إيفان بونين - الدروب الظليلة.. ترجمة الأستاذ الكبير: عبدالله حبه .

في جو خريفي ملبد بارد، وفي إحدى الطرق الكبرى بمحافظة تولا، التي غمرتها مياه الأمطار وشقتها خطوط سوداء من آثار العجلات الكثيرة، اقتربت من بيت ريفي طويل تشغل قسم منه دائرة البريد الحكومية، والقسم الآخر حجرة ضيافة يمكن فيها نيل قسط من الراحة أو المبيت، وتناول الغداء أو احتساء شاي السماور، اقتربت بسرعة عربة ملطخة بالأوساخ، وغطاؤها نصف مرفوع، تجرها ثلاثة خيول غير أصيلة، رُبطت ذيولها لاتقاء الأوحال، وجلس في مقعد الحوذي رجل قوي البنية يرتدي معطفا رُبط عليه الحزام بشدة، عبوس قاتم الوجه، بلحية سوداء غير كثة، يشبه قطاع الطرق في الأيام الغابرة، وفي العربة جلس عسكري عجوز منتصب القامة، يرتدي قبعة كبيرة، ومعطفًا عسكريًا رمادي اللون، من طراز عهد القيصر نيقولاي بياقة عالية من فرو القندس، وحاجباه ما برحا أسودين، لكنه بشاربين أبيضين التحما مع فودين مثلهما، وذقنه حليقة، وكل هيئته تنم عن شبه بالقيصر الكسندر الثاني، وهو النمط الذي شاع في أواسط العسكريين في عهده، ونظراته كانت متسائلة أيضًا وصارمة، وفي الوقت ذاته كليلة. حين توقفت الخيول مد من العربة ساقًا بجزمة عسكرية ملساء، وهرول نحو سطحة البيت ماسكًا طرفي معطفه بيديه ذواتي القفازين المصنوعين من جلد الغزال.
وصرخ الحوذي بفظاظة من مقعده:
- يسار، يا صاحب السعادة.
أما هو فدلف إلى المدخل، مطأطئ الرأس قليلاً عند العتبة بسبب طول قامته، ثم دخل حجرة الضيافة في الجهة اليسرى.
كان الجو في الحجرة دافئًا وجافًا ونظيفًا، ثمة أيقونة مذهبة حديثة الصنع في الركن الأيسر، وتحتها مائدة عليها غطاء نظيف من قماش کتاني خشن، وحول المائدة مصطبات مغسولة نظيفة، وبدا موقد المطبخ الذي يشغل الركن الأيمن البعيد، ناصع البياض بطلائه الطباشيري، وفي مكان أقرب من الباب ثمة ما يشبه السرير تغطيه الحفة الرمادية، يسند ظهره إلى جانب الموقد، وفاحت من كوة الموقد الرائحة الحلوة لحساء الملفوف؛ حيث كان يغلي الملفوف ولحم البقر وورق الغار.
رمی الرجل القادم معطفه فوق المصطبة، وبدا ممشوق القوام أكثر ببزته وحدها وبالجزمتين، ثم نزع قفازیه والقبعة، ومد رأسه تعباً بيد معروقة شاحبة اللون، كان شعره الأشيب المنسدل على الفودين نحو طرفي عينيه مجعدا قليلا، وبانت هنا وهناك على وجهه الطويل الوسيم ذي العينين السوداوين آثار دقيقة للإصابة بالجدري، ولم يكن هناك أحد في حجرة الضيافة، فصاح بتقزز فاتحًا الباب المؤدي إلى المدخل:
- هيه، من هناك ؟!
ومن فورها دلفت إلى حجرة الضيافة امرأة سوداء الشعر، وسوداء الحاجبين أيضا، وجميلة جمالا لا يناسب عمرها، تشبه غجرية كهلة، وثمة زغب أسود على شفتها العليا وعلى امتداد خديها، وكانت خفيفة الحركة مع أنها بدينة، بصدر ناهد يبرز تحت قميصها الأحمر، وبطن مثلث كما لدى الأوزة يتدلى وراء تنورتها الصوفية السوداء.
فقالت:
-أهلا وسهلا يا صاحب السعادة، هل تتناولون الغداء أم تأمرون بإعداد السماور؟
ألقى الرجل القادم نظرة خاطفة إلى كتفيها المدورتين، وقدميها الخفيفتين ذواتي الخفين التريين العتيقين، ورد بصورة مقتضبة وبلا اكتراث:
- السماور، هل أنتِ ربة البيت أم خادمة؟
- ربة البيت، یا صاحب السعادة.
- إذا، تتولين بنفسك شؤون المنزل.
- بالضبط ، أنا نفسي.
- ولماذا؟ هل أنت أرملة لكي تديرين شؤونه وحدك؟
- لست أرملة يا صاحب السعادة، لكن ينبغي أن يكون لي مورد للرزق، ثم إني أحب إدارة الأعمال.
- طيب، طيب، هذا حسن. المكان عندك نظيف وأنيق.
كانت المرأة ترنو إليه طوال الوقت بنظرات ثاقبة مضيفة عينيها قليلا.
فردت قائلة:
- إني أحب النظافة، فقد شببت في بيت للسادة، وكان لا بد أن أتعلم آداب اللياقة والسلوك يا نيكولاي اليكسييفيتش.
استقام بسرعة، وجحظت عيناه و اصطبغ بالخمرة، وقال بعجلة:
- ناديجدا! أنت؟
فأجابت: أنا، يا نيكولاي اليكسييفيتش.
وقال وهو يجلس على المصطبة محققا فيها بإمعان:
- يا إلهي، يا إلهي! ما كان أحد ليتصور! كم عدد السنين التي مضت دون أن نلتقي؟ أظنها خمسة وثلاثين سنة؟
- ثلاثين، یا نيكولاي اليكسييفيتش. أنا الآن في الثامنة والأربعين وأنت في الستين أو نحوها، كما أظن؟
- شيء من هذا. يا إلهي، يا للعجب!
- ما العجب يا سيدي؟
-كل شيء، كل شيء، كيف لا تفهمين ذلك؟!
فارقه التعب وشرود الفكر، وصار يذرع الحجرة بحزم، متفرسا في أرضيتها، ثم توقف وأخذ يقول وقد توردت بشرته عبر الشعر الأشيب:
-إني لا أعرف عنك شيئا منذ ذلك الحين، وكيف جئت إلى هنا؟ ولمَ لم تبقي هناك عند السادة؟
- لقد أعتقني السادة بعد قليل.
- وأین عشت فيما بعد؟
- الحديث ذو شجون، يا سيدي.
- تقولين إنك ما تزوجت؟
- لا، لم أتزوج،
- لماذا؟ وكل ما كنت عليه من جمال؟
- لم أقدر على الزواج.
- ولماذا؟ ما الذي تلمحين إليه؟
-وهل هناك ما يتطلب الإيضاح؟ لا بد أنك تذكر كم أحببتك؟
فاحمر وجهه حتى اخضلت عيناه بالدموع، ثم أخذ يذرع الغرفة، عابس مرة أخرى.
وجمجم:
- كل شيء زائل يا صديقتي، الغرام، الشباب، كل شيء، كل شيء. إنها قصة مبتذلة و عادية، وكل شيء يمضي مع السنين. ما هو المكتوب في سفر أيوب؟ «كيف تستعيد ذكرى المياه الجارية».
- لكل إنسان ما قدر له الله، یا نيكولاي اليكسييفيتش، الشباب يمضي لدى الجميع، أما الحب فأمره مختلف.
رفع رأسه متوقفة، وضحك ساخرا وبألم:
-لكن ما كان بوسعك أن تحبنيي طول الدهر!
- حسنًا، كان بوسعي، ومهما توالت الأيام، كان يملأ حياتي شيء واحد، كنت أعرف أنك تبدلت منذ أمد بعيد، وفي تقديرك كما لو لم يحدث شيء، وها أنت، لقد فات الأوان للوم والعتاب الآن، لكنك وهذا حق- هجرتني بكل قسوة، - وما أكثر المرات التي عزمت فيها على الانتحار بسبب القهر وحده، إضافة إلى أمور أخرى لن أتحدث عنها؛ إذ جاء وقت كنت أدعوك فيه، یا نيكولاي اليكسيفيتش، باسم نيكوليكن[اسم تدليل]، وأنت أتذكر كيف كنت تدعوني؟ وكنت تتلو عليّ الأشعار عن «الدروب الظليلة». أضافت هذه العبارة بابتسامة خبيثة.
فقال هازًا رأسه:
- آه، كم كنت جميلة آنذاك ! ويا لهيامك وعنفوانك ويا لفتتنك! أي قد، وأي لواحظ! أتذكرين كيف كان يرمقك الجميع؟
- أتذكر يا سيدي، وأنت كنت وسيمًا جدًا أيضًا، وأنا وهبتك كل جمالي وهيامي. كيف يمكن نسيان هذا كله؟
- أوه! كل شيء يمضي، وكل شيء يُنسى.
- كل شيء يمضي، لكن لا يُنسى كل شيء.
فقال شائحا عنها بوجهه ومقتربا من النافذة:
- انصرفي، انصرفي أرجوك.
ثم أخرج منديله وضغط به على عينيه، وأردف مغمغما
- لو يسامحني الرب فقط، أما أنت فيبدو أنك غفرت لي ذلك.
دنا من الباب، ثم توقف.
- لا، يا نيكولاي اليكسييفيتش، لم أغفر لك، وما دام الحديث قد مس مشاعرنا، فإني أقول بصراحة: ما كان بوسعي أن أغفر لك ذلك أبدًا، وكما لم يكن لدي في تلك الأيام أحد أعز
عليّ في الدنيا منك، بقيت هكذا فيما بعد، ولهذا لا يجوز لي أن أصفح عنك، وما نفع الذكرى والأموات لا ينبشون من القبور؟
فأجاب مبتعدًا عن النافذة، وقد لاحت على وجهه الصرامة:
- نعم، نعم لا فائدة، أعطي الأمر بإعداد الخيول، إلا أنني أقول لك: لم أكن سعيدا في حياتي أبدًا، ولا تتصوري، رجاء، واعذريني إن كنت أسيء إلى عزة نفسك، لكني أقول بصراحة لقد كلفت بزوجتي إلى حد الجنون، إلا أنها خانتني، وهجرتني مهانة أكثر مما جلبت لي من إهانة، و أحببت ابني إلى حد العبادة حتى شب، وما أكثر ما علقت عليه من آمال! فإذا به سافل و مبذر وصلف وبلا شرف و بلا ضمير ... على أي حال، إنها قصة عادية جدا ومبتذلة أيضًا، مع السلامة يا صديقتي الطيبة، أظن أنني فقدت فيك أعز شيء في الحياة.
دنت منه و بينما لثمت يده، لثم هو يدها أيضا.
- أعطي الأمر.
حين ابتعدت العربة عن المكان صار يفكر بتجهم:
«نعم، يا لجمالها آنذاك ! ويا لسحرها!»
استعاد بشعور الخزي عبارته الأخيرة وكيف لثم يدها، وأصابه الخزي لخزيه من فوره، «وهل جافيت الحقيقة، أولم تهبني خيرة لحظات العمر؟».
مالت الشمس الشاحبة إلى المغيب، وكان الحوذي يستحث الخيول، وما برح يغير الخطوط السوداء لآثار العربات، منتقيًا الطريق الأقل قذارة، وقد غاص في أفكاره أيضًا.
- إنها يا صاحب السعادة كانت تراقبنا طوال الوقت من النافذة عندما غادرنا، هل عرفتموها منذ زمن بعيد؟
-نعم، يا کلیم.
-إنها امرأة ذكية، ويقال إنها تزداد ثراءا، و تقرض المال بالربا.
-هذا لا يعني شيئا.
- كيف لا يعني شيئا؟! فمن لا يود العيش أفضل! لو حكمنا الضمير، فلا ضير في هذا.
ويقال: إنها منصفة من هذه الناحية، إلا أنها صارمة! فإن لم تستطع الدفع في الوقت المطلوب فأنت الملام.
- بلی، بلی، أنت الملام، أسرع رجاء ؛ لكي لا نتأخر على القطار.
كانت الشمس الصفراء الجانحة إلى المغيب تثير فوق الحقول الجرداء، والخيول تغوص متخبط في برك الأوحال، تطلع إلى الحدوات ذات الوميض، ورفع حاجبيه السوداوين،
واستغرق في التفكير:
- نعم، أنت الملام. نعم، لا شك، خيرة اللحظات، وليست أفضلها فقط، بل إنها كانت ساحرة حقا!. « أزهار الورد البري متفتحه حواليك، وتمت الدروب الظليلة لأشجار الزيزفون...».
لكن، يا إلهي، ما الذي كان سيحدث لاحقًا؟ ماذا لو لم أهجرها؟ أية سخافة أن تصبح ناديجدا هذه صاحبة النزل، زوجتي، وربة بيتي في بطرسبورج، وأم أبنائي؟!»
وأغمض عينيه، وهز رأسه.

20 أكتوبر 1938


~تمت~

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى