. فلما كان في أحد الأيام خرج السلطان المذكور على سبيل التطلع خارج بلده، فتلقى منهم جماعة قد لفظتهم الصحراء المتصلة بطرابلس، وهم قد ذهبت رسومهم عطشاً وجوعاً.

فسألهم عن وجهتهم واستطلع ما لديهم. فأعلموه أنهم قاصدون بيت الله الحرام وأنهم ركبوا البر وكابدوا مشقة صحرائية. فقال: لو وصل هؤلاء وهم قد اعتسفوا هذه المجاهل التي اعتسفوها وكايدوا من الشقاء ما كايدوه وبيد كل واحد منهم زنته ذهباً وفضة لوجب أن يشاركوا ولا يقطعوا عن العادة التي أجريناها، لهم فالعجب ممن يسعى على مثل هؤلاء ويروم التقرب إلينا بالسعي في قطع ما أوجبناه لله عز وجل خالصاً لوجهه.

ومآثر هذا السلطان ومقاصده في العدل ومقاماته في الذب عن حوزة المسلمين لا تحصى كثرة.

ومن الغريب أيضاً في أحوال هذا البلد تصرف الناس فيه بالليل كتصرفهم بالنهار في جميع أحوالهم. وهو أكثر بلاد الله مساجد، والمقلل ما دون ذلك لا ينضبط. فمنهم من يقول ثمانية آلاف ومنهم من يقول غير ذلك. وبالجملة فهي كثيرة جداً تكون منها الأربعة والخمسة في موضوع وربما كانت مركبة وكلها بآثمة مرتبين من قبل السلطان، فمنهم من له الخمسة دنانير مصرية في الشهر، وهي عشرة مؤمنية، ومنهم من له فوق ذلك ومنهم من له دونه. وهذه منقبة كبيرة من مناقب السلطان. غير ذلك مما يطول ذكره من المآثر التي يضيق عنها الحصر.

ثم كان الانفصال عنها على بركة الله تعالى وحسن عونه صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور، وهو الثالث لأبريل، فكانت مرحلتنا منه موضع يعرف بدمنهور، وهو بلد مسور في بسيط من الأرض أفيح، متصل من الإسكندرية إليه مصر. والبسيط كله محرث يعمه النيل بفيضه،والقرى فيه يميناً وشمالاً لا تحصى كثرة.

ثم في اليوم الثاني وهو يوم الاثنين، أجزنا النيل بموضع يعرف بصافي مركب تعدية. واتصل سيرنا موضع يعرف ببرمة فكان مبيتنا بها، وهي قرية كبيرة فيها السوق وجميع المرافق. ثم بكرنا منها يوم الثلاثاء، وهو يوم عيد النحر من سنة ثمان وسبعين وخمس مئة المؤرخة، فشاهدنا الصلاة بموضع يعرف بطندته، وهي من القرى الفسيحة الآهلة، فأبصرنا بها مجمعاً حفيلاً، وخطب الخطيب بخطبة بليغة جامعة. واتصل سيرنا موضع يعرف بسبك وكان مبيتنا بها.

ذكر مصر والقاهرة

فأول مانبدأ بذكره منها الآثار والمشاهد المباركة التي ببركتها يمسكها الله عز وجل: فمن ذلك المشهد العظيم الشأن الذي بمدينة القاهرة حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان يقصر الوصف عنه ولايحيط الإدراك به، مجلل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار فضة خالصة ومنها مذهبة، وعلقت عليه قناديل فضة، وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسناً وجمالاً، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع مالا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون.

والمدخل إلى هذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل إليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع.

ومن أعجب ما شاهدناه في دخولنا هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك،واحد اقهم به وانكبابهم عليه وتمسحم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين باكين متوسلين الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدسة، ومتضرعين ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد. والأمر فيه أعظم، ومرأى الحال أهوال، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وإنما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدلاً على ما وراء ذلك إذا لا ينبغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز. وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعاً أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع، قدس الله العضو الكريم الذي فيه بمنه وكرمه.

وفي ليلة اليوم المذكور بتنا بالجبانة المعروفة، وهي أيضاً إحدى عجائب الدنيا لما تحتوي عليه من مشاهد الأنبياء صلوات الله عليهم، وأهل البيت رضوان الله عليهم، والصحابة والتابعين والعلماء والزهاد والأولياء ذوي الكرامات الشهيرة والأنباء الغريبة. وإنما ذكرنا منها ما أمكنتنا مشاهدته فمنها قبر ابن النبي صالح، وقبر روبيل بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليهم أجمعين، وقبر آسية امرأة فرعون رضي الله عنها، ومشاهد أهل البيت رضي الله عنهم أجمعين، مشاهد أربعة عشر من الرجال،وخمس من النساء. وعلى كل واحد منها بناء حفل. فهي بأسرها روضات بديعة الإتقان عجيبة البنيان، قد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها. ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر.

شهر رمضان المعظم

استهل هلاله ليلة الاثنين التاسع عشر لدجنبر، عرفنا الله فضله وحقه ورزقنا القبول فيه. وكان صيام أهل مكة له يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه ليلة الأحد المذكور لموافقته مذهبة ومذهب شيعته العلويين ومن اليهم، لانهم يرون صيام يوم الشك فرضاً، حسبما يذكر، والله أعلم بذلك.

