حين يلفى المرء نفسه محاصرا بالأشرار من كلّ جانب بحيث يُغلقون عليه المنافذ من كل اتجاه، والشرُّ مومس لا مقاييس له، يتلفَّع بالدين إلى حدّ الإفراط المُقرف، أو بالإنسانية المُقيمة للحقّ، وأحيانا برداء المصلحة العليا للقوم ووحدتهم، وتحلُّ الطامة الكبرى إذ يغلب الجهل على النسبة الكبرى منهم؛ حينذاك على الشريف أن يحسم القرار، فإما أن يستسلم - مقتنعا أو غير مقتنع - وحشرٌ مع الإسلام عيد، كما يقال، أو أن يسبح عكس التيار الجارف مُهيِّئا نفسه لأقسى الاحتمالات التي قد تودي به إلى حد قصم الظهر، أو قطع اللوزتين.
أمَّا ( شرهان ) فقد خالف القياسين والعرف السائد ( إن لم تتحمل جارك المُسيء فعليك بالرحيل من الدار ) وهي ليست مشكلة لديه؛ ما هي إلاَّ خيمة مع الرواق يطويها على ظهر بعيره الصابر، ومتاع الراحلين دوما خفيف، كخفَّة ظل الحكماء، والعيال تابعون لرأسهم، فهي سنَّة الحياة، والرحيل عن دار يحكمها ظالم لا يخشى الأرض ولا السماء؛ هو خير من ربقة ذلٍّ لا تليق بالفرسان، فالكفُّ الواحدة
لا تصفِّق حين يختفي أنصار الحق خلف الستار، منهم طامع بالفتات، ومنهم يؤثر الصمت للنفاذ بالجلد.
تفحَّص كيسا يربطه على الهميان بكل اهتمام، مد يده وعدََّها واحدة واحدة فهو يعرفها باللمس، هذه ( حميدية ) وتلك ( رشيدية ) تلك الليرات، حسنا فعلتَ إذ اشترطت على الصائغ أن يكون عاليا العيار، عندما يشتَّد عليك الخطب فالرصيد المُنقذ إما كنز ثمين تعتاش منه، أو صديق صدوق تتكئ عليه، أو كلاهما وتلك أفضل الأحوال، وإن غادرت دارك - مُجبرا - فاترك نخلة أو بئرا لتستمر من بعدك الحياة.
تأكد ( شرهان ) أنَّ وصايا الوالد تلك قد أحكمها بقبضتيه، ودَّع المُقرَّبين، وانسلَّ في ظلمة الليل مُهتديا بالنجم القطبي، واصل الرحلة بحثا عن ( أولاد الحلال )، إن كنت هاربا من ظلم فلا تحتمي
إلا بأولاد الحلال، لأنك إن اخترت غيرهم فلن تأمن على عِرض لك، أو سمعة، أو مال، وابشر حينها كما استبشر ذلك المسكين الذي غيَّر دينه تاركا قومه المُسالمين؛ لكنه أفاق صباح اليوم الثاني ليمسح بالحائط كفيَّه؛ فلا مال، ولا حلال، ولا جاه، فأحرق داره، وهام على وجهه مُردِّدا أبياتا يحفظها كثيرون.
وهل تقرأ الكفَّ يا ( شرهان ) لتستدلَّ عليهم؟ أو مكتوب على جباههم ما تبحث عنه؟ أظنّ أنك سوف تسأل الرعاة أو تصغي لموواليهم، فالرعاة لا يخافون حين يختلون، وقد تسمع منهم أسرارا، أو فضائح عقابها قطع الرؤوس، لا هذا ولا ذاك يامرأة جفف عقلها الطبخ والنفخ فما عادت تزن الأمور بميزان؛ ليس سهلا أن نعثر على ( ابن الحلال ) في هذا الزمن الصعب، وليس صعبا أن نميِّز المعدن الثمين من الردئ، ( حكّ المعدن يظهر ألأصيل وغير الأصيل ) لا عليكِ يا بنت العم، لا عليك، الشمس
اتكأت على المسند الغربي، وسوف نمرُّ على الأحياء حيّا حيّا، فهم عند الغروب يُكثرون الدعاء لمسح ذنوب النهار؛ ويبدؤون المشاوير في ارتكاب الجديد منها عند الفجر، ومنهم من يتاجر بالأخلاق والمثل العليا وتحت عباءته ما قدَّر الله ممّا يُزكم الأنوف؛ لكنني - إن شاء الله - سأهتدي إلى من غادرت أهلي لأحظى عنده بحسن الجوار.
ألقِ رحلك، ياشرهان؛ فالحي هذا عامر بأهله، و المضيف يغصُّ بالرجال، لعلَّ نصيبنا قد ساقنا ( لأولاد الحلال ) الذين سنأمن عندهم على كلِّ غالٍ ونفيس، ألا تسمع رنَّ الهاون؟ ضرب الفناجين، النار موقدة، والخدَّام ماثلون في حضرة الشيخ، انظر كم هو تقيٌّ؛ يُقرِّب في حضرته رجال الدين، يأمر بالعدل والتقوى، ولا بدَّ أنه يتفقد الأرامل آناء الليل ليَطمَئِنَّ على نومهن هنيئا بعد فقد الرجال، لقد تحدَّث الرعاة عن أنه يحجُّ البيت كلَّ عام، وهو عادل مع الثلاث، لا ضير إن كان يروم التربيع، أظن نصيبنا قد ساقنا إلى مَن نريد، فلنبنِ هنا الدار، الدار هنا حتما ستمُسي خير الديار، ننشر السعي في المراعي، يلعب الأولاد مع الصبيان، البنات مع البنات؛ وحتما سيفرد لك الشيخ موضعا في الديوان، ويستأنس بما أوتيت من فصاحة اللسان؛ فالحكمة ليست حكمة إن هي أُلقيتْ على الجهلاء، وخير المُحدِّثين من يفهم مقدما إلى مَن يوجه الحديث، تريَّثي يامراة، بالله عليك تريَّثي، وسوف تنجلي الأمور؛ فالعاقل مَن لا يخدعه السراب، والرقص على أيِّ طبل ضرب من الجنون، هيَّا أحضري ابنتك الصغرى، وناوليني مقص القماش.
أمسك ثوب الصبيَّة فأحدث فيه بعض ( الفتوق ) وأرسلها إلى حيث اجتمع القوم، وقفت عند باب المضيف، انتفضَ ( الشيخ ) بأعلى صوته، زمجر ساخرا: ما هذا الهراء؟ أتلك هدية القادم الجديد لي، أيبعث لي ببهلوان هذا المعتوه؟ ومن كل جوارحه استغرق في ضحك طويل كادت له تنفجر وجنتاه المُحمرَّتان، جاراه فيه كلُّ الحاضرين، فعندما يقرع الدفَّ ربُّ البيت تجد أهل داره كلَّهم راقصين , وتلك سجايا المُنافقين؛ سرعان ما يردِّدون الذي يردِّد الأسياد، بوعي أم بلا وعي، وبئس القوم الذين يقهقهون ساعة يسخر منهم الزعيم، وهو لن يذرف دمعة حين عليهم تنقلب الحتوف.
عادت الصَبيَّة تجرُّ أذيال الخيبة، تجفِّف الدموع بأطراف ثوبها المُمزَّق ، تستجمع قواها لتحكي لوالدها ( شرهان ) كلَّ الذي لها جرى في مضيف الشيخ، طوى الخيمة ناويا الرحيل، فالحيُّ الذي لا يرتِّق الفتوق كبارُهُ؛ لا يستحقُّ أنْ به يُستجار، والجمع الذي يميل مع الريح تبّاً له من جمع، سيعثر حتما بأولاد الحلال، والمشوار طويل ولا يزال هناك المزيد من الأحياء؛ لكنَّه عاهد النفس ألاَّ يُجاور إلاَّ أولاد الحلال، وإن طال المَطال، فهذا مطلب عسير جدَّ جدَّه في البحث عنه، وهو ليس كمن يطلب المال، أو الحلال، أو سلعة مما يُباع ويشترى في السوق.
اجتاز الأحياء كلّها، والغربال نفس الغربال، الشيخ يستهزئ والحاضرون يقلِّدون الفعل، وفي كلّ مرّة لا تسلم الزوجة من نظرات العتاب على رأي تسرَّعت به حين حكمها على ظاهر الأمور؛ يطوي الخيمة والقرار الرحيل، كاد اليأس يغلب ما تبقَّى من فسحة للأمل في أنها لن تخلو من أهل الخير، وإلاَّ فهي من علامات الفناء، أليس هو القائل يوما : " لا تبتئِس ياشرهانُ إذا رأيت المراكب، كلَّها؛ تسير في نفس الاتجاه، واعلم حينها أن بعضا منها يُناور التيَّار في لجَّة الإعصار " وما هذا الشعور باليأس عند أهل العلم بغريب في حين أنهم يبدِّدونه عند الآخرين، والله، لُهو لغز تلك الحياة، وما أتفهه من لغز.
حثَّ الخطى نحو الحيّ القادم، تلفَّع بظلمة ليل البراري، استرق السمع، وأمعن النظر، هؤلاء قوم ليسوا كغيرهم، شيخهم يصبُّ الماء بنفسه على أيدي الضيوف، القهوة هو يسقيها، وذلك عنده فضل هو أولى به؛ لأنه صاحب الدار، وإن بدأ الحديث حكيمٌ أطبق الصمت على الحاضرين منه مُستلهمين العِبر والدروس، ولا استهزاء من جاهل أو معتوه، فالحيّ فيه العاقل، وفيه المجنون، وليس عدلا أن نختار الصالحين ونلقي الطالحين بالنار، والكلاب عندهم تجيد تمييز الخيِّرين بالشمّ، وعطايا الكرام تُمدُّ من خلف الأستار، بلا ضجيج.
استبشر ( شرهان ) خيرا فالعلامات تلك علامات الصالحين، وإن صدق الظن فهم قوم يستحقون الجوار، والجار قبل الدار، فالشاعر قبلنا قد قال : " ناري ونارُ الجارِ واحدةٌ وإليه قبلي تُنزَل القِدرُ "
دفع الصَبيَّة ذات الثوب المفتوق حيث اجتمع القوم، اتجهت نحوها الأنظار، حكيم بجانب الشيخ نهض من مجلسه، بالعباءة لفَّها، أخرج من كُمِّه ( مخيطا وخيطا ) وقام برتق فتوق الثوب وكسوة من جديد القماش كساها، ومسحة والدٍ حنون مسحَ الرأس، الحاضرون وشيخهم قد باركوا الفعل النظيف.
هيَّا اضرب خيامك ياشرهان هنا؛ فالقوم أولاءِ هم الذين عنهم بحثت، هم أولاد الحلال بلحمهم والدم، ابن الحلال هو الذي ( يرتِّق الفتوق )، ويُكسي العراة، يُخلي الطرقات من الأشواك، ويستبدل الخبائث بالطيبات، إن عاهد فلن يُخلف العهد، وإذا استُؤمِن صان الأمانات، لو اضطُرّ للنزال فلا يطعن الظهر، ولا يعطي حلاوة من طرف اللسان وزاده سمٌّ زعاف، هو أعمى حين تمرُّ أمامه الجارات، لا بالظلم يرضى وإنْ خُيِّر بين الموت والحياة.
أنزل أحمالَك، نمْ قرير العين، فالدار هذي دار خير وأمان؛ ما داموا في جيوبهم يحفظون ( المخائط والخيوط ) لرتق ما يستجدُّ من فتوق.
-إنتهت-
مديح الصادق... من العراق
أمَّا ( شرهان ) فقد خالف القياسين والعرف السائد ( إن لم تتحمل جارك المُسيء فعليك بالرحيل من الدار ) وهي ليست مشكلة لديه؛ ما هي إلاَّ خيمة مع الرواق يطويها على ظهر بعيره الصابر، ومتاع الراحلين دوما خفيف، كخفَّة ظل الحكماء، والعيال تابعون لرأسهم، فهي سنَّة الحياة، والرحيل عن دار يحكمها ظالم لا يخشى الأرض ولا السماء؛ هو خير من ربقة ذلٍّ لا تليق بالفرسان، فالكفُّ الواحدة
لا تصفِّق حين يختفي أنصار الحق خلف الستار، منهم طامع بالفتات، ومنهم يؤثر الصمت للنفاذ بالجلد.
تفحَّص كيسا يربطه على الهميان بكل اهتمام، مد يده وعدََّها واحدة واحدة فهو يعرفها باللمس، هذه ( حميدية ) وتلك ( رشيدية ) تلك الليرات، حسنا فعلتَ إذ اشترطت على الصائغ أن يكون عاليا العيار، عندما يشتَّد عليك الخطب فالرصيد المُنقذ إما كنز ثمين تعتاش منه، أو صديق صدوق تتكئ عليه، أو كلاهما وتلك أفضل الأحوال، وإن غادرت دارك - مُجبرا - فاترك نخلة أو بئرا لتستمر من بعدك الحياة.
تأكد ( شرهان ) أنَّ وصايا الوالد تلك قد أحكمها بقبضتيه، ودَّع المُقرَّبين، وانسلَّ في ظلمة الليل مُهتديا بالنجم القطبي، واصل الرحلة بحثا عن ( أولاد الحلال )، إن كنت هاربا من ظلم فلا تحتمي
إلا بأولاد الحلال، لأنك إن اخترت غيرهم فلن تأمن على عِرض لك، أو سمعة، أو مال، وابشر حينها كما استبشر ذلك المسكين الذي غيَّر دينه تاركا قومه المُسالمين؛ لكنه أفاق صباح اليوم الثاني ليمسح بالحائط كفيَّه؛ فلا مال، ولا حلال، ولا جاه، فأحرق داره، وهام على وجهه مُردِّدا أبياتا يحفظها كثيرون.
وهل تقرأ الكفَّ يا ( شرهان ) لتستدلَّ عليهم؟ أو مكتوب على جباههم ما تبحث عنه؟ أظنّ أنك سوف تسأل الرعاة أو تصغي لموواليهم، فالرعاة لا يخافون حين يختلون، وقد تسمع منهم أسرارا، أو فضائح عقابها قطع الرؤوس، لا هذا ولا ذاك يامرأة جفف عقلها الطبخ والنفخ فما عادت تزن الأمور بميزان؛ ليس سهلا أن نعثر على ( ابن الحلال ) في هذا الزمن الصعب، وليس صعبا أن نميِّز المعدن الثمين من الردئ، ( حكّ المعدن يظهر ألأصيل وغير الأصيل ) لا عليكِ يا بنت العم، لا عليك، الشمس
اتكأت على المسند الغربي، وسوف نمرُّ على الأحياء حيّا حيّا، فهم عند الغروب يُكثرون الدعاء لمسح ذنوب النهار؛ ويبدؤون المشاوير في ارتكاب الجديد منها عند الفجر، ومنهم من يتاجر بالأخلاق والمثل العليا وتحت عباءته ما قدَّر الله ممّا يُزكم الأنوف؛ لكنني - إن شاء الله - سأهتدي إلى من غادرت أهلي لأحظى عنده بحسن الجوار.
ألقِ رحلك، ياشرهان؛ فالحي هذا عامر بأهله، و المضيف يغصُّ بالرجال، لعلَّ نصيبنا قد ساقنا ( لأولاد الحلال ) الذين سنأمن عندهم على كلِّ غالٍ ونفيس، ألا تسمع رنَّ الهاون؟ ضرب الفناجين، النار موقدة، والخدَّام ماثلون في حضرة الشيخ، انظر كم هو تقيٌّ؛ يُقرِّب في حضرته رجال الدين، يأمر بالعدل والتقوى، ولا بدَّ أنه يتفقد الأرامل آناء الليل ليَطمَئِنَّ على نومهن هنيئا بعد فقد الرجال، لقد تحدَّث الرعاة عن أنه يحجُّ البيت كلَّ عام، وهو عادل مع الثلاث، لا ضير إن كان يروم التربيع، أظن نصيبنا قد ساقنا إلى مَن نريد، فلنبنِ هنا الدار، الدار هنا حتما ستمُسي خير الديار، ننشر السعي في المراعي، يلعب الأولاد مع الصبيان، البنات مع البنات؛ وحتما سيفرد لك الشيخ موضعا في الديوان، ويستأنس بما أوتيت من فصاحة اللسان؛ فالحكمة ليست حكمة إن هي أُلقيتْ على الجهلاء، وخير المُحدِّثين من يفهم مقدما إلى مَن يوجه الحديث، تريَّثي يامراة، بالله عليك تريَّثي، وسوف تنجلي الأمور؛ فالعاقل مَن لا يخدعه السراب، والرقص على أيِّ طبل ضرب من الجنون، هيَّا أحضري ابنتك الصغرى، وناوليني مقص القماش.
أمسك ثوب الصبيَّة فأحدث فيه بعض ( الفتوق ) وأرسلها إلى حيث اجتمع القوم، وقفت عند باب المضيف، انتفضَ ( الشيخ ) بأعلى صوته، زمجر ساخرا: ما هذا الهراء؟ أتلك هدية القادم الجديد لي، أيبعث لي ببهلوان هذا المعتوه؟ ومن كل جوارحه استغرق في ضحك طويل كادت له تنفجر وجنتاه المُحمرَّتان، جاراه فيه كلُّ الحاضرين، فعندما يقرع الدفَّ ربُّ البيت تجد أهل داره كلَّهم راقصين , وتلك سجايا المُنافقين؛ سرعان ما يردِّدون الذي يردِّد الأسياد، بوعي أم بلا وعي، وبئس القوم الذين يقهقهون ساعة يسخر منهم الزعيم، وهو لن يذرف دمعة حين عليهم تنقلب الحتوف.
عادت الصَبيَّة تجرُّ أذيال الخيبة، تجفِّف الدموع بأطراف ثوبها المُمزَّق ، تستجمع قواها لتحكي لوالدها ( شرهان ) كلَّ الذي لها جرى في مضيف الشيخ، طوى الخيمة ناويا الرحيل، فالحيُّ الذي لا يرتِّق الفتوق كبارُهُ؛ لا يستحقُّ أنْ به يُستجار، والجمع الذي يميل مع الريح تبّاً له من جمع، سيعثر حتما بأولاد الحلال، والمشوار طويل ولا يزال هناك المزيد من الأحياء؛ لكنَّه عاهد النفس ألاَّ يُجاور إلاَّ أولاد الحلال، وإن طال المَطال، فهذا مطلب عسير جدَّ جدَّه في البحث عنه، وهو ليس كمن يطلب المال، أو الحلال، أو سلعة مما يُباع ويشترى في السوق.
اجتاز الأحياء كلّها، والغربال نفس الغربال، الشيخ يستهزئ والحاضرون يقلِّدون الفعل، وفي كلّ مرّة لا تسلم الزوجة من نظرات العتاب على رأي تسرَّعت به حين حكمها على ظاهر الأمور؛ يطوي الخيمة والقرار الرحيل، كاد اليأس يغلب ما تبقَّى من فسحة للأمل في أنها لن تخلو من أهل الخير، وإلاَّ فهي من علامات الفناء، أليس هو القائل يوما : " لا تبتئِس ياشرهانُ إذا رأيت المراكب، كلَّها؛ تسير في نفس الاتجاه، واعلم حينها أن بعضا منها يُناور التيَّار في لجَّة الإعصار " وما هذا الشعور باليأس عند أهل العلم بغريب في حين أنهم يبدِّدونه عند الآخرين، والله، لُهو لغز تلك الحياة، وما أتفهه من لغز.
حثَّ الخطى نحو الحيّ القادم، تلفَّع بظلمة ليل البراري، استرق السمع، وأمعن النظر، هؤلاء قوم ليسوا كغيرهم، شيخهم يصبُّ الماء بنفسه على أيدي الضيوف، القهوة هو يسقيها، وذلك عنده فضل هو أولى به؛ لأنه صاحب الدار، وإن بدأ الحديث حكيمٌ أطبق الصمت على الحاضرين منه مُستلهمين العِبر والدروس، ولا استهزاء من جاهل أو معتوه، فالحيّ فيه العاقل، وفيه المجنون، وليس عدلا أن نختار الصالحين ونلقي الطالحين بالنار، والكلاب عندهم تجيد تمييز الخيِّرين بالشمّ، وعطايا الكرام تُمدُّ من خلف الأستار، بلا ضجيج.
استبشر ( شرهان ) خيرا فالعلامات تلك علامات الصالحين، وإن صدق الظن فهم قوم يستحقون الجوار، والجار قبل الدار، فالشاعر قبلنا قد قال : " ناري ونارُ الجارِ واحدةٌ وإليه قبلي تُنزَل القِدرُ "
دفع الصَبيَّة ذات الثوب المفتوق حيث اجتمع القوم، اتجهت نحوها الأنظار، حكيم بجانب الشيخ نهض من مجلسه، بالعباءة لفَّها، أخرج من كُمِّه ( مخيطا وخيطا ) وقام برتق فتوق الثوب وكسوة من جديد القماش كساها، ومسحة والدٍ حنون مسحَ الرأس، الحاضرون وشيخهم قد باركوا الفعل النظيف.
هيَّا اضرب خيامك ياشرهان هنا؛ فالقوم أولاءِ هم الذين عنهم بحثت، هم أولاد الحلال بلحمهم والدم، ابن الحلال هو الذي ( يرتِّق الفتوق )، ويُكسي العراة، يُخلي الطرقات من الأشواك، ويستبدل الخبائث بالطيبات، إن عاهد فلن يُخلف العهد، وإذا استُؤمِن صان الأمانات، لو اضطُرّ للنزال فلا يطعن الظهر، ولا يعطي حلاوة من طرف اللسان وزاده سمٌّ زعاف، هو أعمى حين تمرُّ أمامه الجارات، لا بالظلم يرضى وإنْ خُيِّر بين الموت والحياة.
أنزل أحمالَك، نمْ قرير العين، فالدار هذي دار خير وأمان؛ ما داموا في جيوبهم يحفظون ( المخائط والخيوط ) لرتق ما يستجدُّ من فتوق.
-إنتهت-
مديح الصادق... من العراق