ووقع الاحتفال في المسجد الحرام الهذا الشهر المبارك، وحق ذلك من تجديد الحصر وتكثير الشمع والمشاعيل وغير ذلك من الآلات حتى تلألأ الحرم نوراً وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقاً؛ فالشافعية فوق كل فرقة منها قد نصبت إماماً لها في ناحية من نواحي المسجد؛ والحنبلية كذلك؛ والحنفية كذلك، والزيدية، وأما المالكية فأجتمعت على ثلاثة قراء يتناوبون القراءة، وهي في هذا العالم أحفل جمعاً وأكثر شمعاً، لأن قوماً من التجار المالكيين تنافسوا في ذلك فجلبوا لإمام الكعبة شمعاً كثيراً من أكبره شمعتان نصبتا أمام المحراب فيها قنطار وقد حفت بهما شمع دونهما صغار وكبار. فجاءت جهة المالكية تروق حسنا وترتمي الأبصار نوراً، وكاد لايبقى في المسجد زاوية ولا ناحية الا وفيها قارئ يصلي بجماعة خلفه، فيرتج السمجد لأصوات القراءة من كل ناحية، فتعاين الأبصار، وتشاهد الأسماع من ذلك مرأى ومستمعاً تنخلع له النفوس خشية ورقة. ومن الغرباء من اقتصر على الطواف والصلاة في الحجر ولم يحضر التراويح، ورأى أن ذلك أفضل ما يغتنم، وأشرف عمل يلتزم، وما بكل مكان يوجد الركن الكريم والملتزم.

والشافعي في التراويح أكثر الأئمة اجتهاداً، وذلك أنه يكمل التراويح المعتادة التي هي عشر تسليمات ويدخل الطواف مع جماعة، فاذا فرغ من الأسبوع وركع عاد لإقامة تراويح أخر وضرب بالفرقعة الخطيبية المتقدمة الذكر ضربة يسمعها المسجد لعلو صوتها، كأنها ايذان بالعود الصلاة، فاذا فرغوا من تسليمتين، عادوا للطواف اسبوع، فاذا كملوه ضربت الفرقعة وعادوا الصلاة تسليمتين، ثم عادوا للطواف، هكذا أن يفرغوا من عر تسليمات، فيكمل لهم عشرون ركعة، ثم يصلون الشفع والوتر وينصرفون.

وسائر الأئمة لا يزيدون على العادة شيئاً، والمتناوبون لهذه التراويح المقامية خمسة أئمة، أو لهم إمام الفريضة، وأوسطم صاحبنا الفقيه الزاهد الورع أبو جعفر بن علي الفنكي القرطبي، وقراءته ترق الجمادات خشوعاً. وهذه الفرقعة المذكورة تستعمل في هذا الشهر المبارك، وذلك أنه يضرب بها ثلاث ضربات عند الفراغ من أذان المفرب، ومثلها عند الفراغ من أذان العشاء الآخرة. وهي لامحالة من جميلة البدع المحدثة في هذا المسجد المعظم، قدسه الله.

والمؤذن الزمزمي يتولى التسحير في الصومعة التي في الركن الشرقي من السمجد بسبب قربها من دار الأمير، فيقوم في وقت السحور فيها داعياً ومذكراً ومحرضاً على السحور ومعه أخوان صغران يجاوبانه ويقاولانه، وقد نصبت في أعلى الصومعة خشبة طويلة في رأسها عود كالذراع وفي طرفيه بكرتان صغيرتان يرفع عليهما قنديلان من الزجاج كبيران لا يزالان يقدان مدة التسحير. فإذا قرب تبين خيطي الفجر ووقع الإيذان بالقطع مرة بعد مرة حط المؤذن المذكور القنديلين من أعلى الخشبة وبدأ بالإذان، وثوب المؤذنون من كل ناحية بالأذان. وفي ديار مكة كلها سطوح مرتفعة، فمن لم يسمع نداء التسحير ممن يبعد مسكنه من المسجد يبصر القنديلين يقدان في أعلى الصومعة، فإذا لم يبصرهما علم أن الوق قد انقطع.

[HEADING=1]الأمير طغتكين[/HEADING]

وفي ليلة الثلاثاء من الشهر مع العشي طاف الأمير مكثر بالبيت مودعاً وخرج للقاء الأمير سيف الاسلام طغتكين بن أيوب أخي صلاح الدين، وقد تقدم الخبر بوروده من مصر منذ مدة ثم تواتر أن صح وصوله الينبوع، وأنه عرج المدينة لزيارة الرسول،ﷺ الله عليه وسلم وتقدمت أثقاله الصفراء. والمتحدث به في وجهته قصد اليمن لاختلاف وقع فيها وفتنة حدثت من أمرائها، لكن وقع في نفوس المكيين منه إيجاس خيفة واستشعار خشية، فخرج هذا الأمير المذكور متلقياً ومسلماً، وفي الحقيقة مستسلماً، والله تع عرف المسلمين خيراً.

وفي ضحوة يوم الأربعاء الثالث من الشهر المبارك المذكور كنا جلوساً بالحجر لمكرم فسمعنا دبادب الأمير مكثر وأصوات نساء مكة يولولن عليه. فبينا نحن كذلك دخل منصرفاً من لقاء الأمير سيف الاسلام المذكور وطائفاً بالبيت المركم طواف التسليم، والناس قد أظهروا الاستبشار لقدومه، والسرور بسلامته، وقد شاع الخبر بنزول سيف الاسلام الزاهر، وضرب أبنيته فيه، ومقدمته من العسكر قد وصلت الحرم، وزاحمت الأمير مكثراً في الطواف.

فبينا الناس ينظرون اليهم اذا سمعوا ضوضاء عظيمة وزعقات هائلة، فما راعهم الا الأمير سيف الاسلام داخلاً من باب بني شيبة ولمعان السيوف أمامه يكاد يحول بين الأبصار وبينه، والقاضي عن يمينه وزعيم الشيبيين عن يساره، والمسجد قد ارتج وغص بالنظارة والوافدين، والأصوات بالدعاء له ولاخيه صلاح الدين قد علت من الناس حتى صكت الاسماع وأذهلت الاذهان؛ والزمزمي المؤذن في مرقبته رافعاً عقيرته بالدعاء له والثناء عليه؛ وأصوات الناس تعلو على صوته، والهول قد عظم مرأى ومستمعاً. فلحين دنو الأمير من البيت المعظم أغمدت السيوف وتضاءلت النفوس وخلعت ملابس العزة وذلت الأعناق وخضعت الرقاب وطائت الالباب مهابة وتعظيماً لبيت ملك الملوك العزيز الجبار الواحد القهار، مؤتي الملك من يشاء، ونازع الملك ممن يشاء، سبحانه، جلت قدرته وعز سلطانه.

ثم نهافتت هذه العصابة الغزية على بيت الله العتيق تهافت الفراش على المصباح، وقد نكس أذقانهم الخضوع، وبلت سبالهم الدموع. وطاف القاضي أو زعيم الشيبيين بسيف الاسلام، والأمير مكثر قد غمره ذلك الزحام، فأسرع في الفراغ من الطواف وبادر منزله.

وعندما أكمل سيف الاسلام طوافه ﷺ خلف المقام ثم دخل قبة زمزم فشرب من مائها ثم خرج على باب الصفا السعي، فابتدأه ماشياً على مدميه توضعاً وتذللاً لمن يجب التواضع له، والسيوف مسلوتة أمامه، وقد اصطف الناس من أول المسعى آخره سماطين مثل ماصنعوا أيضاً في الطواف، فسعى على قدميه طريقين من الصفا المروة، ومنها الصفا، وهرول بين الميلين الاخضرين، ثم قيده الاعياء فركب وأكمل السعي راكباً، وقد حشر الناس ضحى.

ثم عاد الامير السمجد الحرام على حالته من الارهاب والهيبة وهو يتهادى بين بروق خواطف السيوف المصلتة، وقد بادر الشيبيون باب البيت المكرم ليفتحوه، ولم يكن يوم فتحه، وضم الكرسي الذي يصعد عليه، فرقي الامير فيه، وتناول زعيم الشيبيين فتح الباب، فاذا المفتاح قد سقط من كمه في ذلك الزحام، فوقف وفقة دهش مذعور، ووقف الامير على الادراج، فيسر الله للحين في وجود المفتاح، ففتح الباب الكريم، ودخل الامير وحده مع الشيبي وأغلق الباب، وبقي وجوه الاغزاز وأعيانهم مزدحمين على ذلك الكرسي، فبعد لأي مافتح لامرائهم المقربين فدخلوا.

وتمادى مقام سيف الاسلام في البيت الكريم مدة طويلة، ثم خرج، وانفتح الباب للكافة منهم. فيا له من ازدحام وتراكم وانتظام، حتى صاروا كالعقد المستطيل وقد اتصلوا وتسللوا. فكان يومهم أشبه شيء بأيام السرو في دخولهم البيت، حسبما تقدم وصفه. وركب الامير سيف الاسلام وخرج مضرب أبنتيه بالموضع المذكور. وكان هذا اليوم بمكة من الايام الهائلة المنظر العجيبة المشهد الغريبة الشأن، فسبحان من لاينقضي ملكه ولا يبيد سلطانه، لا اله سواه. وصحب هذا الامير جملة من حجاج مصر وسواها اغتناماً لطريق البر والامن فوصلوا في عافية وسلامة، والحمد لله.

وفي ضحوة يوم الخميس بعده كنا أيضاً بالحجر المكرم، فاذا بأصوات طبول ودبادب وبوقات قد قرعت الآذان وارتجت لها نواحي الحرم الشريف. فبينا نحن نتطلع لاستعلام خبرها طلع علينا الامير مكثر وغاشيته الاقربون حوله وهو رافل في حلة ذهب كأنها الجمر المتقد يسحب أذيالها وعلى رأسه عمامة شرب رقيق سحابي اللون قد علا كورها على رأسه كأنها سحبابة مركومة وهي مصفحة بالذهب، وتحت الحلة خلعتان من الدبيقي المرسوم البديع الصنعة، خلعها عليه الامير سيف الاسلام، فوصل بها فرحاً جذلان، والطبول والدبادب تشيعه عن أمر سيف الاسلام اشادة بتكرمته واعلاماً بمأثرة منزلته. فطاف بالبيت المكرم شكراً لله على ماوهبه من كرامة هذا الامير بعد أن كان أوجس في نفسه خيفة منه، والله يصلحه ويوفقه بمنه.

وفي يوم الجمعة وصل الامير سيف الاسلام للصلاة أول الوقت وفتح البيت المكرم، فدخله مع الامير مكثر وأقاما به مدة طويلة ثم خرجا. وتزاحم الغز للدخول تزاحماً أبهت الناظرين حتى أزيل الكرسي الذي يصعد عليه فلم يغن ذلك شيئاً، وأقاموا على الازدحام في الصعود باشالة بعضهم على بعض، وداموا على هذه الحالة أن وصل الخطيب، فخرجوا لاستماع الخطبة، وأغلق الباب. وﷺ الأمير سيف الاسلام مع الأمير مكثر في القبة العباسية. فلما انقضت الصلاة خرج على باب الصفا وركب مضرب أبنيته. وفي يوم الأربعاء العاشر منه خرج الأمير المذكور بجنوده اليمن، والله يعرف أهلها من المسلمين في مقدمة خيراً بمنه.


[HEADING=1]احتفالات رمضان[/HEADING]

وهذا الشهر المبارك قد ذكرنا اجتهاد المجاورين للحرم الشريف في قيامه وصلاة تراويحه وكثرة الأئمة فيه، وكل وتر من الليالي العشر الاواخر يختم فيها القرآن. فأولها ليلة احدى وعشرين، ختم فيها أحد أبناء أهل مكة، وحضر الختمة القاضي وجماعة من الأشياخ. فلما فرغوا منها قام الصبي فيهم خطيباً، ثم استدعاهم أبو الصبي المذكور منزله طعام وحلوى قد أعدهما واحتفل فيهما.

ثم بعد ذلك ليلة ثلاث وعشرين، وكان المختتم فيها أحد أبناء المكيين ذوي اليسار، غلاماً لم يبلغ سنه الخمس عشرة سنة، فاحتفل أبوه لهذه الليلة احتفالاً بديعاً. وذلك أنه أعد له ثريا مصنوعة من الشمع مغصنة، قد انتظمت أنواع الفواكه الرطبة واليابسة، وأعد لها شمعاً كثيراً، ووضع في وسط الحرم ممايلي باب بني شيبة شبيه المحراب المربع من أعواد مشرجبة، قد أقيم على قوائم أربع، وربطت في أعلاه عيدان نزلت منها قناديل وأسرجت في أعلاها مصابيح ومشاعيل وسمر دائر المحراب كله بمسامير حديدة الأطراف غرز فيها الشمع، فاستدار بالمحراب كله. وأوقدت الثريا المغصنة ذات الفواكه، وأمعن الاحتفال في هذا كله. ووضع بمقربة من المحراب منبر مجلل بكسوة مجزعة مختلفة الألوان. وحضر الإمام الطفل فﷺ التراويح وختم، وقد انحشد أهل المسجد الحرام اليه رجالاً ونساءً، وهو في محرابه لايكاد يبصر من كثرة شعاع الشمع المحدق به.العينين، مخضوب الكفين الزندين، فلم يستطع الخلوص منبره من كثرة الزحام، فأخذخ أحد سدنة تلك الناحي ة في ذراعه حتى القاه على ذروة منبره، فاستوى مبتسماً وأشار على الحاضرين مسلماً. وقعد بين يديه قراء، فابتدروا القراءة على لسان واحد. فلما أكملوا عشراً من القرآن، قام الخطيب فصدع بخطبة تحرك لها أكثر النفوس من جهة الترجيع لا من جهة التذكير والتخشيع، وبين يديه في درجات المنبر نفر يمسكون أتوار الشمع في ايديهم ويرفعون أصواتهم بيا رب، عند كل فصل من فصول الخطبة يكررون ذلك، والقراء يبتدرون القراءة في أثناء ذلك، فيسكت الخطيب أن يفرغوا ثم يعود لخطبة. وتمادي فيها متصرفاً في فنون من التذكير. وفي أثنائها اعترضه ذكر البيت العتيق، كرمه الله، فحسر عن ذراعيه مشيراً اليه، وأردفه بذكر زمزم والمقام فأشار اليهما بكلتا اصبعيه ثم ختمها بتوديع الشهر المبارك وترديد السلام عليه، ثم دعا للخليفة ولكل من جرت العادة بالدعاء له من الأمراء، ثم نزل، وانفض ذلك الجمع العظيم، وقد استظرف ذلك الخطيب واستنبل وان لم تبلغ الموعظة من النفوس ما أمل، والتذكرة اذا خرجت من اللسان لم تتعد مسافة الآذان.

ثم ذكر أن المعينين من ذلك الجمع، كالقاضي وسواه، خصوا بطعام حفيل وحلوى على عادتهم في مثل هذا المجتمع. وكانت لأبي الخطيب في تلك الليلة نفقة واسعة في جميع ماذكر.

ثم كانت ليلة خمس وعشرين، فكان المختتم فيها الإمام الحنفي، وقد أعد أبناً لذلك سنة نحو من سن الخطيب الأول المذكور. فكان احتفال الإمام الحنفي لابنه في هذه الليلة عظيماً، أحضر فيها من ثريات الشمع أربعاً مختلفات الصنعة:منها مشجرة مغصنة مثمرة بأنواع الفواكه الرطبة واليابسة، ومنها غير مغصنة. فصففت أمام حطيمه وتوج الحطيم بخشب وألواح وضعت أعلاه وجلل كله سرجاً ومشاعيل وشمعاً، فاستنار الحطيم كله حتى لاح في الهواء كالتاج العظيم من النور. وأحضر الشمع في أتوار الصفر، ووضع المحراب العودي المشرجب، فجلل دائره الاعلى كله شمعاً، وأحدق الشمع في الأتوار به، فاكتنفته هالات من نور، ونصب المنبر قبالته مجللاً أيضاً بالكسوة الملونة. واحتفل الناس لمشاهدة هذا المنظر النير أعظم من الاحتفال الاول. فختم الصبي المذكور ثم برز من محرابه منبره يسحب أذيال الحفر في أثواب رائقة المنظر، فتسور منبره وأشار بالسلام على الحاضرين وأبتدأ خطبته بسكينة ولين ولسان على حالة الحياء مبين. فكأن الحال على طفولتها كانت أو قر من الاولى وأخشع، والموعظة أبلغ، والتذكرة أنفع.

وحضر القراء بين يديه على الرسم الاول وفي أثناء فصول الخطبة يبتدرون القراءة فيسكت خلال اكمالهم الآية التي انتزعوها من القرآن ثم يعود خطبته وبين يديه في درجات المنبر طائفة من الخدمة يمسكون اتوار الشمع بأيديهم ومنهم من يمسك المجمرة تسطع بعرف العود الرطب الموضوع فيها مرة بعد أخرى. فعندما يصل فصل من تذكير أو تخشيع يرفعون أصواتهم بيا رب يارب يكررونها ثلاثاً أو أربعاً، وربما جارهم في النطق بعض الحاضرين، أن فرغ من خطبة ونزل. وجرى الامام اثره على الرسم من الاطعام لمن حضر من أعيان المكان أما باستدعائهم منزله تلك الليلة أو بتوجيه ذلك منازلهم.

ثم كانت ليلة سبع وعشرين، وهي ليلة الجمعة بحساب يوم الاحد، فكانت الليلة الغراء، والختمة الزهراء، والهيبة والموفورة الكهلاء، والحالة التي تمكن عند الله تع في القبول والرجاء. وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم وتجاه البيت العظيم? وأنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم.

ووقع النظر والاحتفال لهذه الليلة المباركة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة، وأقيمت أزاء حطيم إمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة، فاتصل منها صف كاديمسك نصف الحرم عرضاً ووصلت بالحطيم المذكور، ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة، وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات، فكانت الطبقة العليا منها خشباً مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الأطراف لاصقاً بعضها ببعض كظهر الشيهم نصب عليها الشمع، والطبقتان تحتها الواح مثقوبة ثقباً متصلاً وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها.

وتدلت من جوانب هذه الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغار وتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها نقباً ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصغيرة لايزيد منها أنبوب على أنبوب في القد. وأوقدت فيها المصابيح، فجاءت كأنها موائد ذوات أرجل كثيرة وتشتمل نوراً، ووصلت بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الصفة المذكورة اتصلت الركن المذكور، وأوقد المشعل الذي في رأس فحل القبة المذكورة، وصففت طرة شباكها شمعاً مما يقابل البيت المككرم. وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجبة المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف، على الصفة المذكورة، جللت كلها شمعاً. ونصب عن يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم، في أتوار تناسبهاكبراً، وصفت تلك الأتوار على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد، وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعاً في اتوار من الصفر فجاءت كأنها دائرة نور ساطع، واحدقت بالحرم المشاعيل. وأوقد جميع ماذكر.

وأحدق بشرفات الحرم كلها صبيان مكة، وقد وضعت بيد كل منهم كرة من الخرق المشبعة سليطاً، فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات. وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربعة فجعلت كل طائفة تباري صاحبتها في سرعة ايقادها. فيخيل للناظر أن النار تشب من شرفة شرفة لخفاء أشخاصهم وراء الضوء المرتمي الأبصار. وفي اثناء محاولتهم لذلك يرفعون أصواتهم بيا رب على لسان واحد، فيرتج الحرم لأصواتهم. فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يعشي الأبصار شعاع تلك الأنوار، فر تقع لمحة طرف الاعلى نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر. فيتوهم المتوهم، لهول مايعاينه من ذلك، أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.

وتقدم القاضي فﷺ فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة اليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح، تعظيماً لختمة المقام، وحضروا متبركين بمشاهدتها.

وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق، حسبما تقدم الذكر أولاً له، فيما سلف من هذا التقيد، ووضع في محله الكريم المتخذ مﷺ مستوراً بقبته التي يصلي الناس خلفها. فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق. فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام.

فما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعاً، وأعينهم قد سالت دموعاً، والأنفس قد أشعرت من فضل القدر المشرف ذكرها في التنزيل، والله، عز وجل، لايخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها، انه كريم منان، لا اله سواه.

ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولاًن بعد هذه الليلة المذكورة،بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير، بحسب اختيار كل واحد منهم. ورسم طوافهم اثر كل تسليمتين باق على حاله، والله ولي القبول من الجميع.

ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة، والمشار اليه منهم المالكي، فتقدم باعداد اعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض بدون القامة يعترض على كل اثنين منها عود مبسوط، فأدير بالشمع أعلاها وأحدق اسفلها ببقايا شمع كثير قد تقدم ذكره عند أول الشهر المبارك واحدق أيضاً داخل تلك الدائرة شمع آخر متوسط، فكان مغظراً مختصراً ومشهداً عن احتفال المباهاة منزهاً موقراً، رغبة في احتفال الأجر والثواب ومناسبة لموضع هيئة المحراب، نصبت للشمع فيه عوضاً من الأتوار أنافي من الأحجار. فجاءت الحال غريبة في الاختصار، خارجة عن محفل التعاظم والاستكبار، داخله مدخل التواضع والاستصغار.

واحتفل جميع المالكية للختمة، فتناوبها أئمة التراويح، فقضوا صلاتهم سراعاً عجالاً، كاد يلتقي طرفاها خفوقاً واستعجالاً. ثم تقدم احدهم فعقد حبوته بين تلك الاثافي وصدع بخطبة منتزعة من خطبة الصبي ابن الإمام الحنفي فأرسلها معادة الاسماع نقيلاً لحنها على الطباع، ثم انفض الجمع، وقد جعد في شؤونه الدمع، واختطف للحين من أثافيه ذلك الشمع، أطلقت عليه أيدي الانتهاب، ولم يكن في الجماعة من يستحى منه أويهاب. وعند الله تع في ذلك الجزاء والثواب، انه سبحانه الكريم الوهاب.

وانتهت ليالي الشهر ذاهبة عنا بسلام، جعلنا الله ممن طهر فيها من الآثام، ولا أخلانا من فضل القبول ببركة صومه في جوار الكعبة البيت الحرام، وختم الله لنا ولجميع أهل الملة الحنفية بالوفاة على الإسلام، وأوزعنا حمداً يحق هذه النعمة وشكراً، وجعلها للمعاد لنا ذخراً، ووفانا عليها ثواباً من لديه وأجراً يرجى بفضله وكرمه، أنه لايضيع لديه ايام اتخذ لصيامها ماء زمزم فطراً، إنه الحنان المنان، لارب سواه.

شهر شوال


استهل هلاله ليلة الثلاثاء السادس عشر من ينير، يمن الله مطلعه، ورزقنا بركته، وهذا الشهر المبارك هو فاتحة أشهر الحج المعلومات، وبعده تتصل ثلاثة الأشهر الحرم المباركات. وكانت ليلة استهلال هلاله من الليالي الحفيلة في المسجد الحرام، زاده الله تكريماً؛ جرى الرسم المذكور ليلة سبع وعشرين من رمضان المعظم، وأوقدت الصوامع من الأربع جهات من الحرم، وأوقد سطح المسجد الذي في أعلى جبل أبي قبيس.وأكثر الأئمة تلك الليلة أحيا، وأكثر الناس على مثل تلك الحال بين طواف وصلاة وتهليل وتكبير، يقبل الله من جميعهم، أنه سميع الدعاء كفيل بالرجاء سبحانه لا اله سواه.

[HEADING=1]عيد رمضان[/HEADING]

فلما كان صبيحتها وقضى الناس صلاة الفجر، لبس الناس أثواب عيدهم وبادروا لأخذ مصافهم لصلاة العيد بالمسجد الحرام، لأن السنة جرت بالصلاة فيه دون مﷺ يخرج الناس اليه، رغبة في شرف البقعة وفضل بركتها وفضل صلاة الامام خلف المقام ومن يأتم به. فأول من بكر الشيبيون، وفحوا باب الكعبة المقدسة، وأقام زعيمهم جالساً في العتبة المقدسة، وسائر الشيبيين داخل الكعبة أن أحسوا بوصول الأمير مكثر فنزلوا اليه، وتلقوه بمقربة من باب النبي، ﷺ الله عليه وسلم، فانتهى البيت المكرم، وطاف حوله أسبوعاً، والناس قد احتفلوا لعيدهم، والحرم قد غص بهم، والمؤذن الزمزمي فوق سطح القبة على العادة رافعاً صوته بالثناء عليه والدعاء له متناوباً في ذلك مع اخيه. فلما اكمل الأمير الاسبوع عمد مصطبة قبة زمزم، مما يقابل الركن الأسود، فعقد بها، وبنوه هن يمينه ويساره، ووزيره وحاشيته وقوف على رأسه وعاد الشيبيون لمكانهم من البيت المكرم يلحظهم الناس بأبصار خاشعة للبيت غابطة لمحلهم منه ومكانهم من حجابته وسدانته، فسبحان من خصهم بالشرف في خدمته. وحضر الأمير من خاصته شعراء أربعة، فأنشدوه واحداً اثر واحد أن فرغوا من انشادهم.

وفي اثناء ذلك تمكن وقت الصلاة، وكان ضحى من النهار، فأقبل القاضي الخطيب يتهادى بين رايتيه السوداوين، والفرقعة المتقدمة ذكرها أمامه، وقد صك الحرم صوتها، وهو لابس ثياب سواده، فجاء المقام الكريم، وقام الناس للصلاة، فلما قضوها رقي المنبر، وقد ألصق موضعه المعين له كل جمعة، من جدار الكعبة المكرمة، حيث الباب الكريم شارعاً، فخطب خطبة بليغة، والمؤذنون قعود دونه في أدراج المنبر، فعند افتتاحه فصول الخطبة بالتكبير يكبرون بتكبيره، أن فرغ من خطبته.

وأقبل الناس بعضهم على بعض بالمصافحة والتسليم والتغافر والدعاء مسرورين جذلين فرحين بما آتاهم الله من فضله، وبادروا البيت الكريم فدخلوا بسلام آمنين مزدحمين عليه فوجاً. فكان مشهداً عظيماً وجمعاً بفضل الله تعلى مرحوماً، جعله الله ذخيرة للمعاد، كما جعل ذلك العيد الشريف في العمر أفضل الأعياد، بمنه وكرمه، إنه ولي ذلك والقدر عليه. وأخذ الناس عند انتشارهم من مصلاهم وقضاء سنة السلام بعضهم على بعض في زيارة الجبانة بالمعلى تبركاً باحتساب الخطا اليها، والدعاء بالرحمة لمن فيها من عباد الله الصالحين من الصدر الأول وسواه، رضي الله عن جميعهم، وحشرنا في زمرتهم، ونفعنا بمحبتهم فالمرء، كما قال، ﷺ الله عليه وسلم مع من أحب.

[HEADING=1]منى[/HEADING]

وفي يوم السبت التاسع عشر منه، والثالث لفبرير، صعدنا منى لمشاهدة المناسك المعظمة بها ولمعاينة منزل اكتري لنا فيها اعداداً لمقام بها أيام التشريق، إن شاء الله، فألفيناها تملأ النفوس بهجة وانشراحاً، مدينة عظيمة الآثار، واسعة الاختطاط، عتيقة الوضع، قد درست منازل يسيرة متخذة للنزول تحف بجانبي طريق كأنه ميدان انبساطاً وانفساحاً، ممتد الطول.

فأول مايلقى المتوجه اليها عن يساره، وبمقربة منها، مسجد البيعة المباركة، التي كانت أول بيعو في الاسلام، عقدها العباس، رضي الله عنه، للنبي، ﷺ الله عليه وسلم، على الانصار، حسب المشهر من ذلك.

ثم يفضى منه جمرة العقبة، وهي أول منى للمتوجه من مكة وعن يسار المار اليها، وهي على قارعة الطريق مرتفعة للمتراكم فيها من حصى الجمرات. ولولا آيات الله البينات فيها لكانت كالجبال الرواسي لما يجتمع فيها على تعافب الدهور وتوالي الازمنة، لكن الله، عز وجل، فيها سر كريم من اسراره الخفيات، لا اله سواه. وعليها مسجد مبارك، وبها علم منصوب شبه أعلام الحرم التي ذكرناها، فيجعلها الرامي عن يمينه مستقبلاً مكة، شرفها الله، ويرمي بهاسبع حصيات، وذلك يوم النحر اثر طلوع الشمس، ثم ينحر أويذبح ويحلق، والمحلق حولها، والمنحر في كل موضع من منى لأن منى كلها منحر، كما قال، ﷺ الله عليه وسلم. وقد حل له كل شيء الا النساء والطيب حتى يطوف طواف الافاضة. وبعد هذه الجمرة العقبية موضع الجمرة الوسطى،ولها أيضاً علم منصوب، وبينهما قدر الغلوة، ثم بعدها يلقى الجمرة الأولى ومسافتها منها كمسافة الأخرى.

وفي وقت الزوال من ثاني يوم النحر ترمى في الأولى سبع حصيات، وفي الوسطى كذلك، وفي العقبة كذلك، فتلك احدى وعشرون حصاة. وفي اليوم الثالث من يوم النحر، في الوقت بعينه، كذلك على الترتيب المذكور، فتلك اثنتان واربعون حصاة في اليومين وسبع رميت في العقبة يوم النحر وقت طلوع الشمس، كما ذكرناه، وهي المحلات للحاج ماحرم عليه سوى النساء والطيب، فتلك تكملة تسع وأربعين جمرة.وفي إثر ذلك ينفصل الحاج مكة من ذلك اليوم. واختصر في هذا الزمان إحدى وعشرون كانت ترمى في اليوم الرابع على الترتيب المذكور، وذلك لاستعجال الحاج خوفاً من العرب الشعبيين غير ذلك من محذورات الفتن المغيرات لآثار السنن، فمضى العمل اليوم على تسع وأربعين حصاة، وكانت في القديم سبعين، والله يهب القبول لعباده.

والصادر من عرفات منى أول مايلقى الجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة. وفي يوم النحر تكون جمرة العقبة أولى منفردة بسبع حصيات، حسبما تقدم ذكره، ولا يشترك معها سواها في ذلك اليوم، ثم في اليومين بعده ترجع الآخرة على الترتيب حسبما وصفناه، بحول الله عز وجل.

وبعد الجمرة الأولى يعرج عن الطريق يسيراً ويلقى منحر الذبيح، ﷺ الله عليه وسلم.حيث فدي بالذبح العظيم. وعلى الموضع المبارك مسجد مبني، وهو بمقربة من سفح ثبير. وفي موضع المنحر المذكور حجر قد الصق بالجدار المبني فيه أثر قدم صغيرة، يقال: إنه أثر قدم الذبيح، ﷺ الله عليه وسلم، عند تحركه،فلان الحجر له بقدرة الله، عز وجل، إشفاقاً وحناناً فيتبرك الناس بلمسه وتقبيله.

ويفضى من ذلك مسجد الخيف المبارك، وهو آخر منى في توجهك، أعني من المعمورة منها بالبنيان. وأما الآثار القديمة فآخذة أبعد غاية أمام المسجد. وهذا المسجد المبارك متسع الساحة كأكبر ما يكون من الجوامع.والصومعة وسط رحبة المسجد. وله في القبلة أربعة بلاطات يشملها سقف واحد. وهو من المساجد الشهيرة بركة وشرف بقعة. وكفى بما ورد في الأثر الكريم من أن بقعته الطاهرة مذفن كثير من الأنبياء، صلوات الله عليهم.

وبمقربة منه عن يمين المار في الطرق، حجر كبير مسند صفح الجبل مرتفع عن الأرض يظل ماتحته، ذكر أن النبي، ﷺ الله عليه وسلم، قعد تحته مستظلاً ومس رأسه المكرم فيه فلان له حتى أثر فيه تأثيراً بقدر دور الرأس. فيبادر الناس لوضع رؤوس في ذلك الموضع تبركاً واستجارة لها بموضع مسه الرأس المكرم أن لاتمسها النار بقدرة الله، عز وجل.

فلما قضى معاينة هذه المشاهد الريمة أخذنا في الانصراف مستبشرين بما وهبنا الله من فضله في مباشرتها. ووصلنا مكة قريب الظهر، والحمد لله على مامن به.

وفي يوم الأحد بعده، وهو الموفي عشرين لشوال، صعدنا الجبل المقدس حراء وتبركنا بمشاهدة الغار في أعلاه الذي كان النبي، ﷺ الله عليه وسلم، يتعبد فيه، وهو أول موضع نزل فيه الوحي عليه، ﷺ الله عليه وسلم، ورزقنا شفاعته، وحشرنا في زمرته، وأماتنا على سنته ومحبته، بمنه وكرمه، لا رب سواه.

[HEADING=1]صلاة الاستسقاء[/HEADING]

وفي ضحوة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين منه، وهو السادس من فبرير، اجتمع الناس كافة للاستسقاء تجاه الكعبة المعظمة بعد أن ندبهم القاضي ذلك وحرضهم على صيام ثلاثة أيام قبله. فاجتمعوا في هذا اليوم الرابع المذكور وقد أخلصوا النيات لله عز وجل، وبكر السيبيون ففتحوا الباب المكرم من البيت مقابم الخليل ابراهيم، ﷺ الله عليه وسلم، وعلى نبينا، ووضع على عتبة باب البيت المكرم، واخرج مصحف عثمان، رضي الله عنه، من خزانته، ونشر بازاء المقام المطهر، فكانت دفته الواحدة عليه والثانية على الباب الكريم. ثم نودي في الناس بالصلاة جامعة، فﷺ القاضي بهم خلف موضع المقام المتخذ مﷺ ركعتين، قرأ في إحداهما بسبح اسم ربك الأعلى، وفي الثانية بالغاشية، ثم صعد المنبر، وقد الصق موضعه المعهود من جدار الكعبة المقدسة، فخطب خطبة بليغة و فيها الاستغفار ووعظ الناس وذكرهم وخشعهم وحضهم على التوبة والإنابة لله عز وجل، حتى نزفت دمعها العيون رداءه، وحول الناس أرديتهم اتباعاً للسنة.

ثم انفض الجميع راجين رحمة الله عز وجل غير قانين منها، والله يتلافى عباده بلطفه وكرمه. وتمادى استسقاؤه بالناس ثلاثة أيام متوالية، على الصفة المذكورة، وقد نال الجهد من أهل الحجاز وأضر بهم القحط وأهلك مواشهيم الجدب، لم يمطروا في الربيع ولا الخريف ولا الشتاء إلا مطراً طلا غير كاف ولا شاف، والله عز وجل لطيف بعباده، غير مؤاخذهم بجرائمهم، إنه الحنان المنان، لارب سواه.

[HEADING=1]جبل ثور[/HEADING]

وفي يوم الخميس الرابع والعشرين من شوال صعدنا جبل ثور لمعاينة الغار المبارك الذي أولى اليه النبي، ﷺ الله عليه وسلم، مع صاحبه الصديق، رضي الله عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته عنه، حسبما جاء في محكم التنزيل العزيز، وقد تقدم ذكر هذا الغار وصفته أولاً في هذا التقييد. وولجناه من الموضع الذي يعسر الولوج منه على البعض من الناس تبركاً بمس بشرة البدن بموضع مسه الجسم المبارك، قدسه الله؛ لأن مدخل النبي ﷺ الله عليه وسلم، كان منه. وكان لأحد الصاعدين إليه ذلك اليوم من المصريين موقف خجله وفضيحة، وذلك أنه رام الولوج فيه على ذلك الموضع الضيق فلم يقدر بحيلة وعاود ذلك مراراً فلم يستطع حتى استوقف الناس ما عاينوه من ذلك وبكوا له إشفاقاً ولجأوا الله عز وجل في الدعاء، فلم يغن ذلك شيئاً، وكان فيهم من هو اضخم منه فيسر الله عليه. وطال تعجب الناس منه واعتبارهم.

وأعلمنا بعد انفصالنا في ذلك اليوم بأن هذا الموقف المخجل وقع لثلاثة أناس في ذلك اليوم بعينه، عصمنا الله من مواقف الفضيحة في الدنيا والآخرة.

وهذا الجبل صعب المرتقى جداً، يقطع الأنفاس تقطيعاً، لايكاد يبلغ منتهاه إلا وقد ألقى بالأيدي إعياء وكلالاً. وهو من مكة على مقدار ثلاثة أميال، وعلى ذلك القدر هو جبل حراء منها، والله تع لايخلينا من بركة هذه المشاهد بمنه وكرمه.

وطول الغار ثمانية عشر شبراً، وسعته أحد عشر شبراً في الوسط منه، وفي حافتيه ثلثا شبر، وعلى الوسط منه يكون الدخول، وسعة الباب الثاني المتسع مدخله خمسة أشبار أيضاً، لأن له بابين، حسبما ذكرناه أولاً.

وفي يوم الجمعة بعده وصل السرو اليمنيون في عدد كثير مؤملين زيارة قبر الرسول، ﷺ الله عليه وسلم، وجلبوا ميرة مكة على عادتهم، فاشتبشر الناس بقدومهم استبشاراً كبيراً، حتى إنهم أقاموه عوض نزول المطر، ولطائف الله لسكان حرمه الشريف واسعة، إنه سبحانه لطيف بعباده لا إله سواه.





تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